مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 20/04/1990

الإخلاص .. روح الطاعات

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

إنَّ الإنسانَ السّاذجَ الذي يقدّرُ الأمورَ ببصره ينظرُ إلى البناءِ الشّامخِ فيحسِبهُ قائماً على أدوارهِ وطبقاتهِ وحجارتهِ المتراصفةِ المتلألئة. ولكنَّ العاقلَ الذي يدركُ خفايا الأمورِ يعلمُ أنَّ هذا البناءَ لا يمسكهُ إلا سرٌّ خفيٌّ في باطنِ الأرض، ذلكَ السّرُّ هو الذي يسمّى الأساس. وهي سنّةٌ من سننِ اللهِ الماضيةِ في الكون: بقاءُ الشّيءِ لا يكونُ بمظهره وإنّما يكونُ بسرّه أيّاً كانَ هذا الشّيء من أشياءِ الدّنيا أو من أشياءِ الآخرة، وحديثُنا عن الآخرةِ وخطى الإنسانِ في هذه الدّنيا إلى الله، والطّاعاتِ والقُرُباتِ التي يتقرّبُ بها ويؤدّيها بينَ يدي مولاهُ وخالقهِ عزَّ وجلّ. ما الذي يفيدُني من قُرُباتي؟ أهو مظاهرُ هذه القُرُبات؟ مظاهرُ هذه الكلماتِ التي أقولُها لكم؟ أم هنالكَ سرٌّ خفيٌّ هو الذي يدنيني إلى الله؟ وهو الذي يقرّبني إليه؟ إنَّ مردَّ ذلكَ إلى السّرِّ الخفيّ، لا إلى المظهرِ المرئيّ، والسّرُّ الخفيُّ هنا إنّما هو الإخلاصُ لوجهِ اللهِ سبحانهُ وتعالى..

بالإخلاصِ تسري روحُ الطّاعاتِ في مظاهرها، وبفقدِ الإخلاص أو بدخولِ العكرِ وشوائبِ الأهواءِ والشّهواتِ والأغراضِ والأمزجةِ والمصالح تتقاصرُ هذه الطّاعاتُ عن أداءِ مقاصدِها، فليتَ أنّنا إذ نسعى إلى اللهِ سبحانهُ وتعالى بأعمالنا الظاهرة، وبقرباتنا المكشوفةِ الواضحة، ليتَ أنّنا نتحسّسُ مكانَ الإخلاصِ للهِ بينَ جوانحنا، وليتَ أنّنا إذ غفلنا عن هذا الأساس ذكّرتنا بهِ آياتٌ في كتابِ اللهِ عزَّ وجلّ، وما أكثرَ ما يذكّرنا بذلكَ في كلامِ اللهِ عزَّ وجلّ، لقد قرأتم جميعاً أو سمعتم قولَ اللهِ عزَّ وجلّ: ((وما أُمروا إلا ليعبدوا اللهَ مخلصينَ لهُ الدّين)). وقرأنا جميعاً قولَ اللهِ وتعالى: ((قل إنّما أنا بشرٌ مثلكم يوحى إليَّ أنّما إلهكم إلهٌ واحدٌ فمن كانَ يرجوا لقاءَ ربّهِ فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادةِ ربّهِ أحداً)).

مظهرُ البناءِ هو العملُ الصّالح، وأساسهُ الخفيُّ هو الإخلاصُ الذي عبّرَ عنهُ البيانُ الإلهيُّ بقولهِ عزَّ وجلّ: ((ولا يشرك بعبادةِ ربّهِ أحداً)). لا يُدخِل إلى هذا العملِ مزاجاً من أمزجته، ولا شهوةً من شهواته، ولا غرضاً من أغراضه. إنَّ هذا العملَ وإن كانَ قليلاً في مظهرهِ فما أسرعَ ما يوصلُ صاحبهُ إلى ربّهِ وخالقهِ وهو عنهُ راضٍ، ولكنَّ الأعمالَ مهما كَثُرت ومهما تضاعفت ومهما أنفقَ الإنسانُ وقتهُ وجهده ذاهباً آيباً، ولكنَّ أعمالهُ كانت خليّةً عن الشّركِ الخفيِّ، فإنَّ هذه الأعمالَ واللهِ لا تقرّبُ صاحبها إلى اللهِ شروى نقير.

