مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 29/04/1988

تذكرة بين يدي شهر رمضان

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ قد أقامَ الإنسانَ في هذه الحياةِ الدّنيا لحكمةٍ باهرةٍ عظيمةٍ هي الابتلاء، ولقد قضى اللهُ عزَّ وجلّ أن يكونَ الإنسانُ في هذه الدّنيا ابتلاءً لأخيهِ الإنسان، فقالَ عزَّ وجلَّ في محكمِ تبيانه: ((وجعلنا بعضكم لبعضٍ فتنة أتصبرونَ وكانَ ربُّكَ بصيراً)).

ومظاهرُ ابتلاءِ الإنسانِ بأخيهِ الإنسانِ كثيرة، ولكنّي ألفتُ النّظرَ اليومَ إلى أهمّها وأخطرها. لقد فاوت اللهُ سبحانهُ وتعالى بينَ عبادهِ في دارِ الدّنيا في الرّزقِ والمالِ والغنا، ثمَّ ابتلى الغنيَّ بالفقيرِ وابتلى الفقيرَ بالغنيّ. ابتلى الغنيَّ بالفقيرِ ليعطيَ وينفق، وابتلى الفقيرَ بالغنى وبالغنيّ ليتعفّفَ ويتعالى وتكونَ يدهُ اليدَ العليا.

وقد كانَ اللهُ عزَّ وجلَّ قادراً وهو الغنيُّ عن كلِّ شيءٍ أن يُغنِيَ هذا وذاك من فضله، ولكنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ كما قلتُ لكم أرادَ أن يبتليَ العبادَ بعضهم ببعضٍ ليثيبهم إن أدّوا واجبَ الابتلاء، وليعاقبهم إن نكصوا على أعقابهم وتمرّدوا على حكمِ اللهِ عزَّ وجلَّ وعبوديّتهِ للدّيّانِ سبحانهُ وتعالى.

وقد أنبأنا اللهُ عزَّ وجلَّ عن اعتراضٍ اعترضَ بهِ المشركون عندما سمعوا أنَّ رسولَ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم يأمرُ الأغنياءَ أن يعودوا بفضولِ أموالهم على الفقراء، اعترضوا وقالوا: ولماذا نعطي وأنتَ تقولُ إنَّ اللهَ غنيٌّ كريم وأنّهُ هو الرّزّاق؟ فأحرى بهؤلاءِ الفقراء أن يطلبوا من اللهِ مباشرةً. وقد سجّلَ البيانُ الإلهيُّ اعتراضهم هذا للعبرة: ((وإذا قيلَ لهم أنفقوا ممّا رزقكم الله قالَ الّذينَ كفروا للّذينَ آمنوا أنطعمُ من لو يشاءُ اللهُ أطعمه إن أنتم إلا في ضلالٍ مبين)).

وتأمّلوا يا عبادَ الله في كتابِ اللهِ من أوّلهِ إلى آخره، هل تجدونَ فيهِ آيةً نصَّ البيانُ الإلهيُّ فيها على أنَّ الإنسانَ يملك مالاً؟ أبداً، لن تجدوا هذا الكلامَ أبداً، على الرّغمِ من أنَّ خيالَ الإنسانِ دائماً يُخَـيِّلُ إليهِ أنّهُ يملكُ ما يحويهِ من رزق، إنّما التّعبيرُ الإلهيُّ يدورُ بينَ عبارتينِ اثنتين، منها قولهُ عزَّ وجلَّ: ((وأنفقوا ممّا جعلكم مستخلفينَ فيه))، يذكّركَ اللهُ عزَّ وجلَّ بأنّكَ مستخلفٌ في المالِ الذي وضعهُ تحت يدك، أو يقولُ بمكانٍ آخر: ((وآتوهم من مالِ اللهِ الّذي آتاكم))، فهو أيضاً استخلاف وأمانةٌ أودعها اللهُ عزَّ وجلَّ تحتَ يدك.

فما الموقف بالنّسبةِ لإنسانٍ سمعَ كتابَ الله، وعلمَ أنَّ المالكَ هو الله، وعلمَ أنَّ هذه الدّنيا دارُ ابتلاء وأنَّ اللهَ فاوتَ بينَ النّاسِ في الرّزقِ حتّى يبتليَ بعضهم ببعض. ومع ذلكَ أعرضَ عن كلامِ الله عزَّ وجلَّ وحكمه، وجعلَ من المالِ الذي استخلفهُ اللهُ عزَّ وجلَّ عليهِ حجاباً صفيقاً بينهُ وبينَ ربِّ العالمين، فهو معرضٌ عن أمره، مبتعدٌ عن حكمه، متباهٍ بالمالِ الذي يملك، يمرُّ عليهِ العامُ إثرَ العامِ ونداءُ اللهِ يلاحقه وهو معرضٌ لا يستجيب. ويسمعُ بينَ الحينِ والآخرِ كلامَ اللهِ عزَّ وجلّ: (والذين يكنزونَ الذّهبَ والفضّةَ ولا ينفقونها في سبيلِ اللهِ فبشّرهم بعذابٍ أليم*يومَ يُحمى عليها في نارِ جهنّمَ فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون). ومع ذلك فإنَّ سُكرَ المال الذي متّعهُ اللهُ عزَّ وجلَّ به يمنعهُ من أن يشعرَ بخطورةِ هذا الإنذارِ وبجسامةِ هذا الوعيد.

عبادَ الله: ما الذي يمنعُ الإنسانَ من أن يعودَ إلى إخوانهِ بحقٍّ وضعهُ اللهُ في عنقه؟ ما الذي يمنعهُ من ذلك؟ خوفُ الفقر؟ إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ ضمنَ لكَ أن يغنيكَ بما تفعل، وأن يجعلهُ تجارةً رابحةً لكَّ في الدّنيا قبلَ الآخرة. وقد أكّدَ ذلكَ المصطفى عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ إذ قال: "ما نقصَ مالٌ من صدقة". ما الذي يمنعُ هذا الإنسان؟ دعوى أنّهُ مالك؟ إنّهُ ليسَ مالكاً لشيء، إنّهُ لا يملكُ ذاته حتّى يملكَ ما يزعمُ أنّهُ ماله، اللهُ عزَّ وجلَّ هو المالك وما ينبغي أن يشعر المعطي بأيِّ منّةٍ على المعطى، بل إنّهُ يؤدّي وظيفةً كلّفهُ اللهُ سبحانهُ وتعالى بها.

وسمّى اللهُ سبحانهُ وتعالى هذا القدرَ الذي فرضهُ في مالِ الأغنياءِ حقّاً، بل إنَّ رسولَ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم يزيدُ هذا بياناً فيقولُ فيما يرويهِ عليٌّ رضيَ اللهُ عنهُ بسندٍ صحيحٍ عن رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم: "إنَّ اللهَ فرضَ على الأغنياءِ في أموالهم بالقدرِ الذي يسعُ فقراءهم، ولن يُجهَدَ الفقراءُ إذا جاعوا أو عَروا إلا بما يصنعُ أغنياءُهم، وإنَّ اللهَ يحاسبهم على ذلكَ فمعذّبهم عذاباً شديداً". وقد روى أبو داوودُ في مراسيله وروى الطّبرانيُّ والبيهقيُّ عن كثيرٍ من الصّحابةِ مرفوعاً عن رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم أنّهُ قال: "حصّنوا أموالكم بالزّكاة"، واسمعوا كلامَ رسولِ اللهِ أيّها الإخوة: "حصّنوا أموالكم بالزّكاة، وداووا مرضاكم بالصّدقة، واستقبلوا أمواجَ البلاءِ بالتّضرّعِ والدّعاء". ولقد كانَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ كثيرَ الجودِ في عامّةِ حياتهِ ولكنّهُ كانَ أكثرَ النّاسِ جوداً وأكثرَ ما يكونُ جوداً في هذا الشّهرِ المبارك، كانت يدهُ كالرّيحِ المرسلة، وهذا هو الشّهرُ الذي يذكّرنا بهِ القرآن، والذي كانت هذه هي صفةُ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم فيه.

