مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 04/12/1987

المصيبة أن تقسو القلوب فلا تشكر الله

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

إنَّ اللهَ سبحانهُ وتعالى حكيمٌ وعليمٌ بعباده، ومن أسمائهِ جلَّ جلاله (الرّبّ)، وكلمةُ الرّبّ مبالغةٌ من المربّي، فاللهُ سبحانهُ وتعالى يربّي عبادهُ بأدقِّ مناهجِ التّربيةِ وأصولها.

لقد علمَ اللهُ سبحانهُ وتعالى من حالِ عباده أنّهُ إن أسلمهم للغنى والخيرِ والرّخاءِ دائماً لطغوا وبغوا، وأنّهُ لو تركهم للشّرورِ والمصائبِ دائماً ليَـئِسُوا ووقعوا في حالةٍ من اليأسِ والشّدّة، ولذلكَ قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ عنهم في الحالةِ الأولى: ((إنَّ الإنسانَ ليطغى * أن رآهُ استغنى))، وقالَ عنِ الإنسانِ في الحالةِ الثّانية: ((وإذا مسّهُ الشّرُّ كانَ يؤوساً)). فلا الخيرُ الدّائمُ علاجٌ صالحٌ له، ولا الشّرُّ الدّائمُ علاجٌ صالحٌ له، ولذلكَ كانَ من سنّةِ الباري سبحانهُ وتعالى أن يأخذَ عبادهُ بالرّخاءِ آناً وبالشّدائدِ آناً آخر، ألم يقل في محكمِ كتابه: ((ونبلوكم بالشّرِّ والخيرِ فتنةً وإلينا تُرجعون))، حتّى يتكوّنَ من هذا التّقلّب الذي يقعُ فيهِ الإنسانُ بأمرٍ من اللهِ سبحانهُ وتعالى وتدبيره ما بينَ ضرّاءٍ وشدّة حتّى يكونَ لهُ من ذلك أعظمُ ما يذكّرهُ بعبوديّتهِ للهِ عزَّ وجلّ، فهوَ في حالةِ الرّخاء يتذكّرُ الشّدّة، فيَلجَأُ إلى اللهِ عزَّ وجلّ أن يديمَ لهُ رخاءَهُ هذا، وهو في حالةِ الشّدّة يذكرُ فضلَ اللهِ سبحانهُ وتعالى وكرمهُ وفضله، فهو يسألُ اللهَ سبحانهُ وتعالى من كرمهِ وجوده، وإنّها لمظهرٌ من أدقِّ مظاهرِ تربيةِ اللهِ عزَّ وجلَّ لعباده.

ومن هنا كانَ النّاس ولا يزالون يرونَ أنفسهم ما بينَ مدٍّ وجزر من عطاءِ اللهِ سبحانهُ وتعالى وكرمه، أو من شدائدهِ وامتحاناتهِ وابتلاءاته.

منذُ فترة استقبلَ النّاسُ أوّلَ هذا الموسم بأمطارٍ سخيّةٍ وافرةٍ كثيرة، وسرعانَ ما استبشرَ النّاس وتأمّلوا خيراً وتصوّروا أنّهم أمامَ موسمٍ معطاء وأمامَ خيراتٍ كثيرة، ولكنَّ اللهَ سبحانهُ وتعالى غيَّرَ الأمرَ وبدّله، ومرّت أسابيع قد عدنا خلالها إلى الصّيفِ اللاهب، انقطعت تلكَ الأمطار، وانقطعَ ذلكَ الرّزق، وتهددت الأرضُ بالمحل، وظهرَ ظمأُ الأرضِ إلى كرمِ اللهِ سبحانهُ وتعالى، فما الحكمةُ من ذلكَ العطاءِ أوّلاً وهذا القبض ثانياً؟ أو من هذا المدّ أوّلاً وهذا الجزرِ ثانياً؟

الحكمة هي أن لا يُسلِمَ الإنسانُ نفسهُ إلى أمورِ الطّبيعةِ لا في عطائها ولا في منعها، وأن يتذكّرَ أنَّ من وراءِ الكونِ مكوّناً، وأنَّ من وراءِ العطاءِ معطياً، وأنَّ المسألةَ ليست مسألةً آليّةً أبداً، حتّى يكونَ هذا دافعاً للإنسان إلى أن يرحلَ إلى اللهِ عزَّ وجلّ، ويمدَّ يدَ السّؤالِ إلى الله، ويلحَ أمامَ بابهِ بالدّعاء، تلكَ هي الحكمةُ يا عبادَ الله.

ولكنَّ المصيبةَ الكبرى: أن يمرَّ على النّاسِ حالٌ يكونونَ فيها من القسوة والبعدِ عنِ الله، بحيثُ لا عطاءُ اللهِ يذكّرهم بالشّكر، ولا منعهُ لهم يذكّرهم بالالتجاءِ والدّعاء. ولعلّها حالتنا التي نمرُّ بها الآن.

عندما يعطينا اللهُ من فضله، وعندما يكرمنا اللهُ سبحانهُ وتعالى ويخرجُ لنا من كنوزه، لا نذكرُ الحمد، ولا نتذكّرهُ بالشّكر. وعندما يبتلينا اللهُ سبحانهُ وتعالى بنقيضِ ذلك، وعندما نجدُ أنَّ الأعشابَ قد ذبلت وأنَّ الأرضَ أخذت ترمق السّماء وهي تشكوا ظمأها، وعندما نجد أنَّ كثيراً من الشّدائدِ تتهدّدنا وتتسلّلُ إلينا أيضاً لا نذكرُ اللهَ عزَّ وجلّ، لا نذكرهُ في الحالةِ الأولى شاكرين، ولا نذكرهُ في الحالةِ الأخرى متضرّعينَ وداعين، وإنّها لحالةٌ تنبئُ بهلاكٍ شديد، وتنذرُ ببعدٍ عن اللهُ يبعثُ على شقاءٍ وبيل، وما أجدرَ بالإنسانِ في مثلِ هذه الحالة أن يتأمّلَ ذاته، وأن يتأمّلَ واقعهُ وحقيقةَ الكونِ الذي يعيشُ فيه.

ترى: لو أنَّ اللهَ سبحانهُ وتعالى ابتلانا بهذه الشّدائدِ التي نمرُّ بها، ولو لم يأذن لسمائهِ أن تمطر ولا لأرضهِ أن تنبت ولا للنباتِ أن يحافظَ على ثماره، ترى إلى أيِّ مصيرٍ نلجأ؟ هل من إلهٍ غيرِ الله نأخذُ منهُ رزقنا ونأخذُ منهُ رخاءَنا؟ هل علومُ الأرضِ كلّها -على اختلافها- هل تعيضنا عن الشّقاءِ الذي قد يحيطُ بنا؟ على الإنسانِ العاقلِ أن يسألَ نفسه، وأن لا يبقى محجوباً في تلافيفِ خبائه وبلادته، لا يمكنُ للعاقلِ أن يجيبَ إلا جواباً واحداً ألا وهو إنَّ ينبوعَ العطاءِ هو الله، ومصدرُ الابتلاءِ هو اللهُ سبحانهُ وتعالى.

فإنْ عزَّ على العاقلِ أن يعلمَ هذه الحقيقة ذكّرتهُ آياتُ كتابِ الله، إن كانَ يقرأُ كتابَ الله: ((أمّن هذا الذي يرزقكم إن أمسكَ رزقه بل لجّوا في عتوٍّ ونفور))، انظروا إلى تحدّي بيانِ اللهِ عزَّ وجلّ، انظروا إلى هذا الاستفهام الذي ينبعثُ فيهِ معنى التّحدّي ومعنى من معاني جلالِ الرّبوبيّةِ الأخّاذ: ((أم من هذا الذي يرزقكم إن أمسكَ رزقه))؟ إن لم يأمر الله السّماءَ بأن تمطر كما قلت ولم يأمرِ الأرضَ بأن تنبت، التجئوا ما شئتم أن تلتجئوا، إلى الاختراعاتِ والابتداعاتِ وعلومِ الشّرقِ والغرب، فوالله لن يزيدكم ذلكَ كلّهُ إلا شقاءً، ولن تنتقلوا إلا من حرمانٍ إلى حرمان.

وقديماً وحديثاً، قالَ لنا الأغبياءُ المغفّلون: إنَّ هنالكَ قنابل تتفجّرُ في السّماء فتُهطِلُ الأمطارَ حيثُ شئنا، ولا يزالُ فريقٌ من المغفّلينَ البُله يقولونَ هذا الكلام.

أينَ هو الرصين الذي يصدّق هذه الخرافة؟ ماللملايين تتضوّرُ جوعاً هنا وهناك؟ ومالها تقفُ على حافّةِ الهلاكِ والموت؟ ماللأراضي المحيطةِ بنا غرباً وشرقاً ممحلةٌ مُجدبة؟ ومن حولِ هذه الأراضي يكون المخترعونَ والعلماءُ والباحثون؟ لمذا يتهدّدُ الموتُ الجياعَ في افريقيا وغيرِ افريقيا؟ لماذا لا يقبلُ هؤلاءِ المدّعون ومن وراءهم جنودهم المغفّلون من أجلِ أن يغيّروا هذه الآلامَ إلى لذّةٍ وسعادة، ومن أجلِ أن يبدلوا الشّدّةَ رخاءً؟ ذلكَ لأنَّ الكلَّ خاضعٌ طوعاً أو كرهاً لهذا القرارِ الرّبّانيّ: (أم من هذا الذي يرزقكم إن أمسكَ رزقه بل لجّوا في عتوٍّ ونفور)، وربّنا عزَّ وجلّ يريدُ منّا أن نتحقّقَ بعبوديّتنا، والعبوديّةُ لا تتحقّق إلا بالالتجاءِ إلى الله، والالتجاءُ إلى الله لا يفورُ بينَ جوانحِ الإنسان إلا إذا مسّهُ الضُّرّ، إلا إذا شعرَ بحاله، إلا إذا شعرَ بالألم، إلا إذا شعرَ بشبحِ الجوع يتهدّدهُ من بعيدٍ أو قريب، سواءٌ كانَ هذا الإنسانُ صالحاً أم طالحاً، سواءٌ كانَ مذنباً أو غيرَ مذنب، يريدُ اللهُ عزَّ وجلَّ أن يذكّرَ عبادهُ بالالتجاءِ إليه، ومن ثمَّ فهو ينقلهم ما بينَ رخاءٍ وشدّة، رخاءٌ آناً ليذكروا اللهَ بالشّكر، وشدّةٌ آناً ليذكروا اللهَ بالضّراعةِ والدّعاء.

ولذلك فقد مرّت على الصّحابةِ رضوانُ اللهِ عليهم في عهدِ عمرَ بنِ الخطّاب فترة أمحلت فيها الأرض، واحتبسَ فيها قطرُ السّماء، وأصحابُ رسولِ اللهِ هم من تعلمون، وأميرُ المؤمنينَ عمر ذلكَ الإنسانُ السّائرُ على قدمِ رسولِ الله صلى اللهُ عليهِ وسلّم، ولكنّها سنّةُ اللهِ في عباده، لا بدَّ أن يبتليهم بما يذكّرهم بالالتجاءِ إلى الله ثمَّ بما يذكّرهم بشكرِ الله. استمرّت بهم هذه الحالة مدّةً وقد روى ابنُ كثيرٍ وصحّحَ هذه الرّواية: أنَّ أعرابيّاً ذبحَ شاةً ونظرَ فإذا بعظامها محمرّة من شدّةِ الجوعِ. فصاحَ قائلاً: وامحمّداه، وذهبَ إلى قبرِ المصطفى صلى اللهُ عليهِ وسلّمَ فقال: يا رسولَ الله استسقِ لأمّتك. فرأى الأعرابيُّ تلكَ الليلةَ رسولَ اللهِ في الرّؤية، وقالَ لهُ: أبشر إنّكم ستسقون، ولكن ائتِ عمر فقل لهُ: الكَيْسَ الكَيْسْ. وقامَ الأعرابيُّ من نومهِ للتو وذهبَ إلى أميرِ المؤمنينَ عمر فأخبرهُ بما رأى، وعلمَ عمرُ تأويلَ الرّؤيا، وعلمَ أنّها تذكرةٌ من رسولِ اللهِ لهُ أن يخرجَ بالصّحابةِ إلى الصّحراءِ فيتضرّعوا إلى الله. بكى عمر وأخذَ يستغفرُ اللهَ عزَّ وجلّ وكأنّهُ اتّهمَ نفسهُ بالنّسيان وسرعانَ ما نادى في أصحابِ رسولِ الله، فخرجوا يلتجؤونَ إلى الله، ويتضرّعونَ عندَ بابِ الله، ويمدّونَ أكفَّ الحاجةِ إلى الله وهم من تعلمون. هم أصحابُ رسولِ الله، وأميرهم عمرُ بن الخطّاب أميرُ المؤمنين، ومع ذلك ما اختلفت سنّةُ اللهِ في حقّهم، أتختلفُ في حقّنا نحن العصاة، البعيدينَ عن الله، المسرفينَ على أنفسنا، أولئكَ الذينَ ركبنا متنَ الشّططِ في أمورنا السّلوكيّةِ والاعتقاديّة؟ كيفَ يكونُ حالنا؟

فمالنا لا نلتجئُ إلى اللهِ كما التجأَ أولئكَ الصّحابةُ على أقلِّ تقدير؟ وكما ذكّرَ رسولُ اللهِ عمرَ وقالَ لهُ: الكَيسَ الكَيس، أي اخرج فادعُ اللهَ سبحانهُ وتعالى واسألهُ واتّجه إليه، فإنَّ رسولَ اللهِ يذكّرنا نحنُ أيضاً من خلالِ كلِّ شيء، ومن خلالِ كلِّ أدب، ومن خلالِ كلِّ مظاهرِ البؤسِ والشّدائدِ على اختلافها.

يذكّرنا رسولُ اللهِ بالكَيْس، أن نلتجئَ إلى الله، وأن نتضرّعَ إليه، يصلحِ اللهُ عزَّ وجلَّ شأننا، (فقلتُ استغفروا ربّكم إنّهُ كانَ غفّاراً * يرسلِ السّماءَ عليكم مدراراً * ويمددكم بأموالٍ وبنينَ ويجعل لكم جنّاتٍ ويجعل لكم أنهاراً)، فاللهم ارزقنا اليقينَ كما ترضى، واللهمَ ارزقنا الالتجاءَ إليك، اللهمَّ لا تحجبنا عنكَ بنعمةٍ تكرمنا بها ولا بشدّةٍ تبتلينا بها، فاستغفروهُ يغفر لكم...

تحميل



تشغيل

صوتي