مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 09/02/1990

واصبر وما صبرك إلا بالله

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أما بعدُ فيا عبادَ الله:

كلّما تأمّلتُ في صراطِ الاستقامةِ على دينِ اللهِ عزَّ وجلّ ورأيتُهُ محفوفاً بلهيبِ الشّهواتِ والأهواءِ والمغرياتِ من شتّى الجوانبِ وتأمّلتُ في الجهد الذي ينبغي أن يتحمّلهُ المسلمُ في هذا العصر لاسيّما الشّابُّ الذي عاهدَ مولاهُ وخالقَهُ على الاستقامةِ على هذا الصّراط. كلّما تأمّلتُ في هذا الصّراطِ والجهدِ الذي ينبغي أن يتحمّلهُ المسلمُ في هذا العصر للثباتِ عليه، تذكّرتُ قولَ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم في الحديثِ الصّحيح الذي يقولُ فيهِ لأصحابه: (فإنَّ وراءكم أيّاماً، الصّبرُ فيهنَّ كالقبضِ على الجمر، للرّجلِ منهم أجرُ خمسينَ منكم). قالَ أحدهم: منهم أم منّا يا رسولَ الله؟ قالَ: (بل منكم لأنّكم تجدونَ على الحقِّ أعواناً ولا يجدون).

لا شكَّ أنَّ المسلمَ الذي يستقيمُ على صراطِ اللهِ في هذا العصرِ، لا سيّما الشّابُّ الذي تفورُ الغرائزُ بينَ جوانحه، والذي يرى نيرانَ الشّهواتِ تتأجّجُ عن يمينهِ وشماله، ويبقى ثابتاً مستقيماً على صراطِ اللهِ عزَّ وجلّ. لا أشكُّ في أنَّ مثلَ هذا الإنسان يدخلُ فيما قالهُ المصطفى صلى اللهُ عليهِ وسلّم، ويرقى إلى الرّتبةِ التي تحدّثَ عنها.

ولكنّي أتساءَلُ أيضاً: ما العزاء؟ وكيفَ السّبيلُ إلى أن يخفَّ ألمُ الصّبرِ عن هؤلاءِ النّاسِ في هذا العصر؟ ألم يقل المصطفى عليهِ الصّلاةُ والسّلام في الحديثِ الذي يرويهِ ابنُ ماجه والإمامُ أحمد: (وإنّهُ ليسيرٌ على من يسّرهُ اللهُ عليه)؟ فكيفَ السّبيلُ إلى أن يتيسّرَ الصّبرُ أمامَ هؤلاءِ المسلمين الذينَ عرفوا اللهَ فبايعوه، والذينَ عرفوا اللهَ فأحبّوه، وعرفوهُ فامتلأت أفئدتهم مخافةً منه؟

السّبيلُ أيّها الإخوة واضح، والأمرُ كما قالَ المصطفى عليهِ الصلاةُ والسّلام: (وإنّهُ ليسيرٌ على من يسّرهُ اللهُ عزَّ وجلَّ عليه). وإنَّ في هذه الكلمةِ لعزاءً وأيَّ عزاءٍ لكلِّ إنسانٍ يشعرُ بآلامِ سيرهِ على صراطِ اللهِ سبحانهُ وتعالى، ولكنَّ الدّواءَ لا يفيدُ إلا إن استعملهُ الإنسان، ولا يغني عن صاحبه شيئاً إلا إن هرع المريض إليه، أما أن لا يكون من الناس رجوع إلى الدواء، فلا شك عندئذ أن الدواء لا الدواء يفيد ولا الطبُّ يغني عن المريضِ شيئاً.

السّبيل: التّضرّعُ إلى الله، الالتجاءُ إلى اللهِ سبحانهُ وتعالى. وهذا جزءٌ من الدّواءِ الذي وصفهُ لنا اللهُ عزَّ وجلَّ في محكمِ تبيانه، أمّا أساسُ الدّواءِ فالثّقةُ باللهِ عزَّ وجلّ، الثّقة هي مصدرُ الشّفاء، والثّقة هي مفتاحُ حلِّ المشكلات. والثّقةُ باللهِ: ثمرةُ الإيمانِ باللهِ سبحانهُ وتعالى. فمن آمنَ باللهِ عزَّ وجلَّ حقَّ الإيمان: كانَ جديراً بهِ أن يثقَ بوعدِ اللهِ عزَّ وجلّ، واللهُ سبحانهُ وتعالى يقول: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)، وهذا وعدٌ قاطعٌ من اللهِ عزَّ وجلّ. ويقول: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ).

