مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 05/05/1989

حال من اغتنم شهر رمضان وحال من فرط به

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أما بعدُ فيا عبادَ الله:

لعلَّ هذا اليومَ هوَ آخرُ أيّامِ شهرِ رمضانَ المبارك. وأرى في كلِّ عامٍ عندما أصل إلى آخرُ هذا الشّهرِ المبارَكِ أقرنُ دون شعورٍ منّي: بينَ نهايةِ هذا الشّهرِ من العام، وبينَ نهايةِ العمرِ الإنسانيِّ من الحياةِ الدّنيا. كما أقرنُ بدون شعورٍ منّي: بينَ مشاعرِ الفرحةِ في عيدِ الفطر، وإقبالِ النّاسِ على الطّعامِ والشّرابِ بعدَ ابتعادهم عنهما طيلةَ شهرٍ كامل، أجِدُني أقرنُ بينَ هذا وبينَ الفرحةِ التي يدخلُها اللهُ عزَّ وجلَّ في قلوبِ الصّالحينَ من عبادهِ يومَ القيامة.

ولعل من حكم هذا الشّهر، ربطَ الصّلةِ بينَ الدّنيا والآخرةِ وبينَ مصيرِ الإنسانِ في الدّنيا والآخرةِ بعدَ هذا الشّهرِ وبعدَ الموت.

لا شكَّ أنَّ النّاسَ فريقان: فريقٌ أقبلَ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ خلالَ هذا الشّهرِ المنصرمِ فصبرَ ابتغاءَ الوصولِ إلى مرضاةِ الله، وعانى من شدّةِ الجوعِ أو العطشِ ورأى نفسهُ متعباً مكدوداً أمامَ العملِ الذي يقومُ به، والجهودِ التي أقامهُ اللهُ عزَّ وجلَّ عليها، فلم يشأ أن يجعلَ من أتعابهِ وأعمالهِ ووظائفهِ حجّةً لإفطاره، بل صبرَ وقالَ في نفسهِ: إن هيَ إلا أيّامٌ معدودةٌ كما قالَ اللهُ سبحانهُ وتعالى، وها هوَ ذا قدِ انتهى الشّهرُ، وقد انقضتِ الأيّامُ المعدودة. ترى ماذا بقيَ من أتعابِ الصّومِ في الأيّامِ الثّلاثينَ التي مضت؟ ماذا بقيَ من رواسب الظّمأِ أو الجوعِ في نفوسِ الصّائمين؟ لم يبقَ من ذلكَ شيءٌ قَطّ، واستقرَّ في مكانِ التّعبِ الأجرُ العظيم، والرضى الكبيرُ منَ اللهِ سبحانهُ وتعالى.

فئةٌ أخرى منَ النّاسِ لم تجدِ القدرةَ على هذا الصّبر، بل انحطت عائدة إلى طفولتِها، بل إلى شر من كثير من أنواع الطفولة. هؤلاءِ النّاسُ نزّت شهواتُهم في هذا الشّهر، وألحّت عليهم، وسالَ لعابُهم على الطّعام، وعلى الشّراب، وكانوا كحالةِ الطّفلِ الصّغيرِ عندما يُذَكَّرُ بالطّعامِ أو يرى الطّعام. هؤلاءِ النّاس لم يصبروا، ولم يشاؤوا أن يستجيبوا لأمرِ اللهِ سبحانهُ وتعالى أو أن يحصّلوا على مرضاته. ولكن ها هوَ الشّهرُ قد انقضى. هؤلاءِ الآخرون، ترى ماذا بقيَ في أعماقِ نفوسهم من براثنِ شهواتهم وأهوائهم التي اقتطفوها؟ ماذا بقيَ لهم من رواسبِ اللذائذِ التي اشتروها؟

ننظرُ إلى هذا الفريقِ وذاك، فنجدُ الفريقينِ قد عادا بنتيجةٍ واحدة، اللهمَّ إلا شيءٌ واحدٌ افترقَ كلٌّ منهما بسببهِ عن الآخر، ألا وهوَ: أنَّ الصّائمينَ الذينَ أعلنوا من خلالِ صومهم عن تمسّكهم بأمرِ الله، وعن عبوديّتهم لله، وعن صبرهم على اتّباعِ أوامرِ الله. فازوا بأجرٍ عظيم، وسجلوا لأنفسهم شهادةً لا تنقضي ولا تنحصر.

أمّا الآخرونَ فقد سجّلوا لأنفسهم أو على أنفسهم شقاءً وبيلاً، وسجّلوا على أنفسهم غضباً من اللهِ عزَّ وجلَّ عظيماً. ترى ما هو الربح الذي عاد به هؤلاء الذين أسخطوا الله .. وما هي الخسارة الذي عاد بها أولئك الذين أرضوا الله سبحانه وتعالى.

أقول: ما أشبهَ انقضاءِ شهرِ الصّومِ بانقضاءِ العمر. العمرُ شهرُ صومٍ أيّها النّاس، وكما أنّكَ تجدُ أنَّ جهد الصّوم بالامتناعِ عن الطّعامِ والشّرابِ تلاشت في نهايةِ هذا الشّهر، ثمَّ ذبُلت، ثمَّ أصبحت لا شيءَ أمامَ النّتيجةِ التي يعودُ بها المؤمنُ الصّالح. فكذلكَ العُمرُ إذا انقضى، مهما أجهدت نفسكَ في سبيلِ مرضاةِ الله، ومهما بذلت العمر جهاداً في هذا في سبيلِ اتّباعِ أوامرِ اللهِ عزَّ وجلّ، سوف تنقضي الحياة. وإذا انقضت فلسوفَ تجدُ أنَّ كلَّ الجهودِ التي بذلتَها لا شيء، وأنَّ كلَّ الأجهاد التي تحملتها لا شيء، ولسوفَ تجدُ نفسكَ أمامَ كلمةِ المصطفى عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ عندما عادَ إلى دارهِ وسأل: "أبقيَ عندكم من اللحمِ شيء"؟ وكانَ عندَ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ شيءٌ من اللحم. فقالت لهُ عائشة: ذهبَ كلُّها إلا كتفُها. فقالَ عليهِ الصّلاةُ والسّلام: "بل بقيَ كلُّها إلا كتفُها". هذهِ الكلمةُ الجامعةُ التي قالَها رسولُ الله، تنطبقُ على العُمُرِ كلِّه، المالُ الذي دفعتَهُ ابتغاءَ مرضاةِ الله، فسوفَ تجدُ غداً أنّهُ هو الباقي. والذي ادّخرتَهُ في جيبكَ فسوفَ تجدُ أنّهُ هوَ الذي اضمحلَّ ومضى، ولم يفدكَ شيئاً بل كانَ عبئاً عليك. ولسوفَ تجدُ أنَّ التّعبَ الذي بذلتَه، والرّاحةَ التي بدّدتَها، هو الذي بقيَ لك، وهوَ الذي يدافع عنك، وهوَ رأسُ مالكَ الباقي. ولسوفَ تجدُ أنَّ الرّاحةَ التي وفّرتَها لنفسكَ في يومٍ من أيّامِ شبابك، هو الذي مضى وانقضى وهوَ الذي خسرتَهُ حقيقةً. ولكن يا للأسف لا يعرفها الإنسانُ معرفةَ إحساس وشعور إلا عندَ الموت. ولكنّهُ قبلَ ذلكَ محجوبٌ عن هذا الإحساسِ بالدّنيا وأهوائها وتقلّباتِها وشهواتِها.

ولكنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ الحكيمَ الرّحيمَ يمزّقُ هذهِ الحجب ببياناتهِ الساطعة، الواضحة، من خلالِ كلامهِ القديم، وبيانهِ المبين. انظروا إلى حديثهِ عن أولئكَ الذينَ يرحلونَ عن الدّنيا وقد رضيَ اللهُ سبحانهُ وتعالى عنهم، انظروا إلى حديثهِ عنهم: ((فأمّا من أوتيَ كتابَهُ بيمينه * فيقولُ هاؤمُ اقرؤوا كتابيَه * إنّي ظننتُ أنّي ملاقٍ حسابيَه * فهوَ في عيشةٍ راضية * في جنّةٍ عالية * قطوفُها دانية * كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيّامِ الخالية)).

