مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 18/12/1987

عندما يكون الفرح بالأنبياء سبباً لسخط الله

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أمّا بعدُ فيا عبادَ الله:

ما من ريب أن الله عز وجل أنزل على عباده ديناً واحداً منذ أن خلق سيدنا آدم عليه الصلاة والسلام وجعله أول نبي يوحى إليه إلى أن ختم النبوات والرسالات ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم وكيف لا يكون الأمر كذلك وربنا عز وجل هو القائل في محكم كتابه: )شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ(. بل كيف لا يكون الأمر كذلك وربنا عز وجل هو القائل: )إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ( وهو القائل )هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا(، ومن ثَمَّ فقد كان حقاً على كلِ من آمنَ باللهِ عز وجل أن يؤمنْ بنبوةِ سائرِ الرسلِ والأنبياء، وأن يعلمَ ما قالهُ الله عز وجل ويوقنَ به من مثل قوله عز وجل: )لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ(. وكان حقاً على كل مؤمنٍ بالله عز وجل أن يحتفيَ ببعثة سائر الرسل والأنبياء، وأن يعرف لكلٍ مكانته ومنزلته عند الله سبحانه وتعالى.

وإذا كان الأمرُ كذلك فكيفَ لا يفرحُ الإنسانُ المؤمن بالله ورسوله بل رسله، عندما يمر بمناسبة يتذكر فيها ولادة سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام، ويتذكر فيها رحمة الله سبحانه وتعالى المهداة إلى عباده في مرحلةٍ من مراحل الحياة هذه وعلى فترة من الرسل، إذ أكرم الله هذه الخليقة ببعثة نبي جعل الله سبحانه وتعالى، من ولادته برهاناً ساطعاً من البراهين الدالة على ألوهية الله سبحانه وتعالى ووحدانيته؛ بل كيف لا يشعر المؤمن بالله ورسوله بالسرور والفرح، وبتجدد هذه المحبة لسيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام ولسائر الرسل والأنبياء وقد أشربنا القرآن حب هؤلاء الرسل جميعاً بعد حب رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، ولقد ذكرت لكم من قبل بمناسبة أن رسولنا صلى الله عليه وسلم عندما هاجر إلى المدينة وسمع أن اليهود يصومون يوم عاشوراء، وسأل لماذا يصومون هذا اليوم قيل له: لأنه يوم أنجى موسى من فرعون، فقال عليه الصلاة والسلام: "نحن أحق بموسى منهم" وأمر رسول الله منادياً ينادي بين الناس "ألا من لم يكن قد صام هذا اليوم فليمسك بقيت النهار ومن كان قد صام فليتم صومه" ومضت تلك سنة من سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم بصوم يوم عاشوراء.

ولكن يا عباد الله ما أبعد ما ابتدعه كثيرٌ من الناس - لاسيما من أهل الغرب والبلاد البعيدة عن الدين كله إجمالاً - ما أبعد ما ابتدعه أولئك الناس في يوم مولد سيدنا عيسى عليه الصلاة السلام، ولدى استقبال عام وتوديع عامٍ آخر من الأعوام الميلادية هذه، ما أبعد ما ابتدعوه واخترعوه عما يحبه عيسى عليه الصلاة والسلام، وعما جاء به عيسى عليه الصلاة والسلام.

كل ما يرضي سيدنا عيسى موضوع على العين والرأس، وكل ما يتقرب به الإنسان إلى الله في يوم من أيام الدهر يذكر ببعثة نبي من الأنبياء أياً كان موضوعٌ على العين والرأس، ولو أن هؤلاء الذين يتظاهرون باتباعهم لعيسى عليه الصلاة والسلام عادوا في هذا اليوم إلى عبادة يعبدون الله عز وجل فيه إلى ذكرٍ لله عز وجل لقلنا كما قال رسولنا الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام لما سمع عن صوم يوم عاشوراء إذ يصومه اليهود، لقلنا نحن أحق بعيسى منهم وتسابقنا معهم إلى مرضاة الله في مرضاة عيسى عليه الصلاة والسلام، ولكن ما علاقة هذا الذي بُعث به الرسل والأنبياء جميعاً - فضلاً عن سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام - بل ما علاقة ما شرعه الله عز وجل وحياً أنزله على أيٍ من الرسل والأنبياء بما قد يتم من تقاليد ومظاهر تعرفونها في ذلك اليوم؟ أين هو وجه العبودية لله في ذلك؟ أين هو وجه طواعية الله سبحانه وتعالى في ذلك؟