وإنّها لحقيقةٌ معروفة في حياتنا الدّنيا فضلاً عن الآخرة. أرأيتم إلى المريض الذي ذهب إلى الطّبيب، فحصهُ، ثمَّ شخّصَ مرضهُ ثمَّ كتبَ لهُ الدّواء فأمرهُ بالحميةِ التي حملهُ عليها. هذا المريض بمقدارِ ما يكونُ واثقاً بالطّبيبِ وعلمهِ وبراعتهِ، يخفُّ عليهِ التّعبُ من الحمية والصّبرُ على تجرّعِ الدّواء. وبمقدارِ ما تكونُ ثقتهُ بالطّبيبِ ضعيفة تكونُ الحميةُ عليهِ شديدة، ويكونُ تجرّعُ الدّواءِ عليهِ عسيراً. حقيقةٌ نعرُفها جميعاً.إذا أيقنَ المريضُ أنَّ طبيبَه علمَ مرضهُ جيّداً ووقعَ على الدّواءِ الشّافي يقيناً، وأدركَ الأطعمةَ التي ينبغي أن يبتعدَ عنها يقيناً فإنَّ الحميةَ تخفُّ على هذا الإنسان. فكيفَ إذا كانَ الأمرُ معَ اللهِ عزَّ وجلّ؟ كيفَ إذا كانَ طبيبُك هوَ اللهُ سبحانهُ وتعالى؟ آمنتَ به، ووثقتَ به، وعلمتَ أنَّ هذا الكلامَ كلامُه وأنَّ الوعدَ وعدُه، فإنَّ الصّبرَ يهون. لأنّكَ تعلم أنَّ الصّبرَ في حقّك ليسَ أكثرَ من دفعٍ لأقساطِ الثّمن، وإذا تكاملَ دفعُ الثّمن فإنَ اللهَ عزَّ وجلَّ يهبُكَ الـمُثمَن ويعطيكَ ما قد صبرتَ من أجلهِ في الدّنيا قبلَ الآخرة.

وقد أوضحَ اللهُ عزَّ وجلَّ لنا هذا المعنى بعِبر وبعظات وبحوادثَ يطولُ سردُها لو أردنا أن نلفتَ النّظرَ إليها. ولكن حسبُنا أن نضعَ أمامَ أعيننا مثالَ الأمثلة، وعبرةَ العبر: قصّةُ سيّدنا يوسُف عليهِ الصّلاةُ والسّلام، ولأمرٍ ما أفاضَ البيانُ الإلهيُّ في تفسيرِ هذه القصّة. منذا الذي حُمِّلَ من الشّبابِ في سبيلِ اللهِ في هذا العصرِ أو قبلَ هذا العصرِ كما حُمِّلَهُ يوسفَ عليهِ الصّلاةُ والسّلام؟ سُجِنَ وهو شابٌّ يافع وهو بريء، وصبر، وثبتَ على صبره، واحتسبَ الأمرَ عندَ ربّه إذ كانَ واثقاً باللهِ عزَّ وجلّ. انتقلَ من ذلكَ الابتلاءِ إلى ابتلاءٍ أشدّ: راودتهُ امرأةُ العزيز - أجملُ النّساءِ في ذلكَ العصر - عن نفسه، وغُلِّقَتُ الأسبابُ وهُيِّئَتِ الأسباب فصبر، وما أشدَّ الصبرَ في مثلِ هذه الحال، وإنّما أعانهُ على الصّبرِ ثقتُهُ بربّه، بعدَ خجلهِ من ربّه وبعدَ خوفهِ منهُ عزَّ وجلَّ. نقلهُ اللهُ عزَّ وجلَّ إلى ابتلاءٍ آخر: سُجنَ مرّةً أخرى وهو بريء لم يفعل شيئاً ولبثَ في السّجنِ ما شاءَ اللهُ أن يلبث، صبرَ واحتسبَ عندَ اللهِ عزَّ وجلّ، ثمَّ ماذا كانت النّتيجة؟ قفوا أمامَ هذه النّتيجةِ التي يرسمها لنا بيانُ اللهِ سبحانهُ وتعالى عندما تعرّفَ إخوةُ يوسُفَ عليهِ وما كانَ لهم أن يعرفوه: (قَالُواْ أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)، هذه عصارةُ القصّة، وهذا هو رصيدُها: (إنّهُ من يتّقِ ويصبر فإنَّ اللهَ لا يضيعُ أجرَ المحسنين). وما كانَ سيّدُنا يوسفُ بدعاً من الرّجال، وإنّما كانَ نموذجاً لسنّةِ اللهِ سبحانهُ وتعالى في عباده، أنقذهُ اللهُ من السّجن، زوّجهُ من تلكَ التي راوتدهُ عن نفسه، بوّأهُ اللهُ عزَّ وجلَّ عرشَ مصر، أعادَ اللهُ عزَّ وجلَّ عليهِ شملَ أهلهِ وأبويه وذهبت عبرةً مع الزّمن.

