مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 30/06/1989

هذه الأيام المباركة فرصة.. لا تُضيّعوها

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

أنتم مقبلونَ عمّا قريبٍ على أيّامٍ مباركةٍ معظّمةٍ عندَ اللهِ سبحانهُ وتعالى، أقسمَ اللهُ عزَّ وجلَّ بلياليها تنويهاً بشرفِ هذهِ الأيّام، وتنويهاً بمكانتِها عندَ اللهِ سبحانهُ وتعالى، وعِظَمِ أجرِ الطّاعاتِ التي يتقرّبُ بها الإنسانُ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ في هذهِ الأيّام. تلكَ هيَ أيّامُ العشرِ الأوّلِ من شهرِ ذي الحجّة، وتلكَ هي الليالي التي قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ عنها في محكمِ تبيانه: (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * والشّفعِ والوتر * والليلِ إذا يَسر * هل في ذلكَ قسمٌ لذي حِجر).

والقَسَمُ الذي يقسمُ اللهُ عزَّ وجلَّ بهِ قسمٌ مجازيٌّ ليسَ من نوعِ القَسَمِ الذي يقسمُ بهِ الإنسان، ذلكَ لأنّهُ لا يوجدُ شيءٌ بعدَ اللهِ عزَّ وجلَّ أجلُّ وأسمى يجعلُ اللهُ عزَّ وجلَّ منهُ حكماً وشاهداً بينهُ وبينَ عباده. ولكنَّ القَسَمَ القرآنيَّ تنويهٌ بعِظَمِ الـمُقسَمِ بهِ عندَ اللهِ سبحانهُ وتعالى، وإشارةٌ إلى علوِّ مكانته، ودفعٌ للعبدِ إلى الاهتمامِ بهذا الـمُقسَمِ بهِ والاحتفاءِ به، فكأنَّ اللهَ سبحانهُ وتعالى ينبِّهُ عبادهُ إلى أنَّ هذهِ اللياليَ التي تقبلُ على الإنسانِ في أوّلِ هذا الشّهرِ المباركِ ليالٍ فريدةٌ من العامِ كلِّه، فما ينبغي أن تمرَّ بالإنسانِ وهوَ ساهٍ فيها، شاردٌ عن هويّتهِ وعن ربِّهِ سبحانهُ وتعالى. وقد شرحَ المصطفى صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وأكَّدَ هذهِ الحقيقةَ التي نوَّهَ بها كتابُ اللهِ عزَّ وجلَّ إذ قالَ في الحديثِ الصّحيح: (ما من أيّامٍ العملُ الصّالحُ فيه أقربُ إلى الله سبحانهُ وتعالى منهُ في هذهِ الأيّام)، أي في الأيّامِ العشرِ الأولى من شهرِ ذي الحجّة، "قالوا: ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ يا رسولَ الله؟ قالَ: (ولا الجهادُ في سبيلِ الله، إلا رجلٌ خرجَ بنفسهِ ومالهِ فلم يعد من ذلكَ بشيء).

ألفتُ نظري ونظركم يا عبادَ اللهِ إلى هذهِ الأيّامِ المباركةِ المقبلة، مع العلمِ بأنَّ الأيّامَ واللياليَ في جوهرها شيءٌ واحد، فالزّمنُ واحدٌ في حقيقته، ولكنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ كما فاوتَ في الرُّتبةِ بينَ الأماكنِ على الرّغمِ من وحدةِ جوهرِ الأماكنِ وفضيلتِها، فقد فاوتَ أيضاً بينَ الأزمنةِ كما يشاءُ وللحكمةِ التي يشاؤها اللهُ سبحانهُ وتعالى. وهيَ على كلِّ حالٍ مظهرٌ من مظاهرِ رحمةِ اللهِ عزَّ وجلّ، فرصةٌ إثرَ فرصة يعلنُ اللهُ عزَّ وجلَّ عنها لعبادهِ العاصينَ والشّاردينَ والتّائهينَ عن اللهِ عزَّ وجلَّ أن يلتفتوا إلى الله ويصطلحوا معه، فإنَّ الصّلحَ مع اللهِ عزَّ وجلَّ لا يكلِّفُ الإنسانَ أكثرَ من قلبٍ سليمٍ طاهر، وأكثرَ من لفتةٍ صادقةٍ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ للانصياع، وبمعاهدةِ النّفسِ على الرّجوعِ إلى صراطِ اللهِ سبحانهُ وتعالى.

وكثيراً ما يُقالُ لي في المناسبات: كم تكرّرونَ الحديثَ عن هذهِ الليالي وفي المناسبات؟ وكم تتكلّمونَ عن الآياتِ والأحاديثِ الواردةِ في شأنِها؟ حتّى لقد غدا الحديثُ عن الليالي العشرِ الأولى من ذي الحجّةِ في خطبةٍ كهذهِ الخُطبة أشبهَ ما يكونُ بحديثٍ تقليديّ، فلماذا كلُّ هذا التّكرارِ وقد وعى النّاسُ وعرفوا؟ فما هو الجوابُ الذي ينبغي أن يسمعهُ هؤلاءِ الإخوةُ الذينَ يتبرَّمونَ بهذا الكلامِ الذي نعيدهُ كلّما حانَ ميقاتُه؟ الجواب: أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ إنّما ندبَ عبادَهُ إلى الاصطلاحِ معهُ وإلى الإكثارِ من الإقبالِ إليهِ بالطّاعةِ والعبادةِ في هذهِ الأيّامِ تغذيةً لحقائقِ عبوديّتهم للهِ عزَّ وجلّ.

