مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 08/06/1990

عجباً لمن ينتقي من الإسلام زاوية يصبغ نفسه بها

لحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أما بعدُ فيا عبادَ الله:

إنَّ من أبرزِ صفاتِ هذا الدّينِ الذي شرّفَ اللهُ بهِ عبادهُ أنّهُ دينُ الوسطيّةِ ودينُ العدل، وكلُّنا قرأ قولَ اللهِ عزَّ وجلّ: ((وكذلكَ جعلناكم أمّةً وسطاً لتكونوا شهداءَ على النّاسِ ويكونَ الرّسولُ عليكم شهيداً)). وكلُّنا قرأ الآياتِ التي تصفُ الإسلامَ بأبرزِ صفةٍ من صفاته، ألا وهيَ صفةُ العدل.

فلا تُصَبُّ الأوامرُ مهما اختلفت والنّواهي مهما اختلفت إلا في معينِ الدّعوةِ إلى العدل، وما هو العدل؟ العدلُ هو الابتعادُ عن طرفي الإفراطِ والتّفريط من خلالِ محورِ الوسطيّة الذي يشكّلُ بعداً واحداً بالنّسبةِ لسائرِ الأطرافِ المحيطةِ بهذا المحور. هذا هو دينُنا الذي شرّفنا اللهُ سبحانهُ وتعالى به.

وفائدةُ هذا الدّينِ في حياتنا الدّنيا: أن يركنَ الإنسانُ منهُ إلى هذهِ المائدةِ التي دعانا إليها اللهُ سبحانهُ وتعالى، فإذا ركنَ إليها وجدَ نفسهُ وقد أعطى لكلِّ ذي حقٍّ حقّه. إذا ركنَ الإنسانُ إلى مائدةِ الإسلام وخضعَ لدينِ اللهِ عزَّ وجلَّ وتعاليمه. أعطى لعقلهِ حقّهُ وغذاءه، أعطى لوجدانهِ وعواطفهِ حقّهما وغذاءَهما، أعطى لغرائزهِ الإنسانيّةِ البشريّة حقّها وغذاءها، أعطى لمن يلوذُ بهِ حقّهُ وغذاءه، أعطى للمجتمعِ الذي هو جزءٌ منهُ حقّهُ وغذاءه، ووزنَ ذلكَ كلّهُ في ميزانِ الإٍسلام حتّى لا يأتي حقٌّ أرجحَ من حقّ، وحتّى لا يأتيَ حقٌّ لجهةٍ أنقصَ من حقٍّ لجهةٍ أخرى. هذا هو الإسلام، فهل طبّقنا الإسلامَ على هذا النّحو؟

إنَّ آفةَ المسلمين الذينَ يتّجهونَ إلى الإسلامِ - ولا أتحدّثُ عمنّ يعرضُ عن الإسلام -: أنّهم ينتقونَ منهُ ما يطيبُ لهم، وما يتّفقُ مع شهواتهم ورغائبهم أو غرائزهم، وهكذا فإنّهم يتخلّصونَ من إفراطٍ ليقعوا في إفراطٍ آخر.

فئةٌ من النّاس يطيبُ لها أن تختارَ من الإسلامِ عباداته، فهي تركن منهُ إلى هذه العبادات، وهي بسببِ ذلكَ تنطلقُ إلى لونٍ من التّطرّفِ نهى عنهُ اللهُ سبحانهُ وتعالى.

وفئةٌ أخرى تختارُ من هذا الإسلامِ أفكارهُ ومعارفهُ وعلومه مبتعدةً عمّا أمرَ اللهُ سبحانهُ وتعالى بهِ من أذكارٍ وعبادات، تنطلقُ هذه الفئةُ الأخرى إلى لونِ آخرَ من التّطرّف.

فئةٌ أخرى تلتقطُ من الإسلامِ ما يتّفقُ ورغائبَها، وما يتّفقُ وظروفَها، وما يحقّقُ لها المغانمَ ويبعدُها عن المغارم، فهي عاكفةٌ من الإسلامِ على هذا الجانب الذي يحقّقُ لها حظّاً وفيراً ويبعدُها عن التّحمّل ويبعدُها عن كلِّ ما لا ترتضيهِ من المغارم. هذا لا يرضي اللهِ عزَّ وجلَّ أبداً.

