مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 23/06/1989

إلى الممنوعين من الحج هذا العام

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

لا شكَّ أنَّ الحجَّ إلى بيتِ اللهِ الحرامِ شعيرةٌ من شعائرِ الإسلام، بل هو ركنٌ من أركانِ الإسلام. وحسبُكم دليلاً على ذلكَ بل برهاناً على أهمّيةِ هذهِ الشّعيرةِ قولُ اللهِ سبحانهُ وتعالى: (وللهِ على النّاسِ حِجُّ البيتِ من استطاعَ إليهِ سبيلاً). والنّداءُ الذي وجّههُ اللهُ سبحانهُ وتعالى لخليلهِ إبراهيمَ على نبييِّنا وعليهِ الصّلاةُ والسّلام: (وأذِّن في النّاسِ بالحجِّ يأتوكَ رجالاً وعلى كلِّ ضامرٍ يأتينَ من كلِّ فجٍ عميق).

ولكن ينبغي أن نعلمَ أنَّ وجوبَ الحجِّ إلى بيتِ اللهِ الحرامِ يتوقّفُ على شرائطَ لا بدَّ من معرفتِها، وإنَّ جوازَ الحجِّ إلى بيتِ اللهِ الحرامِ لهُ شروطٌ معيّنةٌ لا بدَّ من معرفتها. ولسنا الآنَ بصددِ بيانِ تلكَ الشّروطِ ولا هذه، ولكنَّ الإنسانَ الذي يريدُ أن يتقرَّبَ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ بهذا النُّسُكِ ينبغي بادئَ ذي بدءٍ أن يعكفَ على معرفةِ الشّرائطِ التي عندها يستقرُّ وجوبُ هذهِ الشّعيرة، كما ينبغي أن يتعرَّفَ على الشّروطِ والأسبابِ التي عندَ توافُرِها يحلُّ لهُ الحجُّ إلى بيتِ اللهٍ الحرام.

إنَّ من النّاسِ من يتّجهونَ إلى الحجِّ ظنّاً منهم أنّهم يتقرَّبونَ بذلكَ إلى الله، وما عرفوا أنّهم بذلكَ بَعُدوا عن اللهِ عزَّ وجلّ، ذلكَ لأنَّ بعضاً أو كثيراً من شرائطِ إباحةِ هذا الحجِّ لم تتحقّق لديهم. ومعَ هذا وذاك، فإنَّ الإنسانَ كثيراً ما يتهيّأُ لأداءِ هذا النُّسُك، ويتّجهُ بقلبهِ وعواطفهِ إلى الاستجابةِ لنداءِ اللهِ سبحانهٌ وتعالى، ثمَّ تحولُ العقباتُ المختلفةُ دونَ ذلك، ويُصَدُّ عن بلوغِ غايتهِ هذهِ كما صدَّ المشركونَ يوماً ما رسولَ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وأصحابهُ عن البيتِ الحرامِ يومَ أن توجّهَ المصطفى عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ ومعهُ ثلّةٌ كبيرةٌ من أصحابهِ معتمرينَ إلى مكّةَ المكرّمة، فما العملُ في هذهِ الحال؟

الإخلاصُ لوجهِ اللهِ هو الذي يحلُّ المشكلةَ ويذيبُ المعضِلة، فإن وُجِدَ الإخلاصُ للهِ عزَّ وجلَّ لا إشكالَ أبداً، ولكنَّ الإخلاصَ إن لم يتوافر أو كانَ ضعيفاً فما أصعبها من مشكلةٍ لا حلَّ لها.

إذا كانتِ العواطفُ النّفسيّةُ هي الحافز، وإذا كانت الرّغبةُ التي ترتبطُ وتتّصلُ بمصلحةٍ ما من مصالحِ الإنسانِ النّفسيّةِ أو المادّيّةِ هي المحرّكُ والمهيِّج، ثمَّ قامت عقبةُ تمنعهُ عن بلوغِ هدفهِ وتحقيقِ مأربهِ وهوَ في الظّاهرِ حجٌّ إلى بيتِ اللهِ الحرام، فإنَّ الهمَّ يفيضُ في قلبه، وإنَّ الحزنَ يقيمهُ ولا يُقعِده، وإنَّ الألم يطوفُ بأركانِ فؤادهِ ونفسه، ذلكَ لأنَّ أمنيةً نفسيّةً اهتاجت بينَ جوانحهِ لم تتحقّق، ولأنَّ هدفاً يأوي ويتّصلُ بمصلحةٍ من مصالحِ النّفسِ والكيانِ قامت بينَ جوانحهِ ثمَّ لم يملك تحقيقاً لهذهِ المصالح.

أمّا إن كانَ هذا الإنسانُ مخلصاً للهِ عزَّ وجلَّ فيما عزمَ عليهِ لا هدفَ لهُ من وراءِ ذلكَ إلا أن ينالَ رضى الله، وإلا أن يسجِّلَ في صحائفهِ بعضاً من البرِّ الذي يقرِّبهُ إلى اللهِ سبحانهُ وتعالى غداً، فإنَّ هذا الإنسانَ لا يعاني من أيِّ مشكلةٍ إن لم يتحقّق لهُ ما هدفَ إليه، ولا يمكنُ أن يشعرَ بأيِّ ألمٍ في كيانهِ إن لم يكن في قضاءِ اللهِ سبحانهُ وتعالى أن يحقِّقَ لهُ ما قصد، إذا كنتُ قد أخلصتُ للهِ في هذا العملِ فإنّني لا شكَّ أدركُ أنَّ النّيّةَ كثيراً ما - بل دائماً - تحلُّ محلَّ العمل، وهذا معنى القاعدةِ السّليمةِ الصّحيحة: (نيّةُ المرءِ خيرٌ من عمله).

ليسَ معنى هذا الكلامِ أنَّ الإنسانَ إذا نوى الخيرَ فلهُ أن ينسخَ العملَ بالنّيّة، هذا تلاعبٌ بالقاعدة، ولكنَّ معنى هذا الكلامِ أنَّ الإنسانَ إذا قصدَ الخيرَ الذي شرعهُ اللهُ عزَّ وجلَّ وابتغى بذلكَ رضى اللهِ وحده، وسعى سعيهُ من أجلِ إنجازِ ما قصدَ إليه، ثمَّ قامتِ العقباتُ بينهُ وبينَ ذلكَ الخيرِ الذي ابتغاهُ فلم يستطع تطبيقاً لذلك، فإنَّ النّيّةَ التي قصدَ بها وجهَ اللهِ تحلُّ محلَّ عمله، وتملأُ ذلكَ الفراغَ كلّه، ويكتبُ اللهُ لهُ الأجرَ الذي كانَ يكتبهُ لهُ فيما لو أنّهُ وُفِّقَ لهذا العملِ كاملاً غيرَ منقوص. هذا عندما يتوافرُ الإخلاصُ لوجهِ اللهِ سبحانهُ وتعالى.

فإذا كانَ هدفي مرضاةَ اللهِ سبحانهُ وتعالى، وليسَ قصدي أن تكتحلَ عينايَ بالكعبةِ ومنظرِها، ولا أن أجدَ نفسي بينَ الحجيجِ في ذُرى عرفاتَ أو في سفوحِ مِنى أو في أيِّ جهةٍ من الجهات، إنّما الهدفُ أن أجعلَ من ذلكَ كلِّهِ وسيلةً لرضى اللهِ سبحانهُ وتعالى، فإذا كانَ هذا القصدُ موفوراً فإنَّ ينبوعَ الأجرِ هو هذا القصد، وإنَّ مناطَ رضى اللهِ عزَّ وجلَّ هو هذا القصد، وهذا معنى قولهم: (نيّةُ المرءِ خيرٌ من عمله).

