مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 26/05/1989

حقيقة الحياة الدنيا

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

إنَّ النّاسَ كانوا ولا يزالونَ في نظرهم إلى الدّنيا وأحداثها فريقينِ اثنين: فريقٌ ينظرُ إليها نظرةً سطحيّةً بلهاء. وفريقٌ آخرُ ينظرُ إليها من خلالِ عقله ومن خلالِ تفكيرهِ ووعيه.

أمّا الفريقُ الأوّل: فينظرُ إلى الدّنيا نظرتهُ السّطحيّةَ البلهاء فيرى فيها صورتين متمايزتينِ مختلفتينِ لشرٍّ ولخير، يتصوّرُ أنَّ هذا العالمَ مسرحٌ لشرٍّ لا خيرَ فيه ولخيرٍ لا شرَّ فيه، ويتساءَلُ عن الحكمةِ والسّبب، وربّما هداهُ تصوّرهُ الخرافيُّ هذا إلى ما تصوّرهُ كثيرٌ من الأسطوريّينَ في يومٍ ما: أنَّ لهذا الكونِ إلهين: إلهُ يسوسُ الخيرَ الذي فيه، وإلهٌ آخر يرعى الشّرَّ الذي فيه.

وأمّا الفريقُ الثّاني الذي ينظرُ إلى الدّنيا من خلالِ عقله ومن خلالِ منظارِ وعيهِ وفكره: فإنَّ هذا الفريقَ يتجاوزُ الظّواهرَ إلى الجذور، فإذا وقفَ عندَ الجذور رأى أنَّ ينابيعَ كلِّ شيءٍ إنّما تتجمّعُ في خيرٍ مطلق، وأنَّ الأغصانَ والفروعَ مهما بدت مختلفةً متنوّعة فإنّها تنتمي إلى جذعٍ واحدٍ لا ثانيَ لهُ ألا وهوَ النّعمةُ المطلقة والخيرُ المطلق، وإذا تأمّلَ عندَ هذا الجذعِ وفكّرَ هُديَ إلى اليدِ الكريمةِ المعطاءة التي تسوسُ جذعَ هذا الخيرَ كلّه، وترعاهُ وتفرّعهُ ألواناً وأشكالاً وتجعلُ منهُ نعماً ظاهرةً ونعماً باطنة، وينظرُ إلى هذه اليد، ألا وهيَ يدُ ربِّ العالمينَ سبحانهُ وتعالى، فيرى أنَّ الكونَ كلّهُ يُساسُ في قبضةِ اللهِ سبحانهُ وتعالى وحكمه، وأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ ليسَ عندهُ إلا الخيرُ المطلق، وإلا النّعمةُ الدّائمة، ومن ثمَّ فإنَّ الحوار الذي يخاطبُ به العبدُ ربّهُ في اليومِ خمسَ مرّات، إنّما هو حوارُ الاعترافِ بنعمةِ اللهِ وفضله: ((الحمدُ للهِ ربِّ العالمين * الرّحمنِ الرّحيم)).

ولو أنَّ الدّنيا كانت تُساسُ بيدٍ من الخيرِ وأخرى من الشّر، لما صحَّ أن يكونَ هذا الحوار هو الحوارَ المتكّرّرَ الذي يُخاطبُ بهِ العبدُ ربّهُ في كلِّ يومٍ خمسَ مرّات.

ولكن لماذا ننظر فنرى الأشياءَ متنوّعة نرى بعضاً منها يتّسمُ بما يسمّى الشّر، ونرى بعضاً منها يتّسمُ بما هو الخير. تلكَ هي آثارُ النّظرةِ السّطحيّةِ يا عبادَ الله، التي ينبغي أن نتجاوزها، وما دامَ الإنسانُ عاقلاً واعياً ما ينبغي أن ينظرَ إلى الأشياءِ نظرةً صبيانيّةً حبيسة.

إنَّ الطّفلَ الذي يأكلُ فاكهةً لذيذةً من الفواكه وهو يتخيّلُ أنّهُ يجب أن يقضمها جميعاً وأن يحسَّ باللذّةِ في كلِّ جزءٍ منها، وإذا بهِ يفاجَئ بأنّهُ يقضمُ نواةً قاسيةً صلبة أدخلتِ الألمَ بدلاً من اللذّةِ بينَ أسنانه، يتصوّر أنَّ هذا الطّعامَ مزيجٌ من خيرٍ وشرّ، ولكنَّ الإنسانَ الذي يتناولُ هذه الفاكهة بنظرٍ ثاقبٍ ووعيٍ عقليّ: لا يجدُ في هذه النّواةِ إلا مظهراً لخيرٍ ثانٍ، لا يجدُ في هذه النّواةِ القاسية إلا مظهراً لامتدادِ هذه الفاكهة واستمراريّتها، وضمانُ بقاءِ هذه المائدة ممتدّةً أمامَ الإنسانيّةِ إلى أن يرثَ اللهُ الأرضَ ومن عليها.

