مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 07/05/1989

وصيّةُ هذا العيد

اللهُ أكبرُ ما أقبلَ النّاسُ إلى ربّهم آيبينَ تائبين، اللهُ أكبرُ ما زانت المساجدُ في أنحاءِ الأرض بالذّاكرينَ والمسبّحين، اللهُ أكبر ما أقبلَ اللهُ على عباده في شهرِ رمضانَ بالمغفرةِ والرّحمةِ والرّضوان، اللهُ أكبر، اللهُ أكبر، اللهُ اكبر.

اللهُ أكبر ما تجلّى اللهُ سبحانهُ وتعالى على عبادهِ في صبيحةِ هذا اليوم بالرّحمةِ والرّضوان، اللهُ أكبر ما تصافحت قلوبُ عبادِ اللهِ في هذا اليوم بالمحبّةِ والتّرابطِ والتّضامن، اللهُ أكبر، اللهُ أكبر، اللهُ أكبر.

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد للهِ حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربّنا لك الحمدُ كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيمِ سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنتَ كما أثنيتَ على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيُّهُ وخليلُه، خيرُ نبيٍّ أرسله، أرسله الله إلى العالمِ كلّهِ بشيراً ونذيراً، اللهمَّ صلِّ وسلّم وباركْ على سيّدنا محمدٍ وعلى آلِ سيّدنا محمد، صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين.

أمّا بعدُ فيا عبادَ الله:

إنَّ مبنى هذا الدّينِ كلّه في جملةِ عقائده وأحكامهِ وآدابه، على جمعِ هذه الأمّة على كلمةٍ واحدة، وتكوين الرّابطةِ الإنسانيّةِ فيما بينها، وسحبِ أسبابِ الخلافاتِ مما بينها، فلئن وجدتم أنَّ اللهَ عزَّ وجلّ يأمرُ عبادهُ بمعرفةِ ربّهم وتوحيده، فإنَّ الفائدةَ تصبُّ من وراءِ ذلكَ في هذا الهدف.

وإن رأيتم أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يأمرُ عبادهُ بأن يكونوا قانتين خاشعين عابدينَ له، فإنَّ ذلكَ أيضاً يصبُّ في هذا الهدف.

وإن رأيتم أنَّ اللهَ سبحانهُ وتعالى جعلَ للأزمنةِ مواسم، كما جعلَ للأمكنةِ مقدّساتٍ سامية، فإنَّ ذلكَ أيضاً يصبُّ في هذا الهدف.

وما العيد الذي جعلهُ الله سبحانهُ وتعالى مثابةَ لقاءٍ وتضامنٍ وإعادةِ ألفةٍ بينَ المسلمين، إلا أساساً لهذا المعنى أيضاً؟

ولقد سبقَ من تقديسِ الإسلامِ لجمعِ الكلمة وإقامةِ الرّابطةِ الإسلاميّةِ فيما بينِ عبادِ اللهِ سبحانهُ وتعالى، أن جعلَ أعظمَ العبادات وأجلّها وأبرزها في الشّعائر أساساً لهذه الوحدة، فلقد شرعَ اللهُ سبحانهُ وتعالى اجتماعَ المسلمين على مستوى الحيِّ الواحد، وجعلَ ضمانةً لذلك مشروعيّةَ صلاةِ الجماعة.

كما شرعَ اللهُ سبحانهُ وتعالى لهم الاجتماع والتّلاقيَ والتآلف على مستوى البلدةِ كلها وضمن ذلك إذ شرعَ لهم صلاةَ الجمعة، التي تتكررُ في كلِّ أسبوعٍ مرّة.

ثمَّ إنّهُ شرعَ لهم التّلاقيَ والتّآلف والاتّحاد على مستوى العالم كلّه، وشرعَ لذلك الحجَّ إلى بيتهِ الحرام، وجعلهُ يتكررُ في العامِ مرّةً واحدة، فانظروا إلى مدى أهمّيّةِ التآلفِ في ميزانِ النّظرِ الإلهي، وانظروا إلى قدسيّةِ اتّحادِ المسلمين في ميزانِ مرضاةِ اللهِ سبحانهُ وتعالى.

بل انظروا كيفَ يتجلّى ذلكَ واضحاً في قولهِ عزَّ وجلّ: ((إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بينَ أخويكم))، وفي قولهِ سبحانهُ وتعالى: ((واعتصموا بحبلِ اللهِ جميعاً ولا تفرَّقوا..))،إلى آخرِ الآية.

ينبغي أن نتمكّنَ هذ المعنى ونتفهّمَ قدسيّتهُ في صبيحةِ مثلِ هذا اليوم، ما العيد، وما الفائدةُ التي يعودُ بها الإنسانُ من وراءِ هذا العيدِ الذي شرعهُ الله؟ والذي أعلنَ في كتابه أنهُ يتجلى على عباده في هذا اليوم بالرّحمة والمغفرة، وقبول ما تقرّبوا به إلى الله في شهرهم السّالف.

ما الفائدةُ التي يعودُ النّاسُ بها من وراءِ هذا العيد؟ الفائدةُ العظمى هي أن هذا اليوم يعيدُ ما تناثر من تماسكهم ووحدةِ كلمتهم، هذا اليوم يجمعُ شملهم من جديد، ويسدُّ ما تفتّحَ من الثّغراتِ في حياتهم لأسبابٍ شتّى، ويعيدهم مرّةً أخرى إلى الوئامِ وإلى وحدةِ الشّمل.

معنى العيد أنّهُ يعيد المسلمينَ مرّةً أخرى، على صراطِ اللهِ العزيزِ الحميد، فإذا عرفنا هذا المعنى القدسيّ من خلالِ هذا اليومِ المبارك، أدركنا ضرورةَ السّعيِ إلى تحقيقِ هذا المعنى، وإلى إعادةِ هذا الشّمل إلى المعنى الذي يريدهُ اللهُ عزَّ وجلّ، ألا كم من اُسَرٍ مسلمةٍ تعاني من التّفكّك والاضمحلالِ والتّدابر؟ يمرُّ بنا هذا العيد، وأفرادُ هذه الأسرة غيرُ عابئينَ بنداءِ اللهِ عزَّ وجلّ لهم، أن يصلحوا من شأنهم، وأن يعيدوا وحدتهم إلى ما ينبغي أن تكون عليه من تآلفٍ.

ألا وكم من إخوةٍ وأصدقاء شاعتِ الفُرقةُ بينهم بدلاً من الحبِّ والوئام، وشاعتِ القطيعةُ فيما بينهم بدلاً من المودّةِ والقربى، يمرُّ بهم هذا اليوم فلا تحرِّكُ قدسيّةُ هذا اليومِ في فؤادهم ذرّةً واحدة، هؤلاء الناسُ إن مرَّ بهم مثلُ هذا اليوم وهم على حالتهم من التّدابر والتّقاطع، هؤلاء الناس يبعدون السّبيلَ الواضح من سلوكهم على غضبِ الله عليهم، وعلى مقتهِ لهم، وأسألُ اللهَ سبحانهُ وتعالى العفوَ والعافية من قطيعةٍ تتمثّلُ في أخطرِ أنواعها: ألا وهي قطيعةُ الرّحم، ونسألُ اللهَ العفوَ والعافية من أن نصغيَ إلى كلامِ اللهِ هذا ثمَّ نعطيهُ ظهورنا ولا نصغي إلى خطورته: ((يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ وخلقَ منها زوجها وبثَّ منهما رجالاً كثيراً ونساءاً واتقوا اللهَ الذي تساءلونَ به والأرحام إنَّ اللهَ كانَ عليكم رقيباً)).

وصيّةُ هذا العيد التي تفدُ إلى كلِّ قلب، والتي تهمسُ همسةَ رقّةٍ إلى كلِّ أذن، أنَّ على كلِّ مسلمٍ أن ينظرَ إلى الشّمل الذي يربطهُ بإخوانه، بأفرادِ أسرته، بأصدقائه، بأهلِ حيّه، يعيدُ هذا الشّملَ مرّةً أخرى إلى النّسقِ السّليم، وإلى البناء الثّابت الرّاسخ القويم، تلكَ هي الحكمةُ من هذا اليوم، وهذا هو خطاب هذا العيدِ المباركِ يا عبادَ الله.