الذي يرضي الله: أن نأخذَ الإسلامَ مزيجاً متكاملاً على النّحوِ الذي أمرَ اللهُ عزَّ وجلَّ به، لا نعطي قسماً حقّاً أكثرَ من القسمِ الآخر، المسلمُ يجبُ أن يعلم أنَّ الإلهَ الذي أمرَ في محكمِ كتابهِ النّاسَ بالحجِّ وقال: (وللهِ على النّاسِ حِجُّ البيتِ من استطاعَ إليهِ سبيلاً) هو ذاك الإله الذي قالَ أيضاً في محكمِ كتابه: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكونَ تجارةً عن تراضٍ منكم). وهو ذاته الإلهُ الذي أمركَ بالحجّ، هو الذي قال أيضاً في محكمِ كتابه: (ويلٌ للمطفّفين * الذينَ إذا اكتالوا على النّاسِ يستوفون * وإذا كالوهم أو وزنوهم يُخسرون * ألا يظنُّ أولئكَ أنّهم مبعوثون * ليومٍ عظيم). هذا الإله ذاتهُ هو الذي قال: (يا أيّها الذينَ آمنوا اتّقو اللهَ وذروا ما بقيَ من الرّبا إن كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحربٍ من اللهِ ورسوله * فإن تبتم فلكم رؤوسُ أموالكم لا تَظلِمونَ ولا تُظلَمون). هذا الإلهُ الذي أمرَ بالحجِّ وأمرَ بالصّلاةِ وأمرَ بالصّيام، هو الذي قالَ أيضاً في محكمِ كتابه: (يا أيّها النّبيُّ قل لأزواجكَ وبناتكَ ونساءِ المؤمنينَ يدنينَ عليهنَّ من جلابيبهنّ ذلكَ أدنى أن يُعرفنَ فلا يؤذَينَ). هذا الإله الذي أمرَ بهذا كلّه هو الذي قالَ في محكمِ كتابه: (وأنكِحوا الأيامى منكم والصّالحينَ من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراءَ يُغنِهمُ الله من فضله). هذا الإله الذي أمرَ بهذا وذاك هو الذي عادَ فقال: (يا أيها الذينَ آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظّنِّ إنَ بعضَ الظّنِّ إثم ولا تجسّسوا ولا يغتب بعضُكم بعضاً أيحبُّ أحكم أن يأكلَ لحم أخيهِ ميتاً فكرهتموه).

ما الإسلامُ إذاً أيّها الإخوة؟ الإسلامُ جذعٌ يتمثّلُ في الاعتقادِ بأنَّ الإنسانَ عبدٌ وأنَّ خالقَ هذا الكونَ ربّ، وأن لا ربَّ سواه. ثمَّ فوقَ هذا الجذعِ أغصان شتّى كلُّها متكاملة، إن أخذتَ بغصنٍ منها دونَ غصن أوصلكَ ذلكَ إلى تصرّفٍ ينأى عنهُ الدّينُ ويبغضهُ ربُّ العالمين. وإنما عليكَ أن تسيرَ أنّى هداكَ هذا الجذع، والجذعُ يهديكَ إلى هذه الأغصانِ كلِّها، هذه الأغصانُ التي تغذّي حقوقكَ مع أهلك، حقوقكَ مع أولادك، حقوقَكَ مع جيرانك، حقوقَكَ مع النّاسِ في السّوق، حقَّ التّعاملِ مع الآخرينَ بالمال -بالدّرهمِ والدّينار-.

هذه الحقوقُ التي تمتدّ إلى رقابةِ اللهِ سبحانهُ وتعالى، إلى الخوفِ من عذابِ اللهِ سبحانهُ وتعالى، إلى مزج الدّنيا بالآخرة، واستخلاصِ ترياق من هذا المزج يوصلُكَ إلى اللهِ سبحانهُ وتعالى.

فالإسلامُ لا يأمركَ أن تنفضَ يديكَ من الدّنيا وتلحقَ بالآخرة لأنّكَ لن تنالَها إلا على جسر من الدّنيا. ولا يأمركَ اللهُ بأن تتقوقعَ في الدّنيا وتقطعَ ما بينَك وبينَ اللهِ صلةَ الآخرةِ وصلةَ الوصولِ إليه، لأنَّ هذه الدّنيا تخنقك، ولأنَّ هذه الدّنيا تشقيكَ ولن تسعدك. الإسلامُ حقوق متكاملة.

عجبي لا ينتهي من أناسٍ يصبغون أنفسهم بالإسلامِ من زاويةٍ واحدةٍ من زواياهُ التي تبلغُ العشرات. ما هي هذه الزّاوية التي يربطُ نفسهُ بالإسلامِ كلِّهِ من خلالها؟ زاويةُ الحجِّ مثلاً إلى بيتِ اللهِ الحرام: كلّما جاءَ هذا الموسم يظنَّ الرّجل أنَّ العواطف تشرئب وتتوقّدُ بينَ جوانحه، وأنَّ حبّهُ لبيتِ اللهِ ولذكرى رسولِ الله يقيمهُ ولا يقعدُه، ولا بدَّ أن يرحلَ مع الرّاحلينِ إلى هناك. وفي بيتهِ شبابٌ بلغوا مبلغ الزواج وهم في حاجةٍ إلى أن يتزوجوا يعرضُ عنهم، نزواتهم تبلغُ أذنيه، بشكلٍ مباشرٍ أو غيرِ مباشر، ولكنَّ حبّهُ للهِ فيما يزعم وشوقهُ لبيتِ اللهِ فيما يزعم يحجبُ سمعهُ عن الإصغاءِ إلى زفرات أولاده. أيُّ دينٍ هذا؟ من ذا الذي قال: إنَّ هذا الحجّ يقرّبُ هذا الإنسانَ إلى اللهِ شروى نقير؟