بالإخلاصِ لوجهِ اللهِ يدخلُ كلامُ النّاصحِ للقلوب، وبالإخلاصِ لوجهِ اللهِ سبحانهُ وتعالى تجتمعُ وتتآلفُ النّفوس، ولا تبقى مظاهرُ فرقةٍ أو تدابرٍ بينَ الجماعات، وبالإخلاصِ لوجهِ اللهِ سبحانهُ وتعالى يتجلّى اللهُ سبحانهُ وتعالى على عبادهِ بالرّحمةِ والغفران، وبالإخلاصِ للهِ عزَّ وجلّ يختفي الجدلُ والشّحناء، وبالإخلاصِ لوجهِ اللهِ سبحانهُ وتعالى تذوبُ مشكلاتُ المسلمينَ الاجتماعيّةُ منها والاقتصاديّةُ أيّاً كانَ نوعُها وأيّاً كانَت أسماؤها.

ولئن كنّا فقدنا في هذا العصرِ أعزَّ ما نملك، بل أعزَّ ما ملّكنا اللهُ إيّاهُ إذ شرّفنا بهذا الدّين، فأصدقكُمُ القول أنّنا إنّما فقدنا هذا السّر، فقدنا الإخلاصَ للهِ سبحانهُ وتعالى، فقدناهُ عندما نتكلّمُ لنعرِّفَ النّاسَ بالإسلامِ وندعوَ إليه، وفقدناهُ عندما نسمعُ ونصغي إلى هؤلاءِ الذينَ يتكلّمون. أمزجتُنا هي التي تدفعُنا إن تكلّمنا وإن سمعنا. فيالله، كيفَ يصلُ الإنسانُ إلى اللهِ وهو محجوبٌ عنهُ بأمزجته؟ نعم، لا يمكنُ أن يرحلَ الإنسانُ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ وهو مكبّلٌ بشهواتهِ وأهوائهِ كما قالَ ابنُ عطاءِ اللهِ في حكمه. نعم.

كيفَ يمكنُ للإنسانِ أن يدخلَ ملكوتَ اللهِ سبحانهُ وتعالى وهو لم يتطهّر من شهواتهِ وأهوائهِ وفيحِ نفسهِ إذ تتسرّبُ إلى أعمالهِ وأقواله. وليستِ المصيبةُ على كلِّ حالٍ هنا، إنّما المصيبةُ الأطمّ أن يكونَ أحدُنا على هذه الحال ثمَّ لا يكتشفَ حالَه. المصيبةُ أن أتكلّم وشهواتي هي التي تدفعُني إلى الكلام، ثمَّ إنّني لا أحسُّ بأنَّ شهواتي هي التي تنطقني، وأنَّ مزاجي هو الذي يدفعني. المصيبةُ الأدهى: أنّنا عندما نسمع وننصت، ننصتُ بآذانٍ ملؤها موازينُ الشّهواتِ والأهواءِ والأمزجةِ والرّغبات، ولكن ليتَ أنّا شعرنا بأنَّ هنالكَ شيئاً قد تسرّبَ إلى مكمنِ الإخلاصِ في نفوسنا، فإنَّ الدّاعيَ إذا تشخّص من اليسيرِ أن يبحثَ لهُ صاحبهُ عن دواء، لكن ماذا تفعلُ بداءٍ لم يستطع صاحبهُ أن يشعرَ بهِ ومن ثمَّ لم يسعَ إلى تشخيصه؟

أسألُ اللهَ سبحانهُ وتعالى أن يرزقنا نعمةَ الإخلاصِ لوجهه، وقد وردَ في الأثرِ أنَّ الإخلاصَ سرٌّ من أسرارِ اللهِ عزَّ وجلَّ يودعهُ اللهُ في قلبِ من أحبَّ من عباده، فاللهمَّ لا حيلةَ لنا. والأمرُ على هذه الشّاكلة، إلا أنّ نتضرّعُ إليكَ أن تحبّنا وأن تكلأنا بلطفكَ وبرحمتكَ حتّى يسريَ هذا السّرُّ من خلالِ هذا الحبِّ إلى قلوبنا.

وبعدُ أيّها الإخوة، فقد بقيت أيّامٌ معدوداتٌ من هذا الشّهرِ المبارك، أعيذُكم بالله أن تعبّروا عن احتفائكم ببقايا هذه الأيّامِ من هذا الشّهر المبارك بكسلٍ كما أراهُ في كلِّ عام، بعدَ أن تمتلئَ المساجدُ بالمصلّين يتناقصُ المصلّونَ رويداً رويداً، لأنّهم كانوا في أوّلِ الشّهرِ نشيطين، فلمّا أصبحَ الزّمنُ في آخرهِ شعروا بالكسلِ وشعروا بالملل، إذاً لم يكن الشّيءُ الذي يدفعُنا محبّةً للهِ عزَّ وجلّ وإخلاصٌ لوجهه، ولكنّهُ مزاجٌ ونشاط، ونشاطُ الإنسانِ يخضعُ لنواميسِ النّفسِ ولطبيعةِ الذّات، أمّا لو كانَ النّشاطُ منزّلاً من عندِ اللهِ عزَّ وجلّ: سرّاً من أسرارِ الإخلاص، فإنَّ الإنسانَ كلّما خطا إلى اللهِ كلّما ازدادَ نشاطا، وكلّما ازدادَ شعوراً بلذّةِ العبادة كلّما ازدادَ فيها إمعاناً.