ولكنَّ الأمرَ يحتاج إلى إيمانٍ باللهِ عزَّ وجلَّ أوّلاً. أقلُّ المراتبِ كما يؤمنُ المريض بطبِّ طبيبه، يحتاجُ إلى ثقةٍ باللهِ سبحانهُ وتعالى. أقلُّ المراتب كما يؤمنُ المريض بعبقريّةِ طبيبه، ثمَّ إنَّ الأمرَ يحتاجُ إلى ثباتٍ على ما أمرَ بهِ اللهُ سبحانهُ وتعالى. ألم يقل اللهُ عزَّ وجلّ: (َا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

وقد يقولُ قائلٌ: وأنّى لي بالصّبر؟ وكيفَ لي بالصّبرِ وأنا لا أطيقُه؟ يأتيكَ الجوابُ عن هذا في الآيةِ الأخرى: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ)، وربّما تشعرُ بمظهرٍ من مظاهرِ التّناقضِ في هذا الكلام، ولكنَّ الكلامِ متناسق. اصبر، ولكن ليسَ معنى صبرك أن تخلقَ شيئاً لا تملكه، أي اعزم على الصّبر ومن اللهِ سبحانهُ وتعالى إعطاءَ القوّة. فهل عزمتَ تجدَ ثمرةَ صبرك؟ وهل عجزَ إنسانٌ عن أن يعزم؟

أيّها النّاس: إنَّ أحبولة الشّيطانِ في هذا العصر واحدةٌ لا ثانيَ لها، إنّما تتمثّلُ هذه الأحبولة في المغريات، في الشّهوات، في الأهواء. هذه الأحبولة هي التي يمسكُ بها كلُّ محترفي الغزو الفكريّ ضدَّ الإسلام، والغزوَ الفكريَّ تحوّلَ من محاولة عقليّة إلى محاولةٍ غرائزيّة، وأنَّ المسلمَ اليومَ يبتغى أن يُصطادَ من غريزتهِ لا من عقله، فكيفَ السّبيلُ إلى ذلك؟ ونحنُ نعلمُ أنَّ الغريزةَ إنّما رُكِّبت في كيانِ الإنسان، وكلٌّ منّا يشعرُ بها. الرّبُّ الذي أودعَ بينَ جوانحكَ هذه الغريزةَ هو الذي يملكُ أن يطفِئَ لهيبها حينَ يشاء. والسّبيلُ إلى ذلكَ أن تستنجدَ بربّك، وأن تلوذَ به، وأن تتضرّعَ إليه، ثمَّ أن تعزمَ بينَ يديهِ على الصّبر قائلاً: اللهمَّ إنّي لا أملكُ إلا أن أعزم، لا أملكُ إلا أن أقصد، ولكنّي أنتظرُ أن تخلقَ الصّبرَ بينَ جوانحي كما خلقتَ نيرانَ هذه الغرائز في نفسي وكياني. واللهُ عزَّ وجلَّ على كلِّ شيءٍ قدير.

وذلكَ هو البرهان الذي أشارَ إليهِ البيانُ الإلهيُّ في الحديثِ عن سيّدنا يوسفَ إذ قال: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ). برهانٌ وضعهُ اللهُ بينَ أيدي النّاسِ جميعاً، كلُّ من شاءَ استطاعَ أن يجعلَ منهُ حصناً يقي بهِ نفسه.

أسألُ اللهَ سبحانهُ وتعالى بالمسلمينَ جميعاً الثّباتَ على دينِ اللهِ في هذا العصر. وأسألُ اللهَ سبحانهُ وتعالى أن يبعدَ عنّا وعنهم شباكَ أولئكَ الذينَ يحاولونَ أن يصطادوا إسلامَ المسلمينَ بأسوأِ الوسائلِ القذرةِ في هذا العصر: ألا وهي نيرانُ الشّهواتِ والأهواء، وإنَّ اللهَ غالبٌ على أمرهِ ولكنَّ أكثرَ النّاسِ لا يعلمون. أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيم...

تحميل



تشغيل

صوتي