مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 19/05/1989

عندما يكون الإسلام جسداً لا روح فيه

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

إذا كانَ من المعلوم أنَّ الإنسانَ مكوَّنٌ من جسدٍ وروح، وأنَّ الجسدَ إنّما يفيدُ ويحقّقُ جدواهُ بواسطةِ الرّوح، فإذا لم تكنِ الرّوحُ ساريةً في أوصالِ هذا الجسدِ كانَ وجودهُ أشبهَ بالعدم. إذا كانت هذه الحقيقةُ معروفةً لنا جميعاً فإنّنا نقول: إنَّ الدّينَ الذي ابتعثَ اللهُ بهِ رسُلَهُ وأنبياءهُ إلى البشرِ عامّةً أشبهُ ما يكون بهذا الكيانِ الإنسانيّ.

هذا الدّين يتكوّنُ هو الآخر من جسدٍ وروح: أمّا الجسد: فهو يتألّفُ من مجموعةِ الشّرائعِ والأوامرِ والنّواهي والآدابِ السّلوكيّة التي أمرَ اللهُ عزَّ وجلَّ بها. وأمّا روحُ الإسلام: فهو الإخلاصُ لوجهِ اللهِ سبحانهُ وتعالى.

لا فرقَ بينَ الدّينِ والكيانِ الإنسانيِّ في هذا النّطاقِ قط، كما أنَّ الإنسانَ مؤلّفٌ من جسدٍ وروح، فكذلكمُ الدّين مؤلّفٌ هو الآخر من جسدٍ وروح. جسدُ هذا الدّين: الأعمالُ التي يؤدّيها الإنسانُ من فرائضَ وواجباتٍ ومندوبات، والنّواهي التي يبتعدُ الإنسانُ عنها من مكروهاتٍ ومحرّمات. ولكنَّ روحَ هذا الجسد إنّما تتمثّلُ في الإخلاص لوجهِ اللهِ سبحانهُ وتعالى. فإذا فُقِدَ الإخلاص من القلب، عادتِ الأعمالُ التي يؤدّيها الإنسانُ أشبهَ بجسدِ جاثمٍ هناكَ لا حراكَ بهِ ولا فائدةَ منه، بل هو عبءٌ على أهلهِ وذويه.

أريدُ أن نتبيّنَ هذا المعنى بدقّةٍ يا عبادَ الله، حتّى لا نُخدَعَ بظواهرِ الأعمالِ عن بواطنِ السّرائرِ والإخلاصِ الذي هو منها كالرّوح.

كثيرونَ هم الذينَ يصلّونَ كثيراً ربّما ويسعونَ ذاهبينَ آيبينَ في أنشطةٍ وسلوكاتٍ إسلاميّة، ولكن لو نظرتَ إلى أعماقِ أعماقِ ما استقرَّ في نفوسِ هؤلاءِ النّاس، لرأيتَ الهوى هو القائدَ والسّائق، ولرأيتَ النّفسَ الأمّارة هي التي تتحكّمُ خُفيةً. هذه النّفسُ الأمّارةُ التي يُعَبَّرُ عنها اليومَ على ألسنةِ كثيرٍ من النّاسِ "بالمزاج". فإذا كانَ سلوكُ الإنسانِ وإسلامهُ مظاهرَ وأنشطةً شكليّة، ولكنَّ هذه المظاهرَ والأنشطة منفصلةٌ عن روحها، ألا وهو الإخلاصُ للهِ عزَّ وجلّ. فماذا عسى أن تجديَ هذه الحركات؟ وماذا عسى أن تجديَ الأقوالُ بل الأفعال؟

قليلٌ من القولِ أو العمل يكفي ويفيد إن كانَ هذا القليلُ ينبضُ بحرقةِ الإخلاصِ لوجهِ اللهِ سبحانهُ وتعالى. والكثيرُ الكثيرُ من الأعمالِ لا يفيدُ شيئاً ويذهبُ أدراجَ الرّياح إذا كانت نبضاتُ الإخلاص خفيّةً فيهِ غيرَ واضحة، ينبغي أن نعلمَ هذه الحقيقةَ جيّداً.

ألم يقلِ اللهُ عزَّ وجلّ: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)؟ ألم يقلِ اللهُ عزَّ وجلَّ: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً)؟ (فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً). تلكَ هيَ الإشارةُ إلى الجسدِ من الإسلام، (وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً). وتلكَ هي الإشارةُ إلى روحه ألا وهوَ الإخلاص، بحيثُ يطردُ هذا الإخلاصُ أيَّ شركةٍ في تلكَ الطّاعةِ والعبادة.