عجبي من أناسٍ أرادوا أن يصطبغوا من الدّينِ بزاويةٍ أخرى من زواياه، ألا وهي زاويةُ الأخلاق. يقولُ ويكرّر كلامَ المصطفى عليهِ الصّلاةُ والسّلام: "إنّما بُعِثتُ لأتمّمَ مكارمَ الأخلاق". ثمَّ يتفلسف قائلاً: هل أمرَنا اللهُ بالصلاة إلا لنتخلّقَ بالأخلاقٍ الفاضلة؟ وهل أمرنا اللهُ بالصّومِ والحجّ إلا لكي نهذّبَ نفوسنا ونتسامى إلى صعيدِ الأخلاقِ الفاضلة؟ إذاً فسيّانِ أن نصلّيَ أو لا نصلّي، أن نصومَ أو لا نصوم إذا تخلّقنا بالأخلاقِ الفاضلة. أيُّ فلسفة هذه؟

هذه زاوية من زوايا لإسلام لابدَّ تتمتّعَ بها وتصطبر. والإسلامِ زوايا عدّة، بل أقولُ كما قلت: الإسلامُ مائدةٌ عامرة رُصفت فوقها أطباقٌ شتّى، وكلُّ طبقٍ فيهِ غذاءٌ لجانبٍ مستقلٍّ من كيانك، ولا يصبحُ كيانُكَ كمجموع إلا أن تتناولَ من هذه الأطباقِ كلِّها.

من الذي قال: إنَّ أخلاقَ الإنسانِ تستقيم دون مثول في محرابُ العبوديّةِ للهِ صلاةً صياماً حجّاً ذكراً تبتلاً. صحيح أنَّ هذه العباداتِ وسائل، ولكنَّ الذي لا يتّخذُ الوسيلة لن يصلَ إلى الغايةِ أبداً.

الإسلامُ أيّها النّاس دينٌ متكامل لا يمكنُ للإنسانِ إن بدأ منهُ بجمعِ العقيدة إلا أن يغنى بأفكارهِ كلِّها، ولكنَّ الذي يقفزُ منهُ فوقَ جذعِ العقيدة لا يصطبغُ بمعنى عبوديّتهِ لله، لا يدركُ معنى وحدانيّةِ اللهِ عزَّ وجلَّ ربّاً وخالقاً، ثمَّ يطيحُ بينَ هذه الأغصان فإنَّ هذا الإنسانَ فعلاً ينتقي من أغصانِ الفروعِ الإسلاميّةِ ما يطيبُ له. هذا يطيبُ لهُ أن يكرّرَ الحجَّ إلى بيتِ اللهِ الحرام، وذلكَ يطيبُ لهُ أن يغشى مجالسَ الذّكر يذكرُ اللهَ مترنّحاً يهزَّ رأسهُ آناً ذاتَ اليمينِ وآناً ذاتَ الشّمال، وهذا يطيبُ لهُ أن يكثرَ الصّلاة، وذاكَ يطيبُ لهُ أن يتحدّثَ عن علومِ الإسلام والأفكارِ الإسلاميّةِ والشّرائعِ الإسلاميّةِ وما خلّفهُ الإسلامُ من تراثٍ عظيم، كلٌّ يأخذُ منهُ بزاوية والكلُّ بعيدٌ عن حقيقته. والكلُّ فقيرٌ إلى جوهره، لأنَّ الإسلامَ هو هذا الجذع، فمن استمسكَ بهِ غني بأغصانهِ كلِّها، ومن قفز إلى غصنٍ من أغصانهِ اندقَّ بهِ ووقعَ وقد شُقّت رأسهُ وشقيَ في حياتهِ الدّنيا والآخرة.

أسألُ اللهَ سبحانهُ وتعالى أن يبصّرنا بحقيقة الإسلام وأن يذوّقنا معنى الوسطيّة التي وصفَ اللهُ سبحانهُ وتعالى بها إسلامه ومن ثمَّ وصفنا نحنُ المسلمينَ بهذه الوسطيّة. أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي