مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 11/11/1988

عندما يتشاءم العبد من الموت

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

ما رأيتُ في النّاسِ أغبـى من رجلٍ إذا ذُكِّرَ بالموتِ اشمأزَّ من هذا الحديث، وأعرضَ عنهُ بسمعهِ وبصره، وتحايلَ بكلِّ الأسباب أن يغيّرَ مجرى الحديث وأن يطويَ الكلامَ عن الموت بنقيضه.

هذا مع أنّهُ يعلم علماً لا يدركهُ شكٌّ ولا ريب أنَّ الموت نازلٌ بكلِّ إنسانٍ بل بكلِّ حيّ، ولئن نسيَ هذه الحقيقة فإنَّ خالق الموتِ والحياة يذكّرُ كلَّ عاقلٍ بها صباحَ مساء. يسمعُ قولَ اللهِ عزَّ وجلّ: (قل إنَّ الموتَ الّذي تفرّونَ منهُ فإنّهُ ملاقيكم)، ويسمعُ قولَ اللهِ عزَّ وجلّ: (قل يتوفّاكم مَلَكُ الموتِ الّذي وُكِّلَ بكم ثمَّ إلى ربّكم تُرجَعون)، ويسمعُ قولَ اللهِ عزَّ وجلّ: (كلُّ نفسٍ ذائقةُ الموتِ وإنّما تُوَفَّونَ أجوركم يومَ القيامة)، وقولَهُ عزَّ وجلَّ: (كلُّ نفسٍ ذائقةُ الموت ونبلوكم بالشّرِّ والخيرِ فتنةً وإلينا تُرجَعُون). ويعي كلامَ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلّم: "أكثروا من ذكرِ هاذمِ اللذّاتِ ومفرّقِ الجماعات، لأنّهُ ما ذُكِرَ في كثيرٍ - أي من إقبالٍ على الدّنيا وعلى اللهو - إلا قلّله، وما ذُكِرَ في قليلٍ - أي من الطّاعاتِ والإقبالِ على الله - إلا كثّره". ومعَ ذلك فالرّجلُ الغبيّ يغمضُ عينيهِ ويصمُّ أذنيه ويتحايلُ ألا يسمعَ حديثَ الموتِ لأنّهُ يتشاءمُ منه. ما سببُ ذلك؟

سببُ ذلكَ أمرانِ اثنانِ أيّها الإخوة:

الأمرُ الأوّل: أنَّ هذا الرّجلَ وأمثالَهُ في النّاسِ كثير، يجهلونَ معنى الموت. ومن ثمَّ فهم يظلمونهُ ظلماً كبيراً. يظنّونَ أنَّ الموتَ عدم، وأنّهُ يعني تحوّلَ الإنسانِ من الوجودِ الممتع إلى ظلماتِ عدمٍ لا نهايةَ لآفاقها، والأمرُ ليسَ كذلك. إنّما تُطلَقُ كلمةُ الموتِ هذه بالنّسبةِ لحياتنا التي نعيشُها، تُطلَقُ على حياةٍ من نوعٍ آخر. لو قارنتَ بينَ ذلكَ النّوع وهذه الحياةِ التي نعيشُها لعلمتَ علمَ اليقينِ أنَّ الحياةَ التي يحياها الأموات أقوى من حياتنا بكثير، وكما قالَ العلماءُ من قبل: إنَّ الرّوحَ في حياتنا الدّنيا هذه محبوسةٌ في قفصِ الجسدِ فهي تابعةٌ له، أمّا الرّوحُ في الحياةِ البرزخيّةِ بعدَ الموت فإنَّ الجسدَ يكونُ تابعاً لها. تكونُ الرّوحُ طليقة تسيرُ أنّى شاءت، وتنتقلُ كيفما أرادت إن خُتمت بخاتمةٍ حسنة، ويكونُ الجسدُ تابعاً لها، وما أشبهَ الرّوحَ عندئذٍ بالشّمس التي تكونُ بعيدةً جدّاً عن الأرضِ والبنيان ولكنَّ أشعّتها تظلُ موصولةً بالأرضِ وبالبنيانِ وبكلِّ شيء. أشعّةُ الرّوحِ تبقى موصولةً بذرات الجسد إن في باطنِ حوت، أو في باطنِ قبر، ومهما استحالَ الجسد فأشعّةُ الرّوحِ موصولة بهذا الجسد، وبذلك تحيا الرّوحُ حياةً أعظم وتشعرُ شعوراً أتمّ، هذه هي حقيقةُ الموت. وبهذا المعنى يتهيّأُ الإنسانُ الميّت لأن يتلقّى مشاعرَ العذابِ إن كانَ العذابُ هو الذي ينتظرُه. وليتلقّى مشاعرَ النّعيم إن كانَ نعيمُ اللهِ عزَّ وجلَّ ورضوانهُ هما اللذانِ ينتظرانه. هذا هو السّببُ الأوّل للاستيحاشِ من الموت، وهوَ سببٌ مرّدهُ إلى جهلٍ سيّءٍ ينبغي أن يتحرّرَ عقلُ الإنسانِ منه.

السّببُ الثّاني: أنَّ الإنسانَ الذي يغرسُ السّوءَ في حياته يخشى من حصيدِ ما غرس، الإنسانُ الذي يزرعُ الشّرَّ والسّوء ويبتعدُ عن اللهِ عزَّ وجلَّ في سلوكهِ وعمله، لا بدَّ أنّهُ يخشى عواقبَ أمره، وما الموت؟ الموتُ حصادُ هذه الحياة، والإنسانُ الذي يعكفُ على لهوهِ ومرحهِ في هذه الدّنيا ويتّبعُ أهواءهُ أنّى سارت: لا بدَّ أن يستوحشَ من الموت، ولا بدَّ أن يتشاءمَ من مَلَكِ الموت، ولا بدَّ أن يكره حديثَ الموتِ والذي يحدّثهُ عن الموت. ولذا قالَ أبو حاتم (سلمة بن دينار) رضيَ اللهُ عنه أحدُ علماءِ المدينةِ السّبعة، قالَ لسليمانَ بنِ عبدِ الملك الخليفةِ الأمويّ وقد جاءَ يزوره، قالَ لهُ سليمانُ بنُ عبدِ الملك: يا أبا حاتم مالنا نكرهُ الموت؟ قال: (لأنّكم عمّرتم دنياكم وخربتم آخرتكم، فكرهتم أن تنتقلوا من دارِ عمارٍ إلى دارِ خراب). منطق .. كلامٌ سليم .. لا يمكن ُ أن يتسرب إليهِ أيُّ شكٍّ ولا ريب؛ من اشتغلَ لتعميرِ دنياهُ وأعرضَ عن آخرتهِ التي هو راحلٌ إليها، ولا بدَّ أن ينتقلَ إليها انتقالَ الطّليقِ إلى السّجن، ومن اشتغلَ في دنياهُ وحياتهِ التي يعيشها لتعميرِ الحياةِ التي هوَ مقبلٌ إليها، وبإصلاحِ ما بينهُ وبينَ ربّه، فإنَّ الموتَ ليسَ في حسابهِ إلا انتقال سجينٍ إلى الحياةِ الطّليقةِ الرّغيدة. هذه هي الحقيقةُ الثّانية.

فلماذا نخرّبُ آخرتنا بأيدينا ونحنُ نعلمُ أنّنا راحلونَ إليها؟ لماذا ندعُ ذلكَ العالم الذي ينتظرنا شئنا أم أبينا والذي نحنُ على موعدٍ معهُ في ميقاتٍ لا يتقدّمُ ولا يتأخّر؟ لماذا لا نجعل منهُ واحةً وارفةَ الظّلال حتّى إذا انتقلنا إليهِ شعرنا بالغبضّةِ والسّعادة؟ ولماذا نجعلُ من ذلكَ العالمِ بأيدينا بلقعاً موحشاً ونحنُ نعلمُ أنّنا راحلونَ إلى هذا البلقع؟ حتّى إذا حانَ حينُنا وجاءت ساعةُ انتقالنا لطمنا وجوهنا وأنفسنا وتمعّرت منّا الوجوهُ والأشكال؟ لماذا؟ أنتَ الذي خرّبتَ عاقبتك، وأنتَ الذي حكمتَ على نفسك بسجنٍ كنتَ تستطيعُ أن تجعلهُ واحةً وارفةَ الظّلالِ كما قلت؟ اسمع قولَ اللهِ سبحانهُ وتعالى: (إن المتّقينَ في جنّاتٍ ونَهَر * في مقعدِ صدقٍ عندَ مليكٍ مقتدر). واللهِ ما يسمعُ هذا الكلام إنسانٌ وعى عبوديّتهُ لربّه، وعمرَ طريقهُ إلى مولاهُ وخالقه بشيءٍ من الإقبالِ إليه إلّا واستبشرَ بهذا الكلامِ أيَّ استبشار، وحلقت منهُ العينُ والنّفس إلى تلكَ اللحظة التي يصلُ فيها إلى هذا الوعدِ الرّحمانيِّ العظيم. ولكنَّ الإنسانَ الذي أعرضَ عمّا هو مقبلٌ إليه، وبدأَ يعالجُ دنياهُ التي هو راحلٌ عنها، لابدَّ أن يستوحشَ من هذا الكلام، لأنّهُ يعلم أنّهُ ليسَ المخاطبَ بهذا الوعد.

الإنسانُ هو الذي يخلقُ أسبابَ فرحهِ بالموت، أو يخلقُ أسبابَ تشاؤمهِ بالموت. إن شئت: جعلتَ الموتَ واحة، روضةً غنّاءَ ما أبدع منها ولا أجملَ، وإن شئت: جعلتَ من الموتِ نقيضَ ذلك. يقولُ المصطفى عليهِ الصّلاةُ والسّلام: "من أحبَّ لقاءَ اللهِ أحبَّ اللهُ لقاءه، ومن كرهَ لقاءَ الله كرهَ اللهُ لقاءه". قالت عائشة - والحديثُ صحيحٌ يرويهِ الشّيخان -: يا رسولَ الله كلّنا نكرهُ الموت! قال: "ليسَ ذاك، ولكنَّ المؤمن إذا استبشر أو إذا بُشِّر برضوانِ اللهِ سبحانهُ وتعالى وفضلهِ وجنّته أحبَّ لقاءَ اللهِ فأحبَّ اللهُ لقاءه، وإذا بُشِّرَ الكافرُ بسخطِ اللهِ وعذابه كرهَ لقاءَ اللهِ وكرهَ اللهُ لقاءه". هذا هو المعنى العلميّ الذي ينبغي أن نتبيّنهُ وينبغي أن نصطبغَ به: إذا عمرتَ الدّربَ بينكَ وبينَ ربّك ومارستَ عبوديّتكَ لخالقك وناجيته مناجاة العبد لربه في البكورِ والآصال منتظراً وداعكَ لهذه الدّنيا ورحيلكَ منها، ثمَّ جاءكَ طارقُ الموتِ يقول: (لقد حانَ خروجُكَ من الدّنيا واستقبالكُ لخالقكَ الذي طالما عبدتَهُ وطالما ناجيته، إنّهُ ينتظرُ لقاءك)، إنّكَ ستنظرُ إلى هذه البشرى على أنّها عرسٌ ترتقبه، وما هو أجملُ من أن يرى العبدُ ربّه بعدَ أن كانَ يعبدهُ غياباً لا يستطيعُ أن يراه؟ يعتقدُ بهِ ولا يراه؟ هل أجملُ من هذه اللحظة؟

أمّا الإنسانُ الذي طوى فكرهُ عمّا هو مقبلٌ إليه، وجعلَ الدّنيا جنّتهُ التي لا جنّةَ بعدها، واعتصرَ من الدّنيا نعيماً، ولم يبالِ أن يخالفَ أمرَ ربّهِ وخالقه، وأخذَ يخوضُ غمارَ حمأةِ هذه الدّنيا كما يشاء، ثمَّ جاءهُ مَلَكُ الموتِ يدعوهُ للخروجِ من الدّنيا، لا بدَّ أن يناديَ على نفسهِ بالويلِ والثّبور.

ونسألُ اللهَ سبحانهُ وتعالى أن يجعلَ الموتَ روضةً نستبشرُ بالانتقالِ إليها، وأن يهيّئنا لذلك بإصلاحِ شأننا والسّيرِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ على صراطهِ الذي شرع، واتّباعِ أوامرهِ التي أمرنا بها، واللهمَّ إنّا نعوذُ بكَ من شرِّ إنسانٍ جعلَ من الدّنيا جنَّتَهُ الآخرة فلمّا رحلَ عنها رحلَ رحلة الثُّكالى واستقرَّ في شقاءٍ لا مردَّ لهُ ولا نهايةَ له. استغفروا اللهَ سبحانهُ وتعالى يغفر لكم ذنوبكم، فيا فوزَ المستغفرينَ ويا نجاةَ التّائبين...

تحميل



تشغيل

صوتي