بل كثيراً ما يكونُ القصدُ إلى الحجِّ عندما تتقطّعُ الأسبابُ بصاحبِ هذهِ النّيّةِ عن بلوغ ما قصد، ربّما تكونُ هذهِ النّيّةُ أبعد على الأجرِ والمثوبةِ ممّا لو حجَّ فعلاً إلى بيتِ اللهِ الحرام، كيفَ ذلك؟ عندما تتوافرُ النّيّةُ ابتغاءَ مرضاةِ اللهِ وحده، ثمَّ لا يكتبُ اللهُ عزَّ وجلَّ ليَ الحّجَ الذي قصدتُه، من المتوقّعِ أن يهزّنيَ الشّوقُ إلى تلكَ الأماكن، ومنَ المتوقّعِ أن يفيضَ قلبي حنيناً إلى بيت اللهِ الحرام، وإذا جاءَ يومُ عرفةَ ربّما أجدُ نفسي مشدوداً بكلِّ مشاعري إلى تلكَ الأماكنِ المقدّسة. هذهِ المشاعرُ المحرقةُ للكيان، الممضّة للنّفسِ والعواطف، كلُّها مأجورٌ عليه، فالنّيّةُ مصدرُ أجرٍ ومنبعُ رضاً من اللهِ سبحانهُ وتعالى، وهذا التّشوُّقُ الذي يشعرُ بهِ الإنسانُ يوماً فيوماً، كلُّ ذلكَ شيءٌ مأجورٌ عليه. ولو أنَّ هذا الإنسانَ كُتبَ لهُ الحجُّ ربَّما لم يكن يشعرُ بشيءٍ من هذا الحنين، لو أنَّ هذا الإنسانَ كُتِبَ لهُ أن يُنجِزَ ما قصدَ وأن يُحقِّقَ ما اشتاقَ إليهِ لأطفأَ سعيُهُ حرارةَ شوقه، ومن ثمَّ: فإنَّ الأجرَ يكونُ على الحجِّ وحدهُ ولا أجرَ لهُ على شوقٍ مفقود.

ومن هنا قالَ العلماءُ الرّبّانيّونَ وكثيراً ما كرَّرَ هذا الكلامَ أكثرُ من واحد: (لأن يكونَ جسمي هنا وقلبي يطوفُ ببيتِ اللهِ الحرامِ خيرٌ لي من أن يكونَ جسمي هناكَ وقلبي وعواطفي تطوفُ بدويرةِ أهلي وموطني وأسرتي). ما معنى هذا الكلام؟ معنى هذا الكلام: أنَّ اللهَ ينظرُ إلى القلب وإلى المشاعر، فإذا علمَ اللهَ من عبدهِ صدقَ طلب، وأنَّ طلبهُ صافٍ عن الشّوائبِ لم تمتزج بهِ كُدُراتُ رغائبَ نفسيّة، ولا حظوظٌ جسديّةٍ وإنسانيّة، فإنَّ اللهَ سبحانهُ وتعالى يكتبُ لهُ الأجرَ كاملاً. فإذا علمَ اللهُ اشتياقه، وعلمَ اللهُ حنينه إلى تلكَ الرّبوعِ أو إلى مثوى رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّم، كتبَ اللهُ عزَّ وجلَّ بالإضافةِ إلى ذلكَ لهُ أجراً آخر.

وهكذا فإنَّ الإخلاصَ يحلُّ المشكلات، وما أكثرَ الذينَ حاولوا الحجَّ إلى بيتِ اللهِ الحرامِ وسعوا سعياً لاهثاً إلى ذلكَ ثمَّ إنَّ الأسبابَ تقطّعت دونهم ولم يتحقّق لهم ما رغبوا فيه، جلَس الواحدُ منهم في عُقرِ دارهِ راضياً حامداً شاكراً لأنَّهُ لم يقصد أمراً مادّيّاً وإنّما قصدَ رضى الله، وهو يعلم أنّهُ قد سعى سعيه، ومحّضَ نيّتهُ، ووجّهَ قلبهُ إلى ما يرضي الله، فإذا قبلَ اللهُ عزَّ وجلَّ منهُ ذلكَ فأنعم بهذا القصدِ من حجٍّ مبرور.