وكلكم يعرف هذه التقاليد الآسنة، وكلكم يعرف هذه العادات التي لا فائدة فيها إلا للنفس وغرائزها وشهواتها، وليس لها من فائدة تعود إلى دين الله أبداً، وليس لها من فائدة تعود إلى شيءٍ مما بعث به عيسى عليه الصلاة والسلام أبداً، وإذا كان هذا الأمر واضحاً وإننا لنكرر هذا الكلام بشكل أو بآخر في كل عام في مثل هذه المناسبة، فما أحرى أن نعود فنعلم أن التقليد بمعناه الذي تعرفون شيءٌ جاء الدين بإبطاله، وعلّمنا الله سبحانه وتعالى أن نتحرر منه، وما الدين الإسلامي؛ بل أقول ما الدين الذي ابتعث الله به الرسل والأنبياء جميعاً - وهو الإسلام ولا شيء غير الإسلام - ما الدين الذي ابتعث الله به رسله وأنبياءه في جملته وتفصيله إلا تحرير للعقول من التقاليد والقيود التي تصفد العقول في الأغلال. وقديماً عندما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين يعكفون على تقاليد لهم بعيداً عن تحكيم العقل والفكر، ناقشهم الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه التقاليد وأنزل الله سبحانه وتعالى عليه قوله: ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ (.

هذا هو دين الله دين يحرر الإنسان من الأصفاد والأغلال ويدعوه إلى أن يرتفع ويرتقي إلى مستوى العقل الذي متعه الله به، فجعله بذلك ممتازاً على الخليقة كلها، هذه التقاليد هي نفسها التقاليد التي يجنح إليها أولئك الناس يوم عيد الميلاد أو ليلة رأس السنة الميلادية، وما أغرب وما أعجب موقف مسلمين تجدهم ينصاعون انصياع الذليل، ويتسابقون مسابقة النعاج إلى هذه التقاليد الآسنة التي لا معنى لها، لو أن نسباً كان موصولاً بينها وبين عيسى عليه الصلاة والسلام لتسابقنا جميعاً إلى ذلك، ولكن جميعنا نعلم, وأهل الغرب يعلم والشرق يعلمون أن هذه عادات تقليدية درج عليها الناس في بيوتهم، مظاهر وكلكم يعلم هذه المظاهر، ما لنا ومالها؟ ما شأننا بها؟ ولقد قال ربنا سبحانه وتعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء( وقال الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه: )لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً(.

لماذا يمرُّ أحدنا في الأسواق في مثل هذه الأيام ويلتفت يميناً وشمالاً إلى واجهة المحالّ المختلفة المتنوعة فيتخيل إليه أنه يسير في شارع من شوارع أوربة، الشعارات ذاتها والكلمات التقليدية ذاتها والقطن ذاته والمظاهر ذاتها، فيم؟ ولماذا؟ أليس هذا دليلاً على مكمن الذل في حياتنا؟ أليس هذا دليلاً كما يقول ابن خلدون: (على أن المغلوب المقهور ذليل يشعر دائماً في السعادة في إتباعه لغالبه) ؟ لماذا نحب أن نسم جباهنا بميسم الذل؟ هذا بعد أن بين الله سبحانه وتعالى لنا وشرح.

يقول لي قائل: (إنه ارتزاق واكتساب) باب رزق، باب الرزق أُغلق أمامك فلم تجد سبيلاً تتأمله من عند ربك ولم تجد من سبيل تتأمله إلا في اتباع وتقليد من نهاك الله عن تقليدهم!! أيُّ باب رزق هذا؟! أين بقي الإيمان إذاً؟ أين بقي من معناً للتوكل على الله الذي قال في محكم كتابه: )وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ # مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ # إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ(، وليت أن الأمر وقف عند هذه المظاهر والزخارف، مع أنها أمور خطيرة كما قرر علماء الشريعة الإسلامية في ذلك، ولكن مع ذلك فإن الأمور لا تقف عند هذا الحد، انظروا وتأملوا وتصوروا ما الذي يجري في البيوت وفي الشوارع وفي الأماكن العامة في ليلة رأس السنة الميلادية.

