مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 10/03/1989

اتهام النفس .. حال لا يعرفه مسلمو اليوم

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

إنَّ من دأبِ الإنسانِ المؤمنِ باللهِ عزَّ وجلّ أن يكونَ رقيباً على نفسه، محاسباً لذاته، متّهماً لسلوكه. وليسَ من شأنِ مؤمنٍ قط أن يتصوَّرَ أنّهُ الإنسانُ المنزّهُ عن الآثام، وأنَّ سلوكَهُ مبرر في كلِّ آنٍ وفي كلِّ حال، ويضعَ منظارَ الاتّهامِ ليتوجّهَ به إلى الآخرينَ من حوله، هذا يتنافى مع شأنِ المؤمنِ وصدقِ إيمانهِ وإسلامه.

ولقد كانَ أصحابُ رسولِ الله صلى اللهُ عليهِ وسلّم يضعُ كلُّ واحدٍ منهم نفسَهُ موضعَ المتَّهَم، ويراقبها في كلِّ حالٍ وفي سائرِ التّقلّباتِ والظّروف، وما تمرُّ مصيبةٌ عامّةٌ أو خاصّةٌ إلا ويرى كلُّ واحدٍ أنّهُ ربّما كانَ هو سببَ هذه المصيبة، وأنّهُ المقصّرَ في جنبِ الله، وأنَّ هذه المصيبةَ أو هذا البلاء إنّما جاءَ بشُؤمه.

ولقد كانَ الإمامُ مالك - إمامُ دارِ الهجرة - رضيَ اللهُ تعالى عنه إذا رأى السّماءَ أرعدت وأبرقت توجّهَ مسرعاً إلى خارجِ المدينة، فإذا سُئِلَ أجاب بتصوّرٍ ويقين أنَّ المدينة مشرفةٌ على عذابٍ بسببهِ وجرمه، فهو يصرُّ على أن يخرجَ منها لكي يقيَ اللهُ سبحانهُ وتعالى أهلها الهلاكَ بسببه. وهو الإمامُ مالك الذي سمعتمُ الكثيرَ من ترجمته هو هو إمامُ دارِ الهجرة.

هكذا حالُ المسلمِ المؤمن عندما يكونُ في ذروةِ التّقى، وعندما يكونُ سالكاً سبيلَ الاستقامةِ على الله. فكيفَ بهذا المسلم عندما يكونُ مستغرقاً في المعاصي والآثام؟ أليسَ على هذا المسلم أن يتّهمَ نفسهُ أضعافَ ما كانَ يتّهمُ الصّحابةُ والتّابعونَ أنفسهم به؟ ولكنّنا ننظرُ إلى حالِ المسلمينَ اليوم فنجدهم على النّقيضِ من ذلكَ إلا من رحمَ ربُّك.

إذا نظرَ المسلم إلى الدّنيا التي من حوله، أو إلى المدينةِ التي يعيشُ فيها، ورأى مظهرَ بعضِ الشّدائد، ودلائلَ بعضِ المصائب، اتّهم كلَّ أحدٍ من حوله إلا نفسَه، وتصوَّرَ أنَّ هذا من شؤمِ زيدٍ أو عمروَ أو عمن هو عن يمينهِ أو شمالهِ أو من فوقهِ أو من تحته، إلا أن يتصوّرَ أنَّ ذلكَ من شؤمِ نفسه وهو ينزّهها عن كلِّ زيغ، وينزّهها عن كلِّ خطأٍ وخطل. ولو أنَّ الواحدَ منّا كانَ من استقامتهِ كأصحابِ رسولِ الله، أو كالتّابعين الذينَ جاؤوا بعدَ صحابةِ رسولِ الله صلى اللهُ عليهِ وسلّم، لتخيّلنا لهم بعضَ العذرِ في ذلك. ولكنّهم مَن؟ مسلمون لم يتمسّكوا من الإسلامِ إلا بالقشور، وليتَ أنّهم تمسّكوا من هذه القشور بقشورٍ حقيقيّةٍ غيرِ مرقعة أو مزيّفة.

المسلمونَ اليوم - وأعودُ فأستثني قائلاً: إلا من رحمَ ربُّكَ وقليلاً ما - مستغرقونَ في حمأةِ المعاصي والآثام. المفتقرونَ منهم يبرّرونَ لأنفسهم الولوغَ في حمأةِ السّيّئاتِ والمعاصي بحجّةِ الاضطرار، بحجّةِ أنّهم فقراء، وأنَّ اللهَ ينبغي أن يستثنيهم من أحكامهِ وشرعته. يمدُّ يدهُ إلى الرّبا بحجّةِ أنّهُ فقيرٌ مضطر، يقتحم الغشَّ والمكرَ والخداعَ في المعاملاتِ بحجّةِ أنّهُ فقيرٌ مضطر، يمدُّ يدهُ إلى المال من أيِّ السُّبُلِ لاحَ لهُ هذا المال بحجّةِ أن لا عليهِ حرج لأنّهُ فقيرٌ مضطر، وما هو بمضطر. وإنّهُ بالنّسبةِ لكثيرٍ من أصحابِ رسولِ الله صلى اللهُ عليهِ وسلّمَ يعيشُ في حالةٍ من الغنى والتّرف، ولكنّهُ يبرّرُ لنفسهِ ذلك الانحراف بهذا التصور والادّعاء، وإن أكرمَهُ اللهُ سبحانهُ وتعالى بالغنى وأغدقَ عليهِ المال حطّمَ حواجزَ الشّرعِ بقدمِ الطّغيان، ونسيَ أومرَ اللهِ سبحانهُ وتعالى ونواهيه، ونسيَ الرّقابةَ على دارهِ وأهلهِ وأولادهِ وبناته. تدخلُ إلى دارهِ فتجدُ علائمَ الطّغيان ترفرفُ في أنحائها، وإذا لاحت لكَ نظرةٌ إلى أولادهِ وبناتهِ لم تتصوّر قَط أنّهم أولادُ مسلمين، وإذا اطّلعتَ على منهاجِ حياتهِ اليوميِّ وسهراتهِ في ليله، والعملِ الذي يقطعُ بهِ ساعاته، رأيتَهُ مندمجاً في كلِّ نوعٍ من أنواعِ اللهوِ إلا أن يقبلَ إلى اللهِ عزَّ وجلّ، هكذا أطغاهُ المال. وصدقَ الباري عزَّ وجلَّ إذ يقول: (كلا إنَّ الإنسانَ ليطغى أن رآهُ استغنى)، ويا عجباً للدقّةِ العجيبةِ في بيانِ اللهِ إذ يقول: (أن رآهُ استغنى) ولم يقل (لأنّهُ استغنى). لأنَّ العبدَ لا يستغني أبداً.

العبد يظلُّ فقيراً لأنّهُ عبد، لا يمكنُ للعبدِ أن يصبحَ غنيّاً أبداً، وصدقَ اللهُ القائل: ((يا أيّها النّاسُ أنتم الفقراءُ إلى الله واللهُ هو الغنيُّ الحميد)). ولذلكَ جاءَ التّعبيرُ دقيقاً: ((كلا إنَّ الإنسانَ ليطغى)) أن خُيِّلَ إليه أنّهُ استغنى، هذا معنى كلام الله عز وجل. ومن هنا تتضاعفُ الجريمةُ في حقّه. الجريمةُ الأولى: أنّكَ تخيّلتَ نفسكَ أصبحتَ غنيّاً وما أنتَ بالغنيِّ ولن تكونَ غنيّاً لأنّكَ تعيشُ في قبضةِ اللهِ سبحانهُ وتعالى، وما تتصوّرهُ من عطاءٍ وغنىً ومال كلُّ ذلكَ ملكُ اللهِ وأنتَ ملكُه. تلكَ هي الجريمةُ الأولى؛ جريمةُ تصوّرهِ أنّهُ قد أصبحَ غنيّاً. الجريمةُ الثّانية: أنّهُ يسخّرُ نعمةَ الله، كرمَ الله، عطاءَ الله في عصيانِ اللهِ سبحانهُ وتعالى.

تلكَ هي حالُ المسلمينَ إلا من رحمَ ربُّك في هذه البلدةِ وغيرِ هذه البلدة، الفقراءُ منهم يتأفّفونَ من حكمِ اللهِ عزَّ وجلّ ويبرّرونَ لأنفسهم كلَّ محرّم بحجّةِ أنّهم فقراء، أنّهم مضطرّون، وكذبوا في دعوى الاضطرار. فإن أغناهمُ اللهُ سبحانهُ وتعالى طغوا وبغوا، ونسوا اللهَ سبحانهُ وتعالى في سلوكهم، وفي مظهرِ بيوتهم، وفي أحوالهم. وفي ذهني صورٌ لأناس كانوا بالأمسِ فقراء يعرفونَ نسبتهم إلى الله، وأصبحوا اليومَ في تصوّرهم كما يقولُ الله أغنياء، قطعوا الصّلةَ التي كانت بينهم وبينَ اللهِ عزَّ وجلّ. ادخل إلى بيتِ واحدٍ منهم، انظر كيفَ لكَ تفتحُ لكَ ابنتهُ البابَ وهيَ في مظهرٍ لا تشكُّ أنّها إنسانةٌ لا علاقةَ لها في دينِ الله، وإنّما وفدت سائحةً من أقصى بلادِ الغربِ أو الشّرق، وأبوها كانَ يحجُّ بيتَ اللهِ الحرام، وكانَ ذا صلةٍ بالله يومَ كانَ يأتيهِ رزقه مقتراً. فلمّا أكرمهُ اللهُ بالنّعمة وأغدقَ عليهِ المال، حطّمَ صلةَ ما بينهُ وبينَ اللهِ عزَّ وجلّ.

ومع ذلكَ فالمصيبةُ الكبرى لا تكمن هنا. المصيبةُ الكبرى أنَّ هؤلاءِ النّاسِ إذا اجتمعوا في مجلس، وتباحثوا مصائبَ البلدةِ وشدائدها التي تمرُّ بهم تأففوا وضجروا وتساءلوا عن السّبب، وألقى كلٌّ منهم المسؤوليّة على فلانٍ أو فلانٍ أو الفئةِ الفلانيّةِ من النّاس. تلكَ هي المصيبةُ الكبرى: أن نرفعَ أنفسنا ونجعلها في مصاف الملائكة، فنحنُ لم نعص ونحنُ لم نرتكب ما يغضبُ الله، ونحنُ البرآء، وأيدينا مهما شممناها أيدٍ طاهرةٌ نقيّة، وينبغي أن نوزّعَ الاتّهام على الآخرين. أينَ هذا يا عبادَ الله من عملِ واحدٍ مثلِ الإمامِ مالك رحمهُ اللهُ تعالى؟ عندما كانَ يرمقُ بطرفهِ السّماءَ فيجدُ غيوماً داكنةً سوداءَ قد أقبلت وفي تضاعيفها رعودٌ وبروق، يخرجُ متسلّلاً إلى خارجِ المدينة وقد وقرَ في يقينهِ أنَّ هذا من شؤمه، وأنَّ هذه المدينةَ بينَ يدي عذابٍ من اللهِ عزَّ وجلَّ لمعصيةٍ ارتكبها هو. هكذا يرى مالك، أنَّ المصائبَ التي تأتي إلى البلدةِ التي هوَ فيها من شؤمه، وفسّاقُنا من أغنياءِ المسلمينَ وفقرائهم يرفعونَ أنفسهم إلى مصاف الرُّسُلِ والأنبياءِ وينسونَ عفنَ حياتهم وبعدهم عن اللهِ عزَّ وجلّ، وحربهم لدينِ اللهِ سبحانهُ وتعالى في مظهرِ أولادهم وبناتهم، فإذا حانَ أن يتساءلوا عن سرِّ هذه الشّدائد نظروا يميناً وشمالاً، أو نظروا إلى الأعلى أو إلى الأدنى، واتّهموا غيرهم ونسوا أنفسهم.

تلكَ هي المصيبةُ الثّانية، فمتى نصحو أيّها الإخوة؟ متى نستغفرُ اللهَ بحقّ؟ ومتى نتوبُ إلى اللهِ بجدّ؟ ومتى نجعلُ من الفقرِ أداةً للصّبرِ الذي يقرّبنا إلى الله؟ ومن الغنى ينبوعَ الحبِّ الذي يقرّبنا أيضاً إلى الله؟ أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيم...

تحميل



تشغيل

صوتي