ما أكثرَ الذين يَزِنُوْنَ أعمالَهم أو أعمالَ غيرهمُ الإسلاميّةِ بميزان، ويظنّونَ أنّهُ ميزانُ دينٍ وإسلام. ولكنَّ أحدهم لو رجعَ إلى قرارةِ نفسه وإلى أعماقِ قلبه، لرأى أنَّ هذا الميزانِ عبارةٌ عن مزاج. يصبغُ ما يروقُ لنفسه بصبغةِ الجمالِ واللياقةِ والموافقة، فهو الدينُ الحقُّ وهوَ المنهجُ السّديد، ويصبغ ما لا يتّفقُ مع مزاجه ونفسهِ وهواه بصبغةِ المخالفةِ والشّذوذ.

وهكذا فإنَّ الحاكمَ الخفيَّ على السّلوكِ والعمل، سواءٌ كانَ سلوكَهُ هو أو سلوكَ غيره إنّما هو المزاجُ أيِ الهوى، وهذا أمرٌ خفيّ، خفيٌّ جدّاً. من الذي يشعرُ به؟ يشعرُ بهِ أولئكَ الذينَ يحرسونَ أنفسهم ليلَ نهار، يتّهمونَ مشاعرهم في كلِّ آن، يقفونَ أمامَ قولِ اللهِ عزَّ وجلّ: (إنَّ النّفسَ لأمّارةٌ بالسّوء). ولذلكَ فإنَّ أحدهم يرمقُ نفسه من خلالِ نظرةِ اتّهام، هؤلاءِ همُ الذينَ يستطيعونَ أن يتحرّروا عن سلطانِ أمزجتهم، همُ الذينَ يستطيعونَ أن يتحرّروا من قيادةِ أهوائهم وإلا وقعوا في مغبّةِ قولِ اللهِ عزَّ وجلّ: (أفرأيتَ من اتّخذَ إلههُ هواهُ وأضلّهُ اللهُ على علمٍ). هو يؤمنُ بإله، ويدينُ لهذا الإلهِ بولاء، وربّما كانَ اسمُ هذا الإله على لسانِه أو في تصوّرهِ اسمهُ الله الواحدُ الأحد. ولكنّهُ يجعلُ من الحقيقةِ الخفيّةِ التي تهيمنُ على إيمانهِ هذا: النّفسَ الأمّارةَ بالسّوء، المزاج كما يقولون.

مزاجي إنّما يحدو بي ويأمرني أن أحصرَ الدّينَ في حجٍّ إلى بيتِ اللهِ الحرامِ يتكرّرُ كلَّ عام. هكذا يقولُ لي المزاج. إذاً الدّينُ هاهنا يكمن، والقربُ إلى اللهِ بهذا الطّريقِ يتحقّق. تلكَ هي الصّورةُ الظّاهرة وذلكَ هو الجسد. ولكن أينَ الرّوح؟ الرّوحُ مفقودة، والموجودُ في مكان هذه الرّوح إلهٌ آخر هو النّفسُ الأمّارة: المزاج.

شخصٌ آخر يحلو لهُ من الإسلامِ أن يمسك بيدهِ مسبحة وأن يكرّرَ ألفاظاً تقليديّةٌ صباحَ مساء، وأن يجعلَ نفسهُ أمامَ الغادينَ والرّائحينَ في إطارٍ هو ذكرُ الله، في إطارٍ يقولُ إنّهُ ذاكرٌ اللهَ عزَّ وجلّ. هكذا الإسلامُ في مزاجه وهذا هو معنى الدّين فيما يحلو له، ولكنّكَ تنظرُ إلى أنواع أخرى من السّلوكِ في حياتك، وإذا بهذه الأنواعِ غريبةٌ عن الإسلامِ غربةً تامّة. إذا نزلَ إلى السّوق وعافس الدّرهمَ والدّينار وتقلّبَ في أسواقِ التّجارةِ والبيعِ والشّراء فالدّينُ بعيدٌ كلَّ البعدِ آنَذاك. وإذا حانت لهُ صفقةٌ رابحةٌ فما أيسرَ أن يضعَ بينهُ وبينَ الدّينِ حجاباً آنذاك، لأنَّ المزاجَ يقولُ له: الدّينُ ذكرٌ وحركاتٌ وعبادة، أمّا التّجارة فالقرارُ فيها لرغبةِ النّفس، القرارُ فيها للهوى، هكذا يتصوّرُ هذا الإنسان.

أناسٌ آخرونَ فاضت أفئدتهم كراهيةً، أو حقداً أو ضغينةً أو اشمئزازاً من إنسانٍ من النّاسِ أو جهةٍ ما من الجهاتِ بحكمٍ من المزاج، بحكمٍ من الرّغبةِ النّفسيّة، الدّينُ الحقُّ تحتَ سلطانِ هذا المزاج أن يخضعَ لمشاعرِ حقده، ولمشاعرِ ضغينته، ولمشاعرِ أهوائهِ هذه. هكذا يكونُ الدّينُ الحقّ.