هذهِ الصّورةُ توضحُ لنا ضآلةَ التعب الذي يلقمه الإنسانُ في دارِ الدّنيا أمامَ جزالةِ السّعادةِ التي تنتظرهُ يومَ القيامة. ولكن علمَ ذلكَ من علمَ وجهلهُ من جَهِل، وسيعلمهُ النّاسُ جميعاً غداً. أما الآخرون .. فانظر إلى قولِ اللهِ سبحانهُ وتعالى -وما أكثرَ ما يتحدّثُ عنهم-: ((ولو ترى إذِ المجرمونَ ناكسوا رؤوسهم عندَ ربّهم ربَّنا أبصرنا وسمعنا فارجِعنا نعمل صالحاً إنّا موقنون)). أعِدنا إلى الدّارِ الدّنيا لنصلحَ ما أفسدنا، ولنقوِّمَ الاعوجاجَ الذي تركناهُ من ورائنا. ولكنَّ الألمَ الذي لا ألمَ مثلَه: أنّها أمنيةٌ لن تتحقّق، وأنّهُ حلمٌ يتقاصر الكونُ كلُّهُ عن تطبيقهِ وتنفيذه.

انظروا إلى قولِ اللهِ عزَّ وجلَّ في مكانٍ آخر: ((وأمّا من أوتيَ كتابَهُ بشمالهِ)) كنايةً عن الإنسانِ الذي ختم لهُ بالشّقاء، وأعرضَ عن النذيرِ والبشير: ((وأمّا من أوتيَ كتابَهُ بشماله * فيقولُ يا ليتني لم أوتَ كتابيَه * ولم أدرِ ما حسابيَه * يا ليتَها كانتِ القاضية *ما أغنى عنّي ماليَه)). صحيحٌ أنّهُ تركَ كنوزاً في دارِ الدّنيا كانَ يتباهى بها، وكانَ يمنعُ رفدها. ولكن ها هوَ ذا يسألُ: ((ما أغنى عنّي ماليَه))؟ كلُّه ذهبَ كما قالَ المصطفى عليهِ الصّلاةُ والسّلام: ((هلكَ عنّي سلطانيَه)). وما النّتيجة؟ ((خذوهُ فغلّوه * ثمَّ الجحيمَ صلّوه * ثمَّ في سلسلةٍ ذرعُها سبعونَ ذراعاً فاسلكوه * إنّهُ كانَ لا يؤمنُ باللهِ العظيم * ولا يحضُّ على طعامِ المسكين* فليسَ لهُ اليومَ ها هُنا حميم * ولا طعامٌ إلا من غسلين * لا يأكلهُ إلا الخاطئون)).

ترى هل نستطيعُ أن نأخذَ هذهِ العبرةَ ونجسّدها في آخرِ يومٍ من أيّامِ هذا الشّهرِ المبارك؟ وأن نغمضَ العينَ لنتصوَّرَ أنَّ هذا الشّهرَ فعلاً يصوّرُ لنا العمرَ كلّه؟ وأنَّ العيدَ الذي يليهِ يصوّرُ إقبال الإنسانِ الذي خُتمَ لهُ بالصّلاحِ والتّقوى إلى الله، وقد أدخلَ اللهُ في قلبهِ فرحةَ الخلود. هل بوسعنا أن نعتبر؟ وهل بوسعنا إذا ودعنا هذا الشّهرَ المباركَ أن نبايعهُ ونبايعَ اللهَ على الاستقامةِ الدّائمة؟ وعلى أن تظلَّ بيعَتُنا قائمةً أمامَ اللهِ إلى أن يطرقَ بابَنا ملكُ الموت؟

أسألُ اللهَ عزَّ وجلَّ لنا جميعاً الثّبات، وأسألُ اللهَ سبحانهُ وتعالى أن يهديَنا سواءَ صراطه، فاستغفروهُ يغفر لكم.

[نعتذر عن رداءة الصوت (من المصدر) في الملف الصوتي المرفق]

تحميل



تشغيل

صوتي