فإذا كانت عبوديّتُنا للهِ سبحانهُ وتعالى تتبدَّلُ وتتغيّرُ مع تطوّرِ الأزمنة، كنّا بالأمسِ عبيداً للهِ إذ كنّا فقراءَ وأصبحنا اليومَ أحراراً إذ تحوَّلنا إلى أغنياء، إن كانَ الأمرُ كذلكَ فما ينبغي أن نكرِّرَ شيئاً فاتَ ميقاتُهُ وفاتت أسبابُ الحديثِ عنه. أمّا إن كانت عبوديَّتُنا للهِ عزَّ وجلَّ ملتصقةً بكياناتِنا ظاهراً وباطناً، نحنُ عبيدٌ للهِ عزَّ وجلَّ في كلِّ تقلُّباتِنا وأحوالِنا في حالةِ الفقرِ وفي حالةِ الغنى إن كانَ هناكَ غنى، في حالةِ إقبالِ الدّهرِ إلينا وإدبارهِ عنّا، عندما كنّا أطفالاً رُضّعَ ثمَّ تحوَّلنا إلى شبابٍ أقوياءَ تنبضُ القوّةُ بينَ جوانحنا. إذا كانت أحوالُنا المتبدّلةُ هذهِ تتحرَّكُ تحتَ مظلّةِ عبوديّةٍ مستمرّةٍ في كياناتِنا للهِ عزَّ وجلّ. إذاً فينبغي أن تكونَ هذهِ التّذكرةُ أيضاً مستمرّة، ما دامت عبوديّتُنا للهِ مستمرّةً إذاً ينبغي أن يكونَ التّذكيرُ بغذاءِ هذهِ العبوديّةِ أيضاً مستمرّاً.

لماذا لا تتبرّمُ من تكرارِ الحديثِ عن المواسمِ والأمطارِ على الرّغمِ من أنَّ الحديثَ عن ذلكَ قد أصبحَ حديثاً تقليديّاً كما تولُ من كثرةِ تكراره؟ لماذا لا تتبرّم؟ ولماذا لا يعلنُ الإنسانُ أنَّهُ قد تطوَّرَ وتحرَّرَ من الحاجةِ إلى قطرِ السّماءِ ونباتِ الأرض؟ لأنَّ الإنسانَ كانَ ولا يزالُ ذا فمٍ فاغرٍ يحتاجُ إلى طعام، يحتاجُ إلى شرابٍ على الرّغمِ من تقلّباتهِ وصعودهِ وهبوطه، فكذلكم عبوديّةُ الإنسانِ لله، صبغةٌ لاصقةٌ بهِ مهما ارتفعَ إلى أعلى درجاتِ العزِّ ومهما هبطَ إلى أدنى دركاتِ الذُّلِّ والحطّة فهو عبدٌ لله، (إن كلُّ من في السّماواتِ والأرضِ إلا آتي الرّحمنِ عبداً * لقد أحصاهم وعدّهم عدّاً).

إذا كانَ الأمرُ كذلك، فكما أنّ الإنسانَ يحتاجُ إلى أشعّةِ الشّمسِ مهما كانت ظروفهُ وطالما كانَ حيّاً، فهو كذلكَ بحاجةٍ إلى أن يغذّيَ عبوديّتهُ للهِ بالطّاعةِ والتّذلّلِ والتّبتّل طالما كانَ حيّاً تتصاعدُ الأنفاسُ وتهبطُ وراءَ صدره.

وهيَ فرصةٌ سانحةٌ أكرمنا اللهُ عزَّ وجلَّ بها، يطّلعُ اللهُ عزَّ وجلَّ فيها على عبادهِ العُصاةِ يناديهم بلسانِ الحالِ أن: أقبِلوا فقد رفعتُ ممّا بيني وبينكم الحُجُبَ والأستار، ولا يحتاجُ الأمرُ منكم إلا إلى لفتةِ صدق، وإلا إلى عزيمةِ قلب. أفنتركُ هذهِ الفرصةَ تفوتُنا يا عبادَ اللهِ وربُّنا الذي هو وليُّنا ومالكُنا من دونِ الخلائقِ أجمع ينادينا؟

أسألُ اللهَ سبحانهُ وتعالى أن يجعلَ من هذهِ الأيّامِ المقبلةِ إلينا فرصةَ اصطلاحٍ حقيقيٍّ مع اللهِ سبحانهُ وتعالى، وأن يجعلها مناسبةَ توبةٍ وأوبةٍ صادقةٍ إلى اللهِ عزَّ وجلّ، أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ فاستغفروهُ يغفر لكم...

تحميل



تشغيل

صوتي