ينبغي أن نتصوَّرَ هذا أيُّها الإخوة، وينبغي أن نعالجَ مظاهِرَ أعمالِنا بالإخلاصِ النّابضِ في قلوبِنا، ولعلَّ هذهِ مشكلةُ المشاكلِ في كثيرٍ من الأحيانِ وبالنّسبةِ لكثيرٍ من النّاس. نحنُ نعيشُ عصراً تحوّلَ فيهِ كثيرٌ من الطّاعاتِ المبرورةِ إلى صورٍ وطقوسٍ وأشكالٍ رُبطت بها منافعُ مادّيّة، ونيطت بها رغائب غريزيّة، تحوّلت هذه الطّاعاتُ بسببِ ذلكَ إلى أشكالٍ لها رسومُ الطّاعاتِ ولكنّها فارغةٌ عن روحها وحقيقتها. والحجُّ واحدٌ من هذهِ المناسكِ وهذهِ المشاعر، ينبغي أن نعالجَ هذا الأمر، ومعالجتهُ أن يعودَ الإنسانُ إلى قصده، (بل الإنسانُ على نفسهِ بصيرة). يستطيعُ أن يعلمَ دوافعهُ ويستطيعُ أن يعلم مقصدهُ ومنابعَ رغائبه.

وإذا عرفنا هذا أدركنا السِّرَ في الفرقِ بينَ هذا العصرِ والعصورِ السّابقة، لو رأينا ترجمةَ كثيرٍ من العلماءِ الرّبّانيّينَ والأئمةِ الصّالحينَ الذينَ كانوا يعيشونَ في مناطقَ قريبةٍ من بيتِ اللهِ الحرام، وتساءلنا عن عددِ الحجّاتِ التي حجّها كلٌ منهم، قد لا نجدُ أنَّ الواحدَ منهم حجَّ أكثرَ من أصابعِ اليدِ الواحدة، هذا إن أتيحَ لهُ ذلك. بينما نحنُ نجدُ في عصرِنا اليومَ أنّ عامّةَ النّاسِ يُتاحُ لكثيرٍ منهم أن يحجّوا في كلِّ عامٍ مرّةً لبيتِ اللهِ الحرام. أمّا إذا عددتَ العُمُراتِ التي يُوَفّقُ لها كثيرٌ منهم لإنجازها، فقد تكونُ هذهِ المناسكُ لا حسابَ لها ولا تخضعُ لإحصاء. كيفَ هذا؟ أولئكَ الرّبّانيّونَ لم يُكتب لهم من ذلكَ إلا النّذرُ القليل القليل، وفيهم من لم يحجَّ إلا مرّةً واحدة، وكثيرٌ منهم كانَ يعيشُ في أماكنَ قريبة من مكّةَ المكرّمةِ والمدينةِ المنوّرة. المرجع: هذا الذي قُلت: ليسَ المهمُّ أن يرتحلَ الجسدُ ذهباً آيباً، إنّما المهمُّ أن تكونَ أشواقُ الفؤادِ متلظّيةً، وأن تكونَ هذهِ الأشواقُ صافيةً من أيِّ شائبة، كاملةَ الاحتراقِ لوجهِ اللهِ سبحانهُ وتعالى. هذا الفارقُ هو الذي جعلَ مظاهرَ هذهِ المناسكِ قليلةً في حياةِ أولئكَ الرّبّانيّين، وكثيرةً في حياةٍ كثيرٍ من عوامِّ المسلمينَ في هذا العصر.

أسألُ اللهَ عزَّ وجلَّ أن يجعلَ أعمالنا خالصةً لوجهِ اللهِ عزَّ وجلّ، وأن يرزقَنا السِّر الذي هو عنوانُ محبّةِ اللهِ للعبد، ألا وهو الإخلاص. فاستغفروهُ يغفر لكم...

تحميل



تشغيل

صوتي