مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 23/02/1990

سد باب فتنة أولى من حقوقك التي متعك الله بها

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

إنَّ اللهَ سبحانهُ وتعالى أتمَّ على العبادِ نعمتهُ العظمى عندما توّجَ لهم هذه النّعمَ بالإسلام، وقد وضحَ ذلكَ جليّاً في قولهِ عزَّ وجلّ: ((اليومَ أكملتُ لكم دينكم و أتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكمُ الإسلامَ ديناً)). فقد ربطَ اللهُ سبحانهُ وتعالى برباطِ التلازم بينَ تمامِ النّعمةِ وتمامِ الدّين، ولولا الإسلامِ لما استقرّتْ للإنسانِ نعمةٌ على وجهِ الأرض. وحسبُنا في هذا قولُ اللهِ عزَّ وجلّ: ((يا أيّها الذينَ آمنوا استجيبوا للهِ وللرّسولِ إذا دعاكم لما يحييكم)). وصفَ اللهُ سبحانهُ وتعالى الإسلامَ بأخصِّ صفاتهِ وأبرزِ ما فيهِ من نعمٍ عظيمةٍ للإنسان، ألا وهو الحياة. فالإسلامُ هو معينُ الحياةِ السّعيدةِ الرّغيدة، وبدونِ الإسلام لن يسعدَ الإنسانُ قَطْ. والمصلحةُ التي أكرمنا اللهُ عزَّ وجلَّ بها من خلالِ هذا الدّين مصلحتان: أولاهما دنيويّة، والثّانيةُ أخرويّة.

المصلحةُ الدّنيويّةُ وهي الأولى منهما بالنّسبةِ للتّنفيذِ الزّمنيّ تتجمّعُ في مصلحةٍ أساسيّةٍ واحدة: هي توحيدُ الأسرةِ الإنسانيّة، ولمِّ شملِ النّاس، وربطهم برباطِ الألفةِ والمودّةِ والتّضامن. ولا أعلمُ أنَّ هنالكَ ثمرةً أجلَّ وأعظم من ثمارِ المصالحِ الدّنيويّةِ التي حقّقها الإسلام، لا أعلمُ أنَّ هنالكَ ثمرةً أجلَّ وأعظم من ثمرةِ توحيدِ الإسلامِ للمسلمين، ونقلهم من الشّتاتِ والتّفرّقِ والتّدابرِ إلى التّضامنِ والتّكافلِ والتّوادِّ والتّحابُب. ولا أعلمُ منّةً امتنَّ اللهُ عزَّ وجلَّ بها على عباده، وذكّرهم بعظمها وخطورتها وأهمّيّةِ شأنها كنعمةِ توحيدِ اللهِ سبحانهُ وتعالى إيّاهم عن طريقِ الإسلام، وتأليفهِ لقلوبهم عن طريقِ الدّخول في دينِ اللهِ سبحانهُ وتعالى، وكلّكم يقرأُ في هذا قولَ اللهِ عزَّ وجلّ: ((واعتصموا بحبلِ اللهِ جميعاً ولا تفرّقوا واذكروا نعمةَ اللهِ عليكم إذا كنتم أعداءً فألّفَ بينَ قلوبكم فأصبحتم بنعمتهِ إخواناً)). انظروا إلى هذا الأسلوبِ من التّمنّن، يمتنُّ اللهُ عزَّ وجلَّ بهذا الكلامِ على عباده، بنعمته. ونعمُ اللهِ كثيرة. ولكن ما رأيتُ نعمةً يذكّرُ الله عباده بفضله عليهم بها كما يذكرهم بفضله عليهم بهذا التأليف وهذا الجمع وهذا التوحيد بعد شتات وفساد.