وما أكثرَ الأمثلة وما أطولَ أعدادها.. ولكن إذا كانَ الإنسانُ لا يستطيعُ أن يشخّصَ هذا الدّاءَ في كيانِ صاحبه، أفلا يستطيعُ الإنسانُ أن يشخّصَ سلطانَ هذا المزاجِ في كيانه؟ بلى، بلى والله. كيفَ لا والرّبُّ عزَّ وجلَّ يقول: (بل الإنسانُ على نفسهِ بصيرة ولو ألقى معاذيره).

أنا عندما أتظاهرُ بالغيرةِ على دينِ اللهِ عزَّ وجلّ من خلالِ غضبةٍ أصبُّها على كيانِ إنسانٍ ما، أستطيعُ أن أجزمَ وأن أعلم: أهيَ غضبةٌ نابعةٌ من مزاجِ هوىً أم هيَ غضبةٌ هابطةٌ من أمرِ اللهِ عزَّ وجلّ؟ لئن كانَ أصحابي من حولي لا يعرفون ولكنّي أنا أعرف، إنني أعرفُ بكلِّ سهولة إلا إذا كنتُ أمضي حياتي في جنباتِ الأرضِ سكران، لا أستطيعُ أن أعودَ حتّى إلى نفسي فأحاسبَ خلجاتها وأتصوّرَ حركاتها، ومنذا الذي يعيشُ حياتهُ كلّها سكران؟

أيها النّاس إنَّ كثرةَ الطّاعاتِ ولو كانت تشكّلُ جبالاً عاليةً راسية ستذهبُ يومَ القيامةِ أدراجَ الرّياح إن لم تكن راسخةً على جذورٍ أصيلةٍ هي الإخلاصُ للهِ عزَّ وجلّ. والإخلاصُ لله يطردُ من النّفسِ كلَّ مزاج، ويبعدُ عن الكيانِ كلَّ هوىً، ويطهّرُ النّفسَ من كلِّ حظٍ من حظوظِ الشّيطان. وإذا النّفس - بعدَ أن تهيمنَ عليها روحُ الإخلاصِ لوجهِ اللهِ عزَّ وجلَّ - نفسٌ مستسلمةٌ مطمئنّة، وهي التي يناجيها اللهُ عزَّ وجلَّ إذا حانَ حَينُ الإنسان ودنا أجَلُه، يقول: (يا أيّتها النّفسُ المطمئنّة ارجعي إلى ربّكِ راضيةً مرضيّة فادخلي في عبادي وادخلي جنّتي).

ذلكَ هو الجهادُ الأعظمُ الذي أمرَنا بهِ اللهُ إذا قال: (وجاهِدوا في اللهِ حقَّ جهاده). ينطلقُ من تطهيرِ القلبِ وتطهيرِ النّفسِ وإبعادها عن الأمزجة وجعلِها تسيرُ على صعيدٍ طاهرٍ مطهَّرٍ لا يحكمهُ إلا كتابُ الله، ولا يقيّدهُ إلا سنّةُ رسولِ الله صلى اللهُ عليهِ وسلّم، وإن عزَّ على هذا الإنسانِ أن يعلمَ ماذا يقولُ كتابُ الله وماذا تقولُ سنّةُ رسولِ الله، فما أيسرَ أن يعودَ إلى من عُرفوا بالمعرفةِ والعلمِ الدّقيق ثمَّ عُرفوا بالإخلاصِ للهِ عزَّ وجلّ، أولئكَ الذينَ لا يبيعونَ دينهم بدنياهم ولا بدنيا غيرهم، أولئكَ الذين باعوا الدّنيا كلّها من أجلِ الرّحيلِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ برضىً من اللهِ سبحانهُ وتعالى عنهم. فالجاهلُ يرجعُ إلى هؤلاء العلماء، والعالم يرجعُ إلى كتابِ اللهِ وسنّةِ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلّم، وإذا سارَ الإنسانُ على هذا الخطِّ من الجهادِ لقيَ اللهَ وهو عنهُ راضٍ وإن رحلَ إليهِ بعملٍ يسير، وإن رحلَ إليهِ بطاعاتٍ قليلةٍ جدّاً الإخلاصُ غداً يضخّمها. أمّا الأمزجةُ والأهواء فإنّها غداً تُطيرُها.

أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيم فاستغفروهُ يغفر لكم...

تحميل



تشغيل

صوتي