فيا عبادَ الله: أما تحبّونَ أن يرحمكمُ اللهُ وأنتمُ الذين تتأفّفونَ من الشّدائد؟ وأنتم الذي تسألونَ عن رحمةِ اللهِ عزَّ وجلَّ وعن مصيرها؟ وعن سببِ هذه الشّدائدِ التي حاقت بنا بدلَ الرّخاء؟ ألا تحبّونَ أن تتنزّلَ عليكم رحماتُ اللهِ عزَّ وجلّ؟ إذاً فاسمعوا قولَ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم، وقد ذكرَ ذلكَ مراراً ورُوِيَ بطرقٍ عديدة: "من لا يَرحَم لا يُرحَم". لن يرحمَ اللهُ سبحانهُ وتعالى أناساً كلّفهم أن يتراحموا فلم يتراحموا، وإذا كنّا نجدُ بعدنا عن التّراحم، وإذا كنّا ننظرُ فنجد أنَّ خمساً وتسعينَ بالمئةِ فيما قد قيلَ لي من قِبَلِ كثيرٍ من الثّقاتِ من النّاس الذينَ يملكونَ أنصباءَ الزّكاة لا يعودونَ بشيءٍ من هذه الحقوقِ إلى مستحقّيها، على الرّغمِ من أنَّ أحدهم يرى واقعَ الأمّة ويرى حالةَ النّاس ويرى الشّدائدَ التي تحوقُ بهم، وبدلاً من أن يعودَ هؤلاءِ النّاسِ بهذه الفضولِ إلى المحتاجينَ حقّاً ألزمهمُ اللهُ عزَّ وجلَّ به، بدلاً من ذلك ينثرونَ المالَ يميناً ويساراً في بذخٍ لا يتصوّرهُ الوهمُ والخيال، ينثرونهُ في سبيلِ الشّيطان. شحٌّ أمامَ أمرِ اللهِ سبحانهُ وتعالى، وكرمٌ وجودٌ أمامَ نداءِ الشّيطان، كيفَ تنتظرُ أمّةٌ هذا شأنها وهذه حالها أن يرحمها اللهُ عزَّ وجلّ؟ وأن يكرمها بالخير والبركةِ والنّماء؟

لقد حدّثني صديقٌ أثقُ بهِ عن قريبٍ لهُ من أغنياءِ هذه البلدة، ذهبَ فطافَ حولَ الدّنيا هو وأسرتهُ وأنفقَ في ذلكَ الملايين، قالَ لهُ قريبهُ هذا -المؤمن الملتزم بأوامرِ اللهِ عزَّ وجلّ- قالَ لهُ: أرجو أن تكونَ ممّن يؤّدون حقوقَ اللهِ عزَّ وجلَّ ويخرجونَ زكاةَ أموالهم. فقالَ لهُ قريبهُ الغنيّ في صلف وكبرياء: وهل مجنونٌ أنا حتّى أضيّعَ أكثرَ من مليون في كلِّ عام؟! نعم.. ليسَ بمجنونٍ عندما يستجيبُ لنداءِ الشّيطان وينفقُ الأموالَ بغيرِ عدٍّ ولا حسابٍ على البذخِ والمحرّمات. فإذا نادى منادي الله وإذا أمرهُ اللهُ أن يحصّنَ مالهُ بالصّدقة وضمنَ اللهُ لهُ أن يعوّضهُ بدلاً من القرشِ عشرةً أو أكثر، عدَّ نفسهُ مجنوناً إن هو انصاعَ لأمرِ اللهِ عزَّ وجلّ.

وهذا نموذجٌ يا عبادَ الله، وقيسوا على هذا النّموذجِ الكثيرَ من الصّور، ماذا تنتظرونَ من أمّةٍ هذا غالبُ شأنِ معظمها؟ وكيفَ تنتظرون أن تتنزّلَ عليها الرّحمة من اللهِ سبحانهُ وتعالى؟ ولكن ألا تسألون عن مصيرِ هذا الإنسانِ الذي قالَ هذا الكلامَ؟ إنّهُ اليومَ ممدودٌ على فراشِ المرض، وإنّهُ يعاني من شللٍ في جسمه، تلكَ هي سياطُ ربِّ العالمينَ سبحانهُ وتعالى.