إذاً فأجل ثمرة من أجل المصالح الانسانية الدنيوية التي يحققها الإسلام للناس، إنما هو التوحيد بعد الشتات، والود بعد التدابرِ والعدوان. وكل المصالح الأخرى تتفرع عن هذه المصلحة، فالقوّة إنما هي فرع لوحدة الأمة، والعزة إنما هي ثمرة لوحدة الأمة، والعزة إنما هي ثمرة لتآلف الأمة، وغناها إنما هي ثمرة لوحدتها وتضامنها وتآلفها. وإذا تحولت وحدة الأمة الى انكاث وضياع وشتات، فلن تجد لهذه الأمة بعد ذلك غنى ولا قوةً ولا عزة ً ولا هيبة ً في قلوب الأعداء. فهل يمكن أيها الناس أن تحقق الأسرة الإنسانية لنفسها هذه الوحدة إلا من خلال هذا الدين؟ هل يمكن للأسرة الإنسانية أن تذيب عداواتها وخلافاتها وتتحول فعلاً إلى أسرة إنسانية يشيع فيما بين أعضائها الود، إلا إن دخلت في بوابة العبودية لله عز وجل واصطبغت في دين الله سبحانه وتعالى.

أظن أنا إن تأملنا يسيرا ًعرفنا أن لا سبيلاً قط أياً كان نوع هذا السبيل إلى لمِّ شعثِ الناس إلا من خلال رجوعهم إلى الله، ومن خلال اصطباغهم بدين الله سبحانه وتعالى. إذا عرفنا هذه الحقيقة تبين لنا السر والسبب في أننا نجد أن الشريعة الإلهية كثيراً ما تأمر الناس أن يتجاوزوا كثيراً من الأحكام، وكثيراً من المبادئ، وكثيراً من المصالح، حفظاً لوحدة الأمة، رعايةً لتآلفها، إبعاداً للأمة عن الفتنة وأسبابها.

كثيرةً هي الأحكام الشرعية، الثابتة في دين الله عز وجل، والتي أمرنا الله عز وجل أن نرعاها، ولكن الله عز وجل يأمرنا، إذا وجدنا تعارضاً وقع بينها وبين مصلحة الوحدة الإنسانية للأمة، إذا رأينا تعارضاً بينها وبين الأُلفة اللتي ينبغي أن تشيع بين أفراد الناس، فإن الله عز وجل يأمرنا أن نضحي في كثيراً من حقوقه في سبيل أن لا تتسرب فتنة الى الأمة وكيانها، في سبيل أن لا تهدد وحدة الأمة، أيُّ مخافةٍ أو أيُّ ضررٍ أو أيُّ مفسدةٍ من المفاسد، وهذه الأحكام كثيرةً في شريعة الله سبحانه وتعالى، ويضيق الوقت عن ضرب الأمثلةِ لذلك، إن الله عز وجل جعل وحدة الأمة أعظم حكمة لهذا الدين الذي أنزله، ولنا في الأسرة الإنسانية خير مثال؟ لماذا يأمر الله عز وجل أعضاء الأسرة ذكوراً وإناثاً صغاراً وكباراً بالخضوع لرب الأسرة؟ لماذا يأمرهم الله عز وجل بالبرِ لرب الأسرة و أيُّ برِ، برٌ مقرونٌ دائماً ببرِ الله عز وجل؟ لماذا؟ لأن الله عز وجل يريد أن تكون هذه الأسرة أسرةً متآلفة، متضامنة، وأن يكون أعضائها ذكوراً وإناثاً صغيراً وكباراً متآلفين.كيف يتم هذا؟ سبيل ذلك أن يدين الكلُّ بالولاء لرب هذه الأسرة، وأن يدين الجميع بالبرِّ والخضوع لرب هذه الأسرة. فإذا اجتمعوا تحت مظلة البِّر لرب الأسرة، تآلفوا وذابت من بينهم أسباب الخصام وأسباب الفتنة والشِّقاق.