في الغرب يتطوحون ويسكرون إذاً ينبغي أن يكون هنا التطوح ذاته، هنالك يضيعون كذلك ينبغي أن يكون الضياع ذاته. هنالك يبكي الواحد منهم على عمرِ سنة كاملة مضت، ويشم رائحة الموت في العمر الآتي فلا يجد سبيل ليغالب الموت الذي يغالب رائحته إلا أن يغرق نفسه في مزيد من الإباحية، ومزيد من التقلب في الشهوات الآسنة إذاً كذلك نحن هنا ينبغي أن نصنع الأمر ذاته، كذلك نودع العام الماضي بالحسرة والأسى ونستقبل العام المقبل بمزيد من التمرغ ومزيد من الاختناق في الشهوات الآسنة، أيُّ تقليد هذا؟ ما هو الموقف الذي يقفه أولئك إن في أقصى الغرب أو في أي مكان آخر، ما هو الموقف الذي يقفونه منا عندما يجدوننا ذيليين لهم، أتباعاً أذلةً لهم، مهما صنعوا فعلنا مثلهم، مهما أخطأوا كررنا أخطاءهم، أيَّ صورة يرونها فينا، وكيف يزدروننا؟

هذا إن لم نكن نخشى من عقاب الله، هذا إن لم يكن لدينا من الاعتزاز بدين الله الذي ابتعث الله به موسى وعيسى و إبراهيم والأنبياء جميعاً، وتوجهم بخاتمة الرسل والأنبياء محمد عليه الصلاة والسلام، إن لم نكن نعتز بشرف هذا الدين الذي رفعنا الله عز وجل إلى سدته فلنعد إلى مكان العزة في كياننا كيف تمزق؟ بل كيف مزقناه نحن بأيدينا؟! لا يمكن لأمة ترانا نتبعها إتباع الذليل الأعمى وننقاد لها وراء دون أي بصيرة لا يمكن أن تحترمنا، لا يمكن أن تقدرنا وما أكثرَ ما قرأنا لهم كتاباتٍ نشرت تعبر عن ازدراءٍ عجيبٍ لنا، وقديماً قال المثل العربي: (المرء حيث يضع نفسه)، فإن وضع الإنسان نفسه موضع المتبوع اتبعه الناس، وإن وضع نفسه موضع التابع قاده الناس، ففي أي مكان ينبغي أن نضع أنفسنا فيه وقد رفعنا الله عز وجل وجعلنا خير أمة أخرجت للناس وأكرمنا بكل مقومات الإعزاز؟

فلئن وضعنا أنفسنا في المكانة التي وضعنا الله فيها فلسوف ترون كيف تتحول الأمم المحيطة بنا لتكون أتباعاً لكم، أما إن أردنا أن ننكص على أعقابنا ونلوي رؤوسنا ذلاً وننصاع وراء أولئك الآخرين في مثل هذه المناسبات إمعاناً في التقليد، أي تقليد؟ التقليد السخيف الذي لا يقره عقل لا يقره منطق لا يقره خُلق، إن هو إلا الضياع، نعم إن أردنا أن نمعن في هذا الموقف الذليل المهين، فإننا بهذا نضع في أعناقنا الزمام، ونعطي طرف الزمام لأولئك الناس ليقودونا إلى حيث يشاؤون، وذل الدنيا لا قيمة له أمام ذل الآخرة، وذل الدنيا عرض زائل أمام ذلٍ أشد وأبقى .

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يعزنا بهذا الدين القويم، وأن يرزقنا من الوعي ما نشعر به أننا أتباع لسائر الرسل والأنبياء، وأننا نبجل سائر الرسل والأنبياء الذين أكرمنا الله سبحانه وتعالى بهم، وتلك سنة رسولنا محمدٍ عليه الصلاة والسلام، ولكنَّ رائدنا في السيرِ وراءَ ذلكَ كله إنما هو قرآن ربنا، إنما هو سنة رسولنا محمدٍ عليه الصلاة والسلام.

تحميل



تشغيل

صوتي