مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 09/06/1989

حذار من حرب شعارات ضد الإسلام

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

كنتُ ولا أزالُ أحذّر من أحدث حربٍ ضدَّ الإسلام تصاغُ طريقتها في أقبية يعرفُها محترفو الغزوِ الفكريِّ في العالمِ الذي نعيشُ فيه، وكنتُ ولا أزالُ أحذّر من هذه الطّريقةِ الجديدةِ في حربِ الإسلام وهي الطّريقةُ التي سمّيتُها حربَ الشّعارات.

وأعودُ اليومَ لأذكّركم بها ولتستعيدوا الوعيَ الذي متّعكمُ اللهُ عزَّ وجلَّ به وتجعلوا منهُ حصنكمُ الحصين ضدَّ كلِّ أحبولة وضدَّ كلِّ خِداع.

قلتُ مرّةً إنَّ هنالكَ شعاراتٍ برّاقةً تُطلَقُ وتُطرَح، ظاهرها خدمةُ الإسلام وباطنُها الكيدُ للإسلام. من هذه الشّعارات كلمةُ: (التّقاليدِ الإسلاميّة)، من هذه الشّعارات كلمةُ: (الأديانِ السّماويّة)، من هذه الشّعارات كلمةُ: (رجالِ الدّين)، وهنالكَ كلماتٌ كثيرة صيغت بليل وأُحكِمَتْ بعدَ جهد وطُرِحَت بينَ النّاسِ والنّاسُ عن ذلكَ غافلون. وآخرُ هذه الشّعارات التي تصاغُ في هذه الأقبية المظلمةِ من أطرافِ عالمنا المترامي الفسيح، كلمةُ: (التّراثِ الإسلاميّ). كلمةُ التّراثِ الإسلاميّ هذه تُستَعمَلُ اليومَ بدلاً من كلمةِ (المبدأِ الإسلاميّ)، (الثّقافةِ الإسلاميّة)، (المصادرِ الإسلاميّة)، (العقيدةِ الإسلاميّة). هذه الكلماتُ كلُّها تُذَوَّبُ لتُستَبدَلَ بها كلمةٌ أخرى هي (التّراث) أو (التّراثُ الإسلاميّ). فما هوَ وجهُ خطورةِ هذه الكلمةِ أوّلاً؟ وأينَ ينبعثُ الكيدُ منها؟

كلمةُ (التّراثِ) أو (الميراث) تعني: مخلّفاتِ أمّة، مخلّفاتِ أجيالٍ سابقة، تلكَ الأجيالُ ابتدعتها واخترعتها واعتزّت بها ثمَّ إنّها رحلت عن الدّنيا وتركتها وراءها، فبقيت تلكَ الأفكارُ التي هي وليدةُ ابداعاتهم، بقيت ميراثاً للأجيالِ التي تليها.

وإذا تصوّرنا الإسلامَ من هذا القبيل، تصوّرناهُ تراثاً وميراثاً. استقرَّ في ذهننا شيئاً فشيئاً ودونَ أن نتنبّه أنَّ الإسلامَ ليسَ أكثرَ من أفكارٍ ابتدعتها تلكَ الأجيالُ السّابقة، وتعبت حتّى ابتدعتها وصاغتها وأنتجتها، فنحنُ اليومَ نرثُ تعبَ تلكَ الأجيالِ السّابقة، ونرثُ أفكارهم التي ابتدعوها، ونقفُ ممّا تركوهُ وراءهم أمامَ ركامٍ كبيرٍ كبير اسمهُ التّراث أو التّراثُ الإسلاميّ. يدخلُ في هذا الكلامِ القرآن: تراثٌ إسلاميّ، تدخلُ في هذه الكلمةِ السّنّة: تراثٌ إسلاميّ، تدخلُ في هذه الكلمةِ شروحُ القرآنِ وتفاسيرُ السّنّة: تراثٌ إسلاميّ، يدخلُ في هذه الكلمةِ الفقهُ الإسلاميُّ المأخوذُ من كتابِ اللهِ وسنّةِ رسولِ الله: تراثٌ إسلاميّ.

وإذا استقبلَ الإنسانُ هذه الكلمةَ قبولاً حسناً فلا شكَّ أنَّ هذا المعنى سينطلي قريباً على ذهنه، ولسوفَ يتصوّرُ أنَّ مصادرَ الإسلامِ كلَّها ليسَت إلا عبارةً عن إبداعاتٍ فكريّةٍ وإنتاجاتٍ عقليّةٍ لأممٍ ذاتِ عراقةٍ حضاريّة، ونحنُ اليومَ نرفعُ الرّأسَ إذ نجدُ ذلكَ (التّراث).

ولا تزالُ كلمةٌ تطنُّ في أذني كانَ يردّدها واحدٌ ممّن رحلَ إلى الله وأصبحَ اليومَ على موعدِ وقفةٍ خطيرةٍ بينَ يديِ الله، تلكَ الكلمةُ التي كانَ يردّدها، يردّدها وهو معتزٌّ بها في الظّاهرِ والصّورة ولكنّهُ يستبطنُ الكيدَ بها في الحقيقة، تلكَ الكلمةُ هي: (تراثُ الآباءِ والأجداد)، (إنّنا نعتزُّ بالإسلامِ الذي هو تراثُ الآباءِ والأجداد)، (تراثُ الآباءِ والأجداد).

أريدُ قبلَ كلِّ شيءٍ أيّها الإخوة أن تتمسّكوا بالوعيِ الذي هو سدى ولحمة هذا الدّينِ الحنيف. دينُنا الإسلاميُّ يمتازُ عن سائرِ المذاهبِ والمبادئِ كلّها بشيءٍ قدسيٍّ واحد، ألا وهو: تربيةُ الإنسانِ على الوعي، وعلى الفهمِ والإدراكِ العميقين، أريدُ أن تتمتّعوا يا عبادَ الله بهذا الوعي عندما تستمعونَ بينَ الحينِ والآخر كلماتٍ تطوفُ وتدورُ حولَ التّراثِ وما يتعلّقُ بالتّراثِ وما إلى ذلك.

إذا تصوّرنا أنَّ الإسلامَ تراث، واستمرَّ الأمرُ ذلك، هانَ بعدَ ذلكَ أن تُطرَحَ أطروحاتٌ أخرى، وهي تُطرَحُ الآن. إذا كانَ الإسلامُ تراثَ الآباءِ والأجداد، فمالنا ننظرُ إليهِ بقدسيّة؟ مالنا ننظرُ إليهِ بهذا التّبجيلِ والتّعظيم الباهرين؟ إنّهُ ليسَ أكثرَ من تراثِ الآباءِ والأجداد. وآباؤنا وأجدادنا من البشر، فلماذا لا ننظرُ إلى هذا التّراثِ نظرةً نقديّة؟ نظرةً توحي بكثيرٍ من الأخطاءِ ربّما توجدُ في هذا التّراث؟ ولولا هذا الجسرُ الذي نصب بيننا وبينَ الإسلامِ من كلمةِ التّراث، واستمرّت تتكرّر حتّى صقلت أذهانَ كثيرٍ من النّاس لما كانَ في المسلمينَ من يتهيّأُ لاستقبالِ هذه الدّعوة، الدّعوةِ إلى بترِ القسية عن هذا التراثِ الذي هو تراثُ الآباءِ والأجداد.

أتلاحظونَ خطَّ المكيدةِ يا عبادَ الله؟ أتلاحظونَ ما وراءَ الأكمة؟ هذا الأمرُ لا يستدعي سوى أن يكونَ الإنسانُ قد رُبّيَ تربيةً صحيحةً تامّةً على يدِ القرآنِ العظيم، على يدِ هذا الكتابِ المبين، عندئذٍ لا يستطيعُ أيُّ أفّاكٍ أن يخدعه. وماذا نقولُ نحن؟ ماذا نقولُ لمن يدعونا اليوم بعدَ أن غرزَ كلمةَ التّراثِ بدلاً عن الإسلامِ ومصادرِ الإسلام ثمَّ جاءَ يدعونا إلى بترِ مظاهرِ القدسيّةِ عن هذا التّراثِ لكي نستطيعَ أن ننقدهُ نقداً موضوعيّاً؟ ماذا نقولُ لهؤلاءِ النّاس من منطلقِ علمٍ وموضوعيّة ودونَ أن نجنحَ إلى أيِّ عصبيّةٍ قط؟ نقول: إنَّ تقديسنا للإسلامِ - ولا نقولُ للتراث - إنّما هو نتيجةُ دراسةٍ نقديّةٍ ونتيجةُ بحثٍ موضوعيٍّ مجرّد. وليسَ تقديسُنا للإسلامِ حكماً اعتباطيّاً جاءَ بادئ ذي بدئ، فنحنُ المسلمين عندما نقدّسُ القرآن لم نقدّسهُ إلا بعدَ أن فكّرنا فيهِ طويلاً وقدّرنا وفرضنا أن يكونَ كلامَ بشر وأن يكونَ كلاماً مختَرَعاً من عندِ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم، ووضعنا الاحتمالاتِ النّقديّةَ كلَّها ولكن بموضوعيّةٍ ودونَ أيِّ عصبيّةٍ لأيِّ جهة. ولـمّا محّضنا الفكرَ ودقّقنا النّظر انتهينا إلى أنَّ القرآنَ كلامُ الخالقِ وليسَ من إبداعِ المخلوق. فقادنا هذا اليقينُ إلى تقديسِ هذا القرآن.

ولـمّا بلغنا حياةَ محمّدٍ عليهِ الصّلاةُ والسّلام سرنا على المنهجِ ذاتهِ، وضعنا مجاهرَ النّقدِ والفحصِ والبحث على حياةِ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم وفرضنا كلَّ احتمال ولكن مرّةً أخرى أقولُ بموضوعيّةٍ وبدونِ أيِّ شططٍ أو عصبيّة، وانتهينا بعدَ هذا البحثِ إلى أنَّ رسولَ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم نبيٌّ مرسلٌ من عندِ ربّهِ لم يفتئت على خالقٍ ولا على مخلوق، فقادنا هذا اليقينُ إلى قدسيّةِ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم. وحديثُنا عن السّنّةِ كذلك، وحديثُنا عن أصحابِ رسولِ اللهِ والخلفاءِ الرّاشدين كذلك.

إذاً تقديسُنا للإسلامِ لم يكن أمراً مبدئيّاً اعتباطيّاً ساقتنا إليهِ العصبيّة، ولكنّهُ نتيجةُ دراسةٍ موضوعيّةٍ نقديّةٍ تامّة. وإذا كانَ بيننا من لم يتأمّل في الإسلامِ بعدُ كما تأمّلنا، ومن لم يدرس كتابَ اللهِ كما درسنا، ومن لم يدرس شخصيّةَ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ كما فعلنا، فلا عليهِ أن يبدأَ هو من نقطةِ الصّفر، بل نحنُ نبيحُ لهُ وندعوهُ إلى أن يبدأَ دراستَهُ لذلكَ كلّهِ بعيداً أيِّ تدجيل. ولكنّا نطلبُ منهُ أن يسيرَ في الطّريقِ الذي سرنا فيه، نطلبُ منهُ أن يتأمّلَ كما تأمّلنا، نطلبُ منهُ أن يحرّرَ يديهِ وعقلهُ من الأغلال، نطلبُ منه أن يحرّرَ كيانهُ من التّبعيّةِ الذّليلة لأناسٍ هناكَ في أقصى الشّرقِ أو الغرب، نطلبُ منهُ هذا التّحرّرَ فقط. وسيصلُ إلى النّقطةِ التي وصلنا إليها.

ونطلب شيئاً أخرُ نطلب: أن لا يطلبَ هؤلاءِ المتخلّفون الذينَ لا يزالونَ يقفونَ في أوّلِ الطّريقِ وعندَ نقطةِ الصّفر، حيثُ لم يدرسوا الإسلامَ بعد، ولم يدرسوا كتابَ اللهِ بعد، نطلبُ منهم أن لا يطلبوا منّا وقد سرنا بعدهم أشواطاً، نريدُ منهم أن لا يطلبوا منّا أن نرجعَ القهقرى وأن لا نرجع إلى حيثُ هم يقفون، سيروا كما سرنا وتأمّلوا كما تأمّلنا. هذا ما نقولهُ من منطلقِ الوعي الذي نسجهُ إسلامُنا العظيمُ في عقولنا يا عبادَ الله.

نحنُ اليوم تحتوشنا أعاصيرُ وعواصفُ كثيرة، هذه الأعاصيرُ والعواصف تدورُ من حياتنا على محورٍ واحد، وأنا أقسم غيرَ مبالغٍ ولا متأثّم، إنّها لا تدورُ من حياتنا على محورِ المال، ولا تدورُ من حياتنا على محورِ أرض، ولا تدورُ من حياتنا على محورِ أيِّ مظهرٍ من مظاهرِ الغنى أو (التّراث) بالمعنى السّليمِ لهذه الكلمة، وإنّما تدورُ هذه العواصف على محورٍ واحد. ألا وهو هذا الدّينُ العظيمُ الذي أكرمنا اللهُ عزَّ وجلَّ به، والذي امتنَّ اللهُ بهِ علينا إذ قال في محكمِ كتابه: ((اليومَ أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكمُ الإسلامَ ديناً)). وما أظنُّ أنَّ هنالكَ تاجاً توِّجَ بهِ الإنسانٌ من قِبَلِ ربِّ الإنسانِ أجلَّ وأعظمَ من هذا التّاج، هذا التّاج كنزٌ يبعثُ في حياتهِ الغنى، هذا التّاج مصدرٌ يكوّنُ لديهِ القوّةَ التي لا تُغلَب، هذا التّاجُ يؤلّفُ في حياتهِ نسيجَ التّآلفِ والوحدةِ الإنسانيّةِ الصّحيحة. ولذلك فلم يكن غريباً ولا يكونَ غريباً أن تحاولَ مصادرُ الكيدِ للإنسان اصطيادَ هذه الحقيقةِ التي توّجنا اللهُ عزَّ وجلَّ بها، ولم يكن غريباً عن هؤلاءِ النّاس أن يصطنعوا فيما بيننا العملاءَ لأنفسهم، وأن يستنطقوهم بألسنتهم، وأن يقوموا هم بدورِ الملقّنِ على المسرح، ويقومُ هؤلاءِ الصّغار بدورِ الذي يتحرّكُ فوقَ المسرحِ جيْأةً وذهاباً. ولكن أرأيتم إلى هذه العواصفِ والأعاصيرِ كلِّها، واللهِ الذي لا إلهَ إلا هو إنّها لأقلُّ شأناً من أن تزعزعَ اليقينَ الإيمانيَّ الإسلاميَّ في فكرِ طفلٍ بلغَ رشده.

وقد بلغنا رُشدَنا، وعرفنا جوهرَ ديننا، وعرفنا العزّةَ التي ورّثنا اللهُ عزَّ وجلَّ إيّاها، وعرفنا أنَّ الأديانَ السّابقةَ لم تخترع من لدُنها ديناً ولم تورّثنا شيئاً ممّا اخترعتهُ من جرّاءِ ذلك. نحنُ نعلمُ هذا، وينبغي لكلِّ مسلمٍ أن يعيَ هذه الحقيقةَ التي أقولُها، فإذا وعاها ثمَّ رأى أو سمعَ كلماتٍ تنطقها أفواه ممجوجةٌ في الآذان، ثقيلةٌ في الوعيِ والعقولِ والقلوب فإنّهُ لن يجدَ من خلالِ ما يسمع إلا مزيداً من اليقين بالحقيقةِ التي متّعهُ اللهُ سبحانهُ وتعالى بها.

أرأيتم إلى الرّجلِ الذي يحملُ صندوقاً لا يعلمُ ما في داخله ولكنّهُ التفتَ فرأى المتربّصينَ بهِ يحدقونَ بهِ وبصندوقه، وإنَّ ألسنتهم لتلهثُ طمعاً في هذا الصّندوق، أرأيتم إلى هذا الإنسان ألا يزدادُ تمسّكاً بصندوقه؟ ألا يزدادُ يقيناً بأنَّ ما فيهِ شيءٌ ثمين؟ هذه هي حالُنا اليوم، هذا هو واقعُنا اليوم، دينُنا الإسلاميّ تنزّلَ من عندِ اللهِ عزَّ وجلّ هديّةً وتتويجاً لبني الإنسان، ولم يكن تراثاً نبعَ من أفكارِ بني الإنسان.

حقيقةٌ معروفةٌ افهموها ولا تغرّنّكم ألفاظُ العلمِ وكلماتُ العلم، التي يعوزها جذور العلم، والتي يعوزها مضمون العلم، وما أكثرَ الجهّال الذينَ تفوحُ رائحةُ العفن من جهالتهم، ولكنّهم يغطّونَ جهالتهم هذه بألفاظٍ وكلماتٍ وعناوينَ علميّةٍ برّاقة، لكن منذا الذي ينخدع؟

أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيم...

تحميل



تشغيل

صوتي