في هذه الأيّامِ ليلةُ القدر، وفي هذه الأيّامِ يتضاعفُ الإقبالُ على اللهِ عزَّ وجلّ، وفي هذه الأيّام ينادي داعي اللهِ سبحانهُ وتعالى الإنسانَ أن يلوّنَ من ألوانِ طاعاتهِ وقرباتهِ إلى الله، وأن لا يحصرها في نوعٍ واحدٍ كالصّلاةِ والصّيامِ مثلاً، بل يريدُ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ منا في هذا الشّهر أن نفتحَ أيدينا ليندلقَ المالُ منه إلى جيوبِ المحتاجين، إلى جيوبِ الفقراء، يطّلعُ اللهُ عزَّ وجلَّ علينا ويراقبنا، يبتلي اللهُ سبحانهُ وتعالى الغنيَّ بالفقير والفقيرَ بالغنيّ. ترى ماذا يصنعُ الأغنياءُ وقد ابتلاهمُ اللهُ بالمال؟ ماذا يصنعُ الفقراءُ وقد أمرهمُ اللهُ سبحانهُ وتعالى بالتّعفّف، وهذا الشّهرُ ينادي..

أيّها النّاس، واللهِ لو أنَّ أحدكم خرجَ من مالهِ لضاعفَ اللهُ سبحانهُ وتعالى لهُ مالَهُ كلّه، ولا يمكنُ لإنسانٍ أن يجاريَ اللهَ في الكرم، أو أن يسابقهُ في عطاء. كيف وهو القائل: ((منذا الذي يقرضُ اللهَ قرضاً حسناً فيضاعفَهُ لهُ أضعافاً كثيرة))؟ ولكنَّ الأمرَ كما قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ: ((وأُحضِرَت الأنفسُ الشُّحّ)).

أسألُ اللهَ عزَّ وجلّ أن يهبنا من حُرقةِ الإخلاص ما يقطعُ صلتنا بهذا الشّح ويصلُ أفئدتنا ثقةً باللهِ سبحانهُ وتعالى، ويجعلُنا نطمئنُّ أنَّ خزائنَ اللهِ عزَّ وجلَّ مفتوحة، نعم.

اجعلوا من هذا الشّهرِ مثابةً لقربةٍ من هذا النّوع، على التّاجرِ أن يجعلَ تجارتهُ في هذا الشّهرِ موسماً بينهُ وبينَ الله، لا موسماً بينهُ وبينَ عبادِ اللهِ سبحانهُ وتعالى، على كلِّ إنسانٍ وهو يريدُ أن يدفعَ زكاةَ ماله أن لا يعتصرَ ذهنهُ ليحتالَ على الله: كيفَ أدفعُ زكاةَ مالي لابني أو لفلانٍ أو لفلانٍ؟ وهو يدفعُ لهُ شاءَ أم أبى..

ادفعها كما أمرَ الله، أخرجها على النّهجِ الذي شرعهُ الله، واذكر وأنتَ تفعلُ ذلكَ قولَ اللهِ عزَّ وجلّ: ((لن تنالوا البرَّ حتّى تنفقوا ممّا تحبّون وما تنفقوا من شيءٍ فإنَّ اللهَ بهِ عليم)).

من هذا الذي يتوخّى أن يكرمهُ اللهُ بمغفرةٍ وهو يلملمُ من مالهِ أسوأه ثمَّ يبعثهُ إلى الفقراءِ والمحتاجين؟ واللهِ إنَّ هذا ليذكّرني بحيلِ بني إسرائيل يومَ منعهمُ اللهُ عزَّ وجلَّ عن الصّيدِ يومَ السّبت، فاحتالوا على اللهِ بما علمتم من الحيل، فكانَ مكرُ اللهِ سبحانهُ وتعالى أشدَّ من مكرهم.

اللهمَّ لا تبتلنا، اللهمَّ إنّا نعوذُ بكَ من مكرك، اللهمَّ اقطع دابرَ الشّحِّ في نفوسِنا، اللهمَّ اجعلنا ممّن يضحّي بدنياهُ في سبيلِ مرضاتك، أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيم...

تحميل



تشغيل

صوتي