ويقيناً لو كانَ هنالكَ سبيل لجمعِ كلمةِ عبادِ اللهِ عزَّ وجلّ تحتَ مظلّةٍ غيرِ مظلّةِ هذا الدّين، لأمرهم الله بالخضوعِ لتلكَ المظلة، ولجعل ذلكَ بديلاً لهم عن الإسلام.

ولكنَّ اللهَ العليمَ الحكيم علم أنّهُ لا يمكن أن يجتمعَ شملُ عبادهِ فوقَ هذه الأرض وقد خُلِقوا بطبائعَ شتّى، وميولٍ مختلفة، وبأنانيّاتٍ متنوّعة، علمَ اللهُ أنهُ لا يمكن أن توجدَ جامعةٌ تضفرهم وتؤلّفُ ما بينهم، إلا جامعةُ الخضوعِ لوحدانيّةِ اللهِ عزَّ وجلّ، والسّير على منهجِ العبوديّةِ للهِ عزَّ وجلّ، وقد وضعَ اللهُ أمامنا لكي ندركَ هذه الحقيقة نموذجاً صغيراً بهذا المعنى، ألا وهوَ: الأسرةُ الصّغيرة، أرأيتم إلى الأسرةِ التي تتكوّنُ من أبوينِ وأولادٍ شتّى، إنَّ هذه الأسرة لا يمكن أن تسعد إلا إذا اجتمعَ شملُها، ولكن ما ضمانةُ اجتماعِ شملِ هذه الأسرة، لا ضمانةَ إلى ذلك إلا خضوعُ أفرادِ هذه الأسرة لربِّ هذه الأسرة.

فعندما يخضعُ الصّغارُ والكبارُ والذكور والإناث لرب هذه الأسرة يجتمعُ شملُ أفرادها، ومن ثمَّ يسعدون، وما زادَ انَّ أفرادَ هذه الأسرة لا يتعرّفونَ على ربٍّ لهم، ومن ثمَّ لا يدينون له بالولاء والطّواعية، فإنّهم يتفرّقونَ ويتبدّدون، ويتنافسونَ فيما بينهم وتشيعُ بينهم البغضاء، وهكذا يشيعُ من ثمَّ بينهم الشّقاء، ما ينطبقُ على واقعِ الأسرةِ الصّغيرةِ هذه، هو ذاته الذي ينطبقُ على واقعِ الأسرةِ الإنسانيّةِ الكبيرة. كذلكم النّاس فوقَ هذه الأرض مدعوونَ إلى أن يجتمعَ يشملهم لكي يسعدَ بعضهم ببعض، ولا يتمُّ ذلك إلا إذا دانوا بالولاءِ والطّواعيةِ لربِّ هذه الأسرةِ الكبيرة، فمن ربُّ هذه الأسرةِ الإنسانيّة؟ اللهُ الواحدُ الأحد. تماماً كما أنَّ اللهَ أقامَ قيوماً ورباً مجازياً للأسرةِ الصّغيرة وأعلمنا أنَّ سلامةَ هذه الأسرةِ الصّغيرة لا تتمُّ إلا بالتآلف، ولا يتمُّ التآلف إلا بالبرِّ لربِّ هذه الأسرة، من الذي يشكُّ في هذه الحقيقة؟

فلنجدد ولاءنا لربِّ هذه الأسرةِ الإنسانيّة بل لربِّ هذا الكونِ كلّه. ولنصطلح مع اللهِ عزَّ وجلّ إن كنّا قد نسيناه، وإن كنّا قد أعرضنا عنهُ فيما مضى من أيّامِ حياتنا، لكي نعيد علاقتنا مع إخواننا فوقَ هذه الأرضِ جميعاً على أساسٍ من الوئام، وعلى أساسٍ من التآلف والعطفِ والتّراحم.

أقولُ قولي هذا وأسألُ اللهَ عزَّ وجلّ أن يجعلَ من توحيدنا الخالصِ لربّنا أساساً لهذا المعنى القدسيِّ الذي نتحدّثُ عنه، فاستغفروهُ يغفر لكم.

نعتذر عن رداءة الصوت

تحميل



تشغيل

صوتي