فإنسانٌ ينظر نظرةً سطحيّةً بلهاء يقول: إنَّ الكونَ منقسمٌ إلى شرٍّ وخير. وإنسانٌ ينظرُ هذه النّظرةَ العميقة: يرى الأمرَ كلّهُ خيراً ولكنّهُ خيرٌ متنوّع. وذو النّظرةِ الصّبيانيّةِ البلهاء الذي يسيرُ في الشّوارعِ في قُرِّ الشّتاء، فتتهاطلُ الأمطارُ فوقَ رأسه، ويرى أنَّ ثوبهُ يتبلّلُ من قطراتِ المطرِ الهاطلة من السّماءِ على الأرض، ربّما يتأفّف ويتضجّر ويتساءل ما حكمةُ هذا الشّرّ؟ ولكنَّ الإنسانَ الذي ينظرُ إلى هذه الأمطارِ السّخيّة من خلالِ منظارِ عقله ووعيه وإدراكِ الحكمةِ الإلهيّةِ المعطاءة يتبدّدُ هذا التّصوّر من خلالِ وقوفهِ أمامَ فضلِ اللهِ عزَّ وجلّ، ويعلمُ أنَّ كلَّ قطرةٍ نعمة، وأنَّ هذا المطرَ الهاطل إنّما لسانُ فضلٍ وعطاءٍ من اللهِ سبحانهُ وتعالى، وينسى في غمارِ هذه النّظرةِ ثيابهُ المتبلّلة وتلكَ المشكلاتِ الجزئيّة التي قد يمرُّ بها.

وإذا ازدادَ الإنسانُ تصوّراً وتدبّراً بحكمةِ الله علمَ أنَّ اللهَ قد جبلَ الإنسانَ وفطره على أن لا يدرك جمالَ الصّورةِ الخيّرة إلا من خلالِ الإطارِ الذي يحدُّ هذه الصّورة، والإطارُ الذي يحدّها ينبغي أن يكونَ فاصلاً بينها وبينَ نقيضها. الإنسانُ الذي يدركُ الحقائق يعلمُ أنَّ المغنم لا يحدّهُ إلا المغرم.

وهكذا يقفُ هذا الإنسانُ الواعي المتدبّر أمامَ محرابِ الرّبوبيّةِ للرّبّ وهو يصغي بتدبّرٍ إلى قولِ اللهِ عزَّ وجلّ: ((هو الذي سخّرَ لكم ما في السّماواتِ وما في الأرض وأسبغَ عليكم نعمهُ ظاهرةً وباطنة ومنَ النّاسِ من يجادلُ في اللهِ بغيرِ علمٍ ولا هدىً ولا كتابٍ منير)). ليسَ عندَ اللهِ إلا النّعمة، ولا يبعثُ لكَ إلا الخير، ولكن إمّا أن تكونَ نعمةً ظاهرةً يتبيّنُها الطّفلُ والكبير. أو ربّما تكونُ نعمةً خفيّةً تغيبُ عن بالِ الطّفلِ وذي النّظرةِ البلهاء ولكن لا يمكنُ أن تغيبَ عن ذي النّظرةِ المتدبّرةِ الواعيةِ العاقلة. هكذا يربّينا القرآن من خلالِ منهجٍ علميٍّ دقيق، وهكذا يربّى العبدُ الصّالح الذي يسيرُ على صراطِ اللهِ سبحانهُ وتعالى العزيزِ الحميد.

ونتيجةُ هذه التّربية: هي أنَّ الإنسانَ مهما لقيَ في جنباتِ هذه الحياة، لن يشمَّ من هذا الذي يلقاه إلا عبيرَ النّعمة، وإلا أطيبَ معاني الخير يفدُ إليهِ من اللهِ سبحانهُ وتعالى. فإن لم يفهم، وإن ضاقت عليهِ السُّبُلُ للتحليل، وقفَ أمامَ قولِ اللهِ عزَّ وجلَّ: ((وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم وعسى أن تحبّوا شيئاً وهو شرٌّ لكم واللهُ يعلم وأنتم لا تعلمون)).

كثيرونَ هم الذين يسيرونَ على الأول من خلالِ النّظرةِ السّطحيّةِ التي حدّثتكم عنها، وما أحراهم أن يتأمّلوا ويتدبّروا. إذا شيكَ أحدهم بشوكة تأفّفَ وتساءل: ما الحكمة؟ وإذا حبسهُ المرض تساءَلَ: ما السّرُّ وما الحكمة وماذا فعلت حتّى يصيبني اللهُ عزَّ وجلَّ بهذا المكروه؟ دواءُ هؤلاءِ النّاسِ أن يعقلوا، وأن يتدبّروا، وأن لا يكونوا مثلَ ذلكَ الطّفلِ الذي قضمَ الفاكهة إلى آخرها، فلمّا أحسَّ بالشّدّةِ التي لقيتها أسنانهُ بسببِ قضمهِ لتلكَ النّواةِ المتحجّرة، تساءلَ عن الحكمةِ والسّبب، وفي كتابِ اللهِ ما يشرحُ كلَّ شيء وفي كتابِ اللهِ ما يضعُ النّقاطَ على كلِّ أمرٍ خافٍ. فهل متدبّرٍ في كتابِ الله؟ وهل من واقفٍ عندَ شروحِ ذلك في سنّةِ رسولِ الله صلى اللهُ عليهِ وسلّم؟

كلُّ الآلامِ التي يراها الإنسان وكلُّ المصائبِ التي قد تمرُّ به نعمٌ خفيّةٌ ولكنّها مقنّعةٌ بمظهرٍ رقيق، الحكمةُ من ذلك أن يسوقَ هذا القناعُ الإنسانَ إلى محرابِ العبوديّةِ للهِ عزَّ وجلّ. واللهُ سبحانهُ وتعالى لا يحبُّ أن ينتقلَ عبدهُ إلى رحابِ الآخرةِ إلا نقيّاً من الأدران، نقيّاً من السّيّئاتِ كلّها، وقانونُ اللهِ سبحانهُ وتعالى قضى وقضاؤهُ لا مردَّ له: أنَّ كلَّ من ارتكبَ شيئاً لا بدَّ أن يجزى به، أليسَ هو القائل: ((ليسَ بأمانيّكم ولا بأمانيِّ أهلِ الكتاب من يعمل سوءاً يُجزَ به ولا يجد لهُ من دونِ اللهِ وليّاً ولا نصيراً))؟ ((من يعمل سوءاً يُجزَ به))، هذا كلامٌ مخيف. ولقد خوّفَ هذا الكلامُ سيِّدَنا أبا بكرٍ رضيَ اللهُ عنهُ قبلَ أن يخوّفنا نحن، وهُرِعَ إلى المصطفى عليهِ الصّلاةُ والسّلام عندما نزلت هذه الآية وهو يقولُ: (يا رسولَ الله ما العملُ بعدَ اليوم: ((من يعمل سوءاً يُجزَ به)). من منّا لا يعملُ سوءاً؟ من منّا لا يرتكبُ سيّئة؟ من منّا لا يسرفُ على نفسهِ في ساعةٍ من ليلٍ أو نهار)؟ فماذا قالَ لهُ المصطفى عليهِ الصّلاةُ والسّلام؟ "غفرَ اللهُ لكَ يا أبا بكر، ألستَ تمرض؟ ألستَ تحزن؟ ألستَ تصيبُكَ اللأواء؟ فذلكَ ما تُجزَونَ به".

والإنسانُ الغافل يسيرُ في فجاجِ هذه الحياة، يُصابُ برَشَاشِ الأمراض لا يدري ما الحكمة؟ وأيُّ فضلٍ أجلُّ من هذا الفضل؟ فإذا ابتُليتَ ينبغي أن تُدركَ الحكمة، وينبغي أن تجتازَ قناعَ هذا الابتلاءِ وظاهره لتدركَ النّعمةَ الخفيّةَ التي تنبضُ في داخلها. اللهمَّ اجعلنا من أولئكَ العبيد الذين أدركوا مدى فضلك وعلموا واسعَ فضلكَ ورحمتك، وارزقنا اللهمَّ شكرَ آلائِكَ الظّاهرةِ والباطنة. أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ، فاستغفروهُ يغفر لكم...

تحميل



تشغيل

صوتي