الأمر تماماً بالنسبة للأسرة الإنسانية الكبرى، سبيل توحيد الأسرة الإنسانية الكبرى، هو ذاته سبيل وحدة الأسرة الإنسانية الصغرى، وكما أن للأسرة الإنسانية الصغيرة رباً، ربُّ أسرة، تطلق هذه الكلمة عليهم مجازاً. فكذلكم لهذه الأسرة الإنسانية المنتشرةِ فوق هذه الأرض رباً، وكما أن أسرة بيت واحد، لا يمكن أن نصلح شأنها، إلا أن تقف جميعاً تحت جناح البِّر لرب هذه الأسرة، فكذلكم الأسرة الإنسانية الكبيرة الواسعة لا يفلح أمرها ولا يجمع شأنها، ولا يسعدها إلا أن تدين جميعاً بالولاءِ لرب هذه الأسرة الحقيقيّ، وهو الله عز وجل، هو رب هذه الأسرة الإنسانية ورب الأرض والسماوات ورب كلِّ شيء. ومن هنا لا نعجب إن رأينا الله سبحانه وتعالى يلفت أنظارنا الى مدى أهمية الرحم الإنسانية، بل كثيراً ما يقسم البيان الإلهيُّ بها. ألم نقرأ قول الله عز وجل: (يا أيُّها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام). أيُ الرحم الإنسانية المطلقة كما ذكر كثيراٌ من العلماء. ألم نقرأ في قول الله عز وجل: ((فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم)). لاحظوا كيف قرن البيان الإلهيّ بين الإسلام في الأرض وبين تقطيع الرحم.كأنه يقول لنا إن منبع الفساد والفتنة في الأرض إنما هو تقطيعكم لأرحامكم، ومنبع المصالح كلها إنما هو التآلف والتوادد إذّ يشيع بين هذه الأسرةِ الإنسانية. لكن كيف السبيل الى ذلك؟ واللهِ لا سبيل إلى جمع هذا الشّمل ولمّ هذا الشّعب وضبط الأفراد على قلب واحد إلا إذا دانوا جميعاً بالولاء لله واصطبغوا جميعاً بالعبودية لله سبحانه وتعالى.

من أجل هذا يأمرنا الله سبحانه وتعالى بأن تكون للمسلمين جماعة، وأن تكون لهم على رأس الجماعة قاضٍ، ومن أجل هذا يأمر الله سبحانه وتعالى الناس بالولاء لمن بيده الأمر حتى ولو طلبوا منهم شيئاً من حقوقهم التي أعطاهم الله عز وجل. يقول المصطفى صل الله عليه وسلم: "أعطوهم ما سئلوا وسلوا الله سبحانه وتعالى ما لكم". وقد قال له حذيفة بن اليمان: يا رسول الله أرأيت لو أنه ضربني. قال الرسول صلى الله عليه وسلم "اسمع واطع ولو أخذ مالك ولو ضرب ظهرك". كثيرٌ من الناسيتعجبون، ويستغربون، من أن يقول هذا الكلام رسول الله صل الله عليه وسلم. كثيراً ما جاء من يظهر لي تعجبه علناً، لكن هؤلاء الإخوة لم يدركوا فيما يبدو بر الإسلام وحكمته الأولى التي أكرمنا الله بالإسلام من أجلها. مطمح نظر الشَّارع تحقيق أسباب الوئام تحقيق أسباب التآلف، فإذا رأيت أنك إما ان تضحيَّ بحقك ومالك، ولكنك بهذا تسد باب الفتنة، وإما أن تضحيَّ بوحدة الأمة في سبيل الحفاظ على حقوقك فإن الله يقول: ضحي بحقوقك في سبيل أن تسد ثغرةً تتسرب منها فتنة الى الأمة. حتى إذا أمرك هذا الإنسان بمعصية أمرك بما نهاك الله عنه أو نهاك عما أمرك الله عز وجل به جاء القانون الربانيُّ المنّزل: ((لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)).

فلنعلم يا عباد الله مدى أهمية هذه المصلحة التي تنزل من أجلها دين الله عز وجل. وحيثما رأيتم المسلمين يتوحدون بواسطة إسلامهم فاعلموا أنهم يسيرون على هدى وعلى صراطٍ مستقيمٍ في تطبيقهم لهذا الإسلام. وحيث ما رأيتموهم باسم الإسلام يتفرقون، وباسم الإسلام يتدابرون ويتعادون فاعلموا أنهم قد تنكبوا الطريق واعلموا انهم قد تاهوا عن المحجة لأن الإسلام الحقيقيّ أول ثمراته توحيد الأمة، وإزالة أسباب الفتنة والخصام فيما بينها.

أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم فاستغفروه يغفر لكم.

تحميل



تشغيل

صوتي