مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 16/10/1987

يا عجباً من غفلة الناس

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

لقد صح عما ورد من شمائل المصطفى r أنه كان كثير الفكر دائم الذكر دائم الأحزان، إلى آخر ما هنالك من الصفات التي صحت عن شمائل المصطفى عليه الصلاة والسلام، وكثيرٌ من الناس عندما يسمعون هذه الصفات وأمثالها من شمائله r قد يتَوًهمون أنها من خصائصه، وأنها من المزايا التي ما ينبغي أن يتصف بها غيره، فلا يُحَمِّلون أنفسهم مسؤولية الاقتداء برسول الله r بها أو بشيء منها، وهذا وهم كبير.

فإن المصطفى عليه الصلاة والسلام إنما جعله الله عزَّ وجل قدوة لنا، وجعله مثالاً يحتذا، ألم يقل الله عزَّ وجلّ: )لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا(. وإذا كان رسول الله r المعصومَ من الانحراف المنزّهَ عن المعاصي والسيئات، إذا كان مع ