مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 17/02/1989

السبيل للوصول إلى محبة الله

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

تحدّثنا منذُ بضعةِ أسابيع عن حبِّ اللهِ سبحانهُ وتعالى وعن ضرورتهِ وأثرهِ في حياةِ الإنسان، ومنذُ ذلكَ اليوم والكثيرُ من الإخوةِ يسأل: عن السّبيلِ الذي ينبغي أن يسلكهُ الإنسانُ للوصولِ إلى حبِّ اللهِ عزَّ وجلّ.

السّبيلُ إلى حبِّ اللهِ سبحانهُ وتعالى كثير، ولكن لعلَّ من أهمِّ هذه السُّبُلِ وأقصرها: الثّقةُ باللهِ سبحانهُ وتعالى، ثقةُ الإنسانِ باللهِ عزَّ وجلّ هي المفتاحُ إلى دخولِ محبّةِ اللهِ عزَّ وجلَّ في القلب، فمن كانَ مؤمناً باللهِ سبحانه ولكنَّ فؤادهُ كانَ فارغاً من الثّقةِ باللهِ عزَّ وجلّ، فلا سبيلَ إلى دخولِ حبِّ اللهِ عزَّ وجلَّ إلى فؤاده. وما حقيقةُ الإيمانِ باللهِ عندَ هذا الإنسان إلا كحقيقةِ شارةٍ يضعُها الإنسانُ على صدره وهو ليسَ أكثرَ من شعار، والشّعارَ لا يقدّمُ ولا يؤخّرُ -كما تعلمون- في حياةِ الإنسان.

أما الإيمانُ الحقيقيُّ باللهِ عزَّ وجلّ فلا شكَّ أنَّ من أولى ثمراتهِ الثّقةُ باللهِ سبحانهُ وتعالى، والثّقة هي أساسُ التّوكُّل، فمن وثقَ باللهِ توكَّلَ عليه، ومن لم يثق بالله لم يجد سبيلاً للتوكّلِ على اللهِ عزَّ وجلّ.

ومن أينَ تأتي ثقةُ الإنسانِ باللهِ عزَّ وجلّ؟ تأتي من تعميقِ الإيمانِ العقليِّ باللهِ عزَّ وجلّ، ومن تثبيتِ غراسِ هذا الإيمانِ في الوعي، فمن وعى إيمانهُ باللهِ وعلمَ معنى إيمانهِ بالحيِّ القيّوم القابضِ الباسط الواحدِ في قدرتهِ وتصرّفاتهِ وفي كلِّ ما يمكنُ أن تراهُ في الكونِ من حركاتٍ وسكونٍ ونفعٍ وضرٍّ وغيرِ ذلك، من وعى إيمانهُ هذا باللهِ عزَّ وجلَّ ثمَّ سمعَ كلامَ اللهِ سبحانهُ وتعالى وهو يقول: ((وكانَ اللهُ بكم رحيماً))، ووعى قولهُ عزَّ وجلَّ: ((يريدُ اللهُ بكمُ اليسرَ ولا يريدُ بكم العسر)). ووقفَ وقفةَ تأمّلٍ عندَ قولهِ عزَّ وجلّ: ((يا أيها الذينَ آمنوا استجيبوا للهِ وللرّسولِ إذا دعاكم لما يحييكم)). إذا آمنَ ذلكَ الإيمانَ الواعي ووقفَ بتدبّرٍ عندَ هذا الكلامِ الثّاني: وثقَ ثقةً تامّةً بأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ لن يقدِّمَ لهُ إلا خيراً، ولن يأمرَهُ إلا بخير، ولن ينهاهُ عن شرّ، من هنا تأتي الثّقة باللهِ عزَّ وجلّ. أولاً: من تعميقِ معنى إيمانِكَ بالحيِّ القيّومِ الواحدِ الأحد. ثانياً: بالوقوفِ أمامَ القراراتِ الإلهيّةِ التي تحدّثَ فيها اللهُ عن نفسهِ وذاتهِ العليّة ووصفَ ذاتَهُ بالرّحمةِ لك وبالرّعايةِ لشأنك، وبأنّهُ لا يأمركَ إلا بما فيهِ خيرك، ولا ينهاكَ إلا عمّا بهِ ضرُّك، ويطمأنك أنَّ جهالتك لا يمكنُ أن تتناقضَ مع هذه الحقيقةِ أبداً لأنّكَ الجاهلُ الذي لا تستشفُّ شيئاً من حقائقِ الغيب، ((وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم وعسى أن تحبّوا شيئاً وهو شرٌّ لكم واللهُ يعلمُ وأنتم لا تعلمون)).

إذا وثقتَ باللهِ عزَّ وجلَّ هذه الثّقة أدركتَ أنَّ اللهَ عزَّ وجلّ لن يعاملكَ إلا برحمتهِ ولن يقدِّمَ لكَ إلا ما فيهِ خيرُك، فكانَ ذلكَ أساساً لتوكّلكَ على اللهِ سبحانهُ وتعالى.

وانظر إلى كلامِ الله وهو يتحدّثُ عن طائفةٍ من عباده، انظر إلى هذا الكلام وتبيّن من خلالهِ ماذا فعلت الثّقةُ بأنفسهم: ((وما لنا ألّا نتوكّلَ على اللهِ وقد هدانا سُبُلَنا ولنصبرَنَّ على ما آذيتمونا)). طمأنينةٌ لا قلقَ يحتوشها إطلاقاً، وانظر إلى هذا الكلامِ الآخر بل إلى هذا التّساؤلِ العجيب يحرّكُ في كيانِ الإنسانِ نياطَ هذه الثّقةِ إن وُجِدَت هذه الثّقة، انظر إلى قولِ اللهِ عزَّ وجلّ: ((أليسَ اللهُ بكافٍ عبدَه ويخوِّفونَكَ بالّذينَ من دونه)). ((أليسَ اللهُ بكافٍ عبده))؟ استفهامٌ عجيب في اللطفِ الذي يحتوشه وفي الرّحمةِ التي تتصاعد من أعماقِ هذا الكلام، ليقلِ النّاسُ ما شاؤوا وليتهدد المشركونَ وأعداءُ المسلمينَ عبادَ اللهِ فيما أرادوا، وليلوّحوا بالقوى التي امكنتهم ووُضعَت في أيديهم، هم إلى من يركنون؟ وبمن يؤمنون؟ وبمن يثقون؟ باللهِ عزَّ وجلّ، واللهُ ألا يكفي عبده، ألا يكفيه كلَّ شبحٍ من أشباح المخاوف؟ ألا يكفيهِ كلَّ همٍّ من الهمومِ وكلَّ غمٍّ من الغموم؟ بلى والله. ولكنّهُ يكفي من ركنَ إلى الله، ومن وثقَ بالله، ومن علمَ أنَّ مولاهُ هو الله، نعم: ((اللهُ وليُّ الذينَ آمنوا يخرجهم من الظّلماتِ إلى النّور والذينَ كفروا أولياؤُهم الطّاغوتُ يخرجونهم من النّورِ إلى الظّلمات)).

هذه الثّقة ما أتصوَّرُ إيماناً باللهِ عزَّ وجلَّ حقيقيّاً يوجد بدونِ أن تتجلّى هذه الثّقةُ ثمرةً له، هذه الثّقة تريحُ أعصابك، تطمئن قلبك، تزيدُكَ حبّاً لخالقكَ عزَّ وجلّ، لأنّك لا تغلق بالك بأسباب أوامرِ الله، لا تقولُ: لماذا أمرنيَ اللهُ بهذه الأوامرِ الثّقيلةِ عليّ؟ ما الفائدة؟ ثقتُكَ بالله تمتصُّ كلَّ هذا الكلام. لا يمكن أن تجدَ شدّةً من خلالِ نهيٍ نهاكَ اللهُ عزَّ وجلَّ عنه، ثقتُكَ بالله لا تجعلُكَ تتساءَلُ متأففاً: لماذا حجزنيَ اللهُ عن شهوتي؟ عن رغبتي؟ ثقتُكَ بالله تصدُّكَ عن هذا التّساؤلِ وهذا الاضطّرابِ والقلق. ثقتُكَ بالله وأنتَ تنتظرُ أن يسعدكَ بالزّوج، بالمال، بما تشاءُ من مقوّماتِ الحياةِ الطّبيعيّةِ الفطريّة، يجعلُكَ تطمَئنُّ إلى أنَّ كلَّ هذا سيأتي في ميقاته محدّد، وما ثمنُ إتيانهِ وإسعادِ اللهِ إيّاكَ به إلا حسنُ ثقتِكَ بالله عزَّ وجلّ، ثمَّ صبرك إلى أن يأتيَ الميقات، ومن ثمَّ فإنَّ هذه الثّقة تقدَحُ زناد الحبِّ في قلبك، لأنّكَ لا تجدُ خيراً أتاكَ إلا وأنتَ تعلمُ أنّهُ أتاك من مولاكَ الذي لا مولى لكَ من دونه. وما ترى من ضُرٍّ فاتكَ وابتعدَ عنكَ وحُميتَ عنهُ إلا وتعلم أنَّ الذي أبعدَ عنكَ هذا السّوء هو مولاك. ولا تجدُ من خيرٍ يطوفُ بحياتك، أو شعورٍ من السّعادة يفيضُ بهِ فؤادُك إلا وتعلم أنَّ مولاكَ هو الذي متَّعكَ بهذا الشّعور. شعورُكَ بهذا المعنى، ربطُكَ لهذه الظّواهرِ كلّها بمولاكَ عزَّ وجلَّ هو الذي يزيدُكَ حبّاً للهِ سبحانهُ وتعالى.

أمّا من كانَ إيمانهُ باللهِ جسداً لا روح فيه شبحاً لا حركةَ فيه، فإنَّ هذا الإيمانَ من الطّبيعيِّ أنّهُ لا يحقّقُ الثّقة التي ينبغي أن تكونَ أساساً للتّوكّلِ والحبّ. وإذا لم توجد هذه الثّقة فما أكثرَ ما يضطربُ الإنسانُ في حياته، وما أكثرَ ما يهيجُ ويموج، وما أكثرَ ما يقفُ موقفَ المتسائلِ بل الثّائر على قرارِ اللهِ وأوامره: لماذا أمرني بكذا؟ لماذا نهاني عن كذا؟ لماذا حرَّمَ عليَّ الخبائث؟ لعلّها ليست خبائث، لماذا حرَّمَ عليَّ الخمرة؟ لماذا؟ أسئلةٌ لا نهايةَ لها لأنَّ جهلَ العبدِ لا نهايةَ له. ولقد سمعتُ صباحَ هذا اليومِ كلاماً من إنسانٍ متخصص، أنَّ النّاسَ في الغربِ اكتشفوا اليوم أنَّ الخنزيرَ يصابُ بداءِ الكَلَب كالكلابِ تماماً، وأنَّ عدداً كبيراً من النّاس أصابَهُم داءُ الكَلَب، استيقظَ الغربيّونَ إلى هذه الحقيقةِ اليوم، وقُتِلَ في العامِ الماضي أو قتَلَ النّاسُ في العامِ الماضي مئاتِ الخنازير خوفاً من أن يكونَ هذا الدّاءُ قد سرى إليهم، وإذا سرى هذا الدّاءُ إلى الحيوان، واحتكَّ هذا الحيوانُ بالإنسانِ، فإنَّ هذا الدّاءَ يستشري في بلدٍ ثانٍ، وإذا استشرى بينَ النّاس صارَ كجريانِ النّارِ في الهشيم. لو كانَ هؤلاءِ النّاسِ عندهم ثقة باللهِ عزَّ وجلّ الذي حرَّمَ عليهم لحمَ الخنزير لامتصّت هذه الثّقةُ التّساؤلاتِ كلّها، ولأغنتهم عن أن يقعوا في هذه النّهاياتِ، ولعلموا أنَّ مولاهم في علومهم وفي حضاراتهم وفي كلِّ نفعٍ وضرّ يوجدُ في هذا الكون مولاهمُ الرّحيمُ بهم الرّؤوفُ بهم يحذّرهم من أكلِ هذا اللحمِ وينعتهُ لهم بأنّهُ خبيث. نعم. إذاً لما اضطربوا، ولما وقعوا في هذه التّجربة، ولكن انظر إلى النّهاية، انظر إلى العبد، عندما يتيهُ عن مولاه يشرد، وعندما يشرد أينَ يقع؟ يقعُ في المهالك، يقعُ في مهلكةٍ لا آفاقَ لها ولا حدود لأنّهُ ضلَّ عن مولاه، لأنّهُ تاهَ عمّن كانَ يرشده، ذلك، صدقَ اللهُ القائلُ في محكمِ تبيانه: ((ذلكَ بأنَّ اللهَ مولى الذين آمنوا وأنَّ الكافرينَ لا مولى لهم)).

نحنُ عزتنا، مجدنا، سعادتنا، نشوتنا، معينُ ذلكَ كلّه نسبتُنا إلى الله، نسبتُنا إلى اللهِ الذي هو مولانا والذينَ نحنُ عبيدُه. أمّا أولئك انظروا إلى شرودهم، انظروا إلى ضياعهم، يخوضون في الظّلام، ولقد كانوا في غنىً عن هذا كلّه لو أنّهم أمسكوا بالمصباح، وما هو المصباح؟ رحمةُ الله. وأين تتجلّى رحمةُ الله؟ في شرعه، في نَبَئِهْ، في بيانه، في الكلامِ الذي أوضحهُ لنا ونحنُ بأمسِّ الحاجةِ إليه. هل يمكنُ لإنسانٍ وثقَ برحمةِ الله، ووثقَ بحبِّ اللهِ لعبده ثمَّ رأى آثارَ هذه الثّقةِ في حياته ألّا يحبَّ الله؟! أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيم، فاستغفروهُ يغفر لكم...

تحميل



تشغيل

صوتي