مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 03/03/1989

لهذا ينبغي أن نهرع إلى صلاة الاستسقاء

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

اعتادَ الخطباءُ في مثلِ هذا اليوم أن يتحدّثوا عن ذكرى الإسراءِ والمعراج، ومن يتكلّمُ عن قصّةِ هذه الخارقةِ التي أكرمَ اللهُ عزَّ وجلَّ بها نبيّهُ محمّداً عليهِ الصّلاةُ والسّلام.

وقد غدا الحديثُ عن هذه الذّكرى في مثلِ هذا اليومِ أشبهَ ما يكونُ بحديثٍ تقليديٍّ مكرّرٍ مُعَاد. ومعَ ذلكَ فقد فكّرتُ في أن أسيرَ على هذه العادة، وأن لا أخالفَ نهجاً اعتادَ النّاسُ سماعه، واعتادَ الخطباءُ السّيرَ فيه.

ولكنّي فكّرت.. فاختجلت - والحقَّ أقولُ لكم - اختجلتُ من رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم أن أتظاهرَ بالاهتمامِ بذكراه والحديثِ عن خوارقه، وأن أقولَ في ذلكَ كلاماً منمّقاً.

ومع ذلكَ فأنظر وإذا بأهمِّ سنّةٍ من سننِ المصطفى عليهِ الصّلاةُ والسّلامِ مُهدَرَة، وإذا بأهمِّ شعائرهِ التي يدعونا إليها هذا الظّرفُ ذاتُه مطويّاً وملقىً وراءَ الأظهُر. اختجلتُ بنفسي أن يكونَ كلامي نفاقاً، وأن أتحدّثَ عن ذكرى الإسراءِ والمعراج، ولا يكونُ حديثي إلا مساهمةً في نسجِ إطارِ كاذبٍ لاتّباعٍ مزعومٍ كاذب لسنّةِ المصطفى عليهِ الصّلاةُ والسّلام.

نحنُ بأيِّ عامٍ نمرّ؟ وأيِّ الفترات تمرُّ بنا؟ أنحنُ في صيفٍ قائظٍ؟ أم في شتاءٍ ماطر؟ هل لأحدٍ منّا عهدٌ بمثلِ هذه الأيّام التي تطاولَ أمدُها؟ ألا ترونَ أنَّ الإنسانَ الذي يزعمُ أنّهُ مؤمنٌ باللهِ عزَّ وجلَّ يقفُ على شفا جرفٍ من هلاك؟ ألا تسمعون حديثَ أربابِ الأرضِ والزّرعِ والأغنام والهلعِ الذي يطوفُ بقلوبهم؟ من أقصى البلادِ إلى أقصاها لا تجدُ قطرةَ مطر، ولا تجدُ مزقة سحابٍ تبشّرُ بمطر، ومع ذلك فالخطباءُ يطنطنون بالحديثِ عن ذكرى الإسراءِ والمعراج. حديثٌ تقليديّ لا يبتغى منهُ إلا التّجمّلُ والتظرف. ولا ريبَ أنَّ المصطفى صلّى اللهُ عليهِ وسلّم بريءٌ من مثلِ هذا، أينَ نحنُ من سنّةِ رسولِ الله عليهِ الصّلاةُ والسّلام يومَ حُبِسَ القَطْر فدعا أصحابهُ - وهو رسولُ الله صلى اللهُ عليهِ وسلّم- وخرجوا إلى ظاهرِ المدينة متجلببينَ برداءِ الذّلِّ للهِ عزَّ وجلّ، وخطبَ عليهمُ المصطفى عليهِ الصّلاةُ والسّلام متضرّعاً متذلّلاً باكياً، وأصحابهُ البررةُ الكرام يؤمّنونَ في ذلٍّ متناهٍ على دعائه. ومن هم؟! أصحابُ رسولِ الله. ومن هوَ!! خيرُ الخلائقِ عندَ اللهِ سبحانهُ وتعالى.

هكذا علّمنا رسولُ اللهِ بفعله، بل هكذا علّمنا رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم بقوله.

وقد مرَّ بنا عهدٌ أخطرُ ممّا مرَّ برسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ وأصحابه. وها نحنُ ننظرُ فنجدُ أنَّ حيلةَ الإنسانِ قد انقطعت، وأنَّ طاقةَ العلمِ قد خانته، وأنَّ وسائلَ الدّنيا والأسبابَ المادّيّةَ كلّها قد تقلّصت وتقاصرت وخانتِ الإنسان، ولم يبقَ إلا أن نرمقَ بطرفِنا إلى اللهِ عزَّ وجلّ.

ومع ذلك فأينَ المؤمنونَ بهذه الحقيقة يضعونَ إيمانهم هذا موضعَ التّنفيذ؟ أينَ أولئكَ الذين يصيحونَ ويزبدونَ ويرغون في الحديثِ عن ذكرى الإسراءِ والمعراج ينفّذونَ سنّةً واحدةً من سننِ رسولِ الله صلى اللهُ عليهِ وسلّم؟ وليتَ أنَّ الأمرَ وقفَ عندَ هذا أيّها الإخوة..

الأمرُ الأنكى والأشدُّ من هذا أن أسمعَ وقد سمعتُها مراراً من أناسٍ أسكرتهم كلماتُ العلم وهم من أفقرِ الفقراء إلى العلمِ وحقيقته، مصيبةُ المصائب أن أسمعَ من إنسانٍ سكرانٍ بكلمات العلم، أسمعهُ يقول: نحنُ اليومَ نسينا العلم، وإذا وجدنا أنّنا أصبحنا بحاجةٍ إلى الماء هُرِعنا إلى الاستسقاء. كأنَّ الاستسقاءَ كلُّ شيء، المسلمونَ تركوا العلم ولحقوا بالاستسقاء، كأنَّ المسلمينَ في كلِّ أسبوعٍ يخرجونَ فيستسقون، وكأنَّ المسلمينَ طووا وسائلَ بحثهم وطرقَ الدّرايةِ والعلمِ في حياتهم ووقفوا أعمارهم كلّها عندَ محاريبِ الاستسقاءِ فقط. ما هذا الكلامُ العجيب؟!

أينَ همُ الذين يتضرّعونَ إلى اللهِ في بيوتهم ومساجدهم؟ فضلاً عن أن يلبّوا المصطفى عليهِ الصّلاةُ والسّلام في صلاةِ استسقاءٍ كما شرعَ وكما أمر؟ أينَ هؤلاءِ النّاس؟ والسّكرانُ يقولُ كلاماً مفصولاً عن عقله، متى أمرَ الإسلام أن نجعلَ الاستسقاءَ والدّعاءَ بدلاً عن العلم؟ وهل علّمنا السّيرَ في مناكبِ الأرض واللجوءَ إلى موازينِ العلمِ غيرُ الإسلام؟ وهل شرّفَ المسلمينَ بالعلم بكلِّ أنواعهِ إلا الإسلام؟ ولكن أما علمتَ يا أخي أنَّ تاجَ العلمِ هوَ اللجوءُ إلى الله؟ أما علمتَ أنَّ روحَ العلم إنما هو الخضوعُ لسلطانِ الله والاستغاثةُ بالله ومدُّ اليدِ دعاءً واجفاً إلى الله؟ ماذا يفيدكَ العلم؟ اللهُ عزَّ وجلَّ هو القائل: ((وأنزلنا منَ السّماءِ ماءً بقَدَر فأسكنّاهُ في الأرض وإنّا على ذهابٍ بهِ لقادرون))؟ علمُك لا يفيدُكَ إلا أن تتشمّمَ وتبحثَ عن عروقِ الأرضِ ومكامنِ الماءِ فيها، ابحث! وقد أمركَ اللهُ بذلك، ولكن ماذا تصنعُ إن حفرت ووجدتَ أنَّ الماءَ قد غاب وأنَّ اللهَ قد ذهبَ بهذه الينابيع؟ ماذا يفيدُكَ العلم؟ العلمُ معول، معولٌ لا أكثر، والمعولُ ماذا يصنع؟ يحفر. ولكن إن لم تجد الموضوعَ الذي تلحظه في باطنِ الأرض ماذا يفيدك معولك؟ الباري عزَّ وجلَّ علّمنا كيفَ نبني السّدود، علّمنا التّقنيةَ التي لم يصل إليها كثيرٌ من العلماءِ اليوم واقرؤوا خواتيمَ سورةِ الكهف وما أوحى اللهُ عزَّ وجلَّ بهِ إلى الإسكندر وهوَ يستجيبُ إلى طلبِ أممٍ دعتهُ إلى بناءِ سدّ، منِ الذي يعلمُ كيفَ بنى هذا السّدّ؟ ولكن أعودُ فأقول: ماذا يفيدُكَ العلمُ إن جهلتَ اللهَ عزَّ وجلّ؟

عمرُ بن الخطّاب رضيَ اللهُ عنه كانَ بشطرٍ من فكرهِ يديرُ شؤونَ الأمّةِ الإسلاميّة، وبشطرٍ آخرَ يهندسُ لبناءِ الـمُدُن. بنى الكوفةَ والبصرة، هو الذي أشرفَ على هندستها، مدَّ عروقَ المياهِ ومدَّ شبكةَ المياهِ في أكثرَ من بلدة. ولكن هل أغنتهُ هذه الأعمالُ عن اللجوءِ إلى اللهِ عامَ الرّمادة؟

جاءَ عامُ الرّمادة وأُقحِطَ النّاس، ماذا يصنعُ العلم؟ لا بدَّ من اللجوءِ إلى الله خالقِ العلم، وخالقِ المياه، ومودعِ المياهَ تجاويفَ الأرض. وانظروا إلى الحديثِ الصّحيحِ الذي يرويهِ علماءُ الحديثِ ويصحّحهُ ابنُ كثير: أنَّ بلالَ بنَ الحارثِ رضيَ اللهُ عنه أرادَ أن يذبحَ شاةً عامَ الرّمادةِ لأهله، فذبحها وإذا بعظامها حمراء من شدّةِ الهزال، فمضى رأساً إلى قبرِ المصطفى صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ وناداهُ: يا محمّداه استسقِ لأمّتك. وباتَ تلكَ الليلة - بلالُ بنُ الحارث - ورأى رسولَ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ يبشّرهُ قائلاً: "إنّكم ستُسقَون، فأتِ عُمَر وقل لهُ: يقولُ لكَ رسولُ الله: عهدي بكَ أنّكَ وفيُّ العهد، شديدُ العَقد، فالكَيسَ الكَيسَ يا عُمر". ولـمّا أصبحَ بلال جاءَ إلى عمرَ بنِ الخطّاب وأنبأهُ بما حصل فبكى عمر، وجمعَ النّاسَ في المسجد وأنبأهم بكلامِ رسولِ اللهِ في الرّؤيا وقالَ: ماذا تفهمونَ من هذا الكلام؟ وفهمَ المسلمونَ وصاحوا في المسجدِ قائلين: إنَّ رسولَ اللهِ استبطأ استسقاءك فاخرُج بنا لنستسقِ. وخرجَ عمر بالقض والقضيض من جموعِ المسلمين. هنالكَ علمٌ وهندسةٌ وشبكةُ مياه، وهنا استسقاء، وهذا تاجٌ لذاك. ولا ينفعُ أيُّ عملٍ علميّ إن لم يصل صاحبُهُ قلبَهُ باللهِ عزَّ وجلّ. خرجَ فاستسقى وبكى ودعا وقالَ: اللهمَّ عجزت أبصارنا، وعجزَ منّا الحولُ والقوّة، وعجزت أنفسنا ولا حولَ ولا قوّةَ إلا بك، فاسقنا اللهمَّ من غيثك، وأكرم بلادكَ برحمتك. فما رجعوا إلى المدينة إلا وقد أمطرتِ السّماءُ وتواصلَ المطرُ حتّى الجدب منَ الأرض.

خيرٌ من الحديثِ التّقليديِّ عن ذكرى الإسراءِ والمعراج أن نعالجَ المصيبة التي أحاقت بنا وأن نتبيّنَ جذورَ هذه المصيبة، ألا وهي الإعراضُ عن الله، نسيانُ أوامرِ اللهِ عزَّ وجلّ. والمصيبةُ الأدهى من هذا أنّنا عندما نسمعُ طرقاتِ المصيبةِ تقرعُ أبوابنا ونرى أعاجيبَ هذا الضغط الذي يتوالى علينا: لا يلتفتُ إنسانٌ بدهشة، ولا يستصرخُ إنسانٌ صاحبهُ إلى عمل، ولا نسمعُ صيحةً تندفعُ إلى تنفيذِ وصيّةِ رسولِ الله صلّى اللهُ عليهِ وسلّم. تلكَ هي المصيبةُ الأنكى.

عادةُ ربِّ العالمينَ سبحانهُ وتعالى أنّهُ يأخذُ عبادهُ بالشّدائد، هو القائل: (ونبلوكم بالشّرِّ والخيرِ فتنة وإلينا تُرجَعون). والحكمةُ من هذا أن يتبيّنَ معنى العبوديّةِ عندَ عبادِ اللهِ عزَّ وجلّ، فتفوحَ رائحةُ هذه العبوديّةِ بينَ جوانحهم ويصيحوا وترتفعَ منهم الأصوات وتُبحَّ منهم الحناجر وهم يبكونَ ويتضرّعونَ إلى اللهِ عزَّ وجلّ.

لعلّكم تتساءلون: إنّنا في هذا المسجدِ ندعوا، وفي أماكنَ أخرى قد ندعوا، ولكن أيّها الإخوة قارنوا بينَ هؤلاءِ الذينَ يمدّونَ أكفّهم إلى اللهِ داعينَ متضرّعين وهم قلّةٌ قلّةٌ لا تبلغُ نسبةَ واحدٍ إلى مئة، وبينَ أولئكَ السّادرينَ في غيّهم، التّائهينَ عن ربّهم، المتكبّرينَ على اللهِ وسلطانه، هؤلاءِ الذين يتمشدقون قائلين: نحنُ في عصرِ العلم ولا نعرفُ إلا أن نعالجَ مشكلاتنا إلا بالاستسقاء. أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيم...

تحميل



تشغيل

صوتي