ماذا يفيدكَ المالُ يابنَ آدم إن لم يمتّعكَ اللهُ بعافيةٍ تجعلكَ تجعلُكَ تتذوّقُ نعيمَ هذا المال؟ ومن أينَ تأتيكَ العافية؟ ماذا تستفيدُ من هذا المال إن جعلَ اللهُ عزَّ وجلَّ وسيلةَ إنفاقه على الأمراض وعلى العاهات وعلى المصائب التي تطوفُ من حولك؟ وماذا تخسرُ من مالك - قلَّ أو كثُر- عندما تؤدّي حقَّ اللهِ سبحانهُ وتعالى الذي أمركَ بهِ في إنفاقهِ وفي طرقِ عطائه، وقد ضمن اللهُ عزَّ وجلَّ لكَ أن يعوّض، وضمنَ اللهُ عزَّ وجلَّ لكَ أن يجعلَ من هذا العطاءِ رأسَ مالٍ لربحٍ وفير، وسَلُوا الذين تعوّدوا على أداءِ حقوقِ الله، وسلوا الذينَ يراقبونَ المالَ الذي يدخلُ إليهم ليؤدّوا حقوقَ اللهِ المترتّبة على أعناقهم، سَلُوهم: أيّةَ تجارةٍ يرونها في دارِ الدّنيا؟ وسَلُوهم: كم يُضاعفُ اللهُ سبحانهُ وتعالى لهم؟

أيّها النّاس: شهرُ رمضانَ هذا شهرُ العطاء، شهرُ الكرم، شهرُ الرّحمة، فتأسَّوا برسولكم محمّدٍ عليهِ الصّلاةُ والسّلام، وتنزّهوا عن الشُّحِّ الذي ابتلى اللهُ عزَّ وجلَّ بهِ عبده، وقد قالَ عزَّ من قائل: ((ومن يوقَ شُحَّ نفسهِ فأولئكَ همُ المفلحون))، والسّبيلُ إلى هذا التّوقّي يسير..

أسألُ اللهَ سبحانهُ وتعالى أن يكرمنا بالتّراحم حتّى يكرمنا برحمتهِ الغامرةِ الواسعة، وأسألُ اللهَ سبحانهُ وتعالى أن يرفعَ عنّا مقتهُ وغضبه، فاستغفروهُ يغفر لكم، فيا فوزَ المستغفرينَ ويا نجاةَ التّائبين..

الخطبة الثّانية

الحمدُ للهِ حمداً.....

واعلموا أيها الإخوة أنَّ خيرَ الصّدقاتِ تلكَ التي تعطيها مباشرةً إلى مستحقّيها، ولكَ أجرٌ على البحثِ عن الفقراء، ولكَ أجرٌ في إعطاءِ المالِ لهم، ولكَ أجرٌ في أن تعلمَ أنَّ هذا الفقيرَ هوَ المتفضّلُ عليك وهو الممتنُّ عليكَ بالأخذ. فإن تصوّرتَ العكس: فقد عدتَ بالوزرِ بدلاً من أن تعودَ بالأجر.

أمّا تلكَ الجمعيّات التي تجمعُ أمولَ الزّكاةِ والصّدقات: فإيّاكم أن تعطوا أيّاً منها إلا إذا علمتم أنّها تلتزمُ حدودَ الشّرع في آدابِ الأخذِ والعطاء. فإن رأيتم وعلمتم يقيناً أنَّ هذه الجمعيّة تأخذُ هذه الأموال لتقومَ بدورِ الوكيل عن المعطي إلى الفقراء، وأنّها للتّو تنفقُ هذه الأموالَ على المحتاجين، ولا تكتنزها عندها في الصّناديق أو البنوك، ولا تبقيها عندها ليدورَ المالُ عاماً إثرَ عام، إن تأكّدتم أنَّ هذه الجمعيّات تلتزمُ أوامرَ الله فهي تأخذُ المالَ من هنا وتعطيهِ من هنا فلا مانعَ عندئذٍ..

واعلموا أنَّ اللهَ أمركم بأمرٍ...

تحميل



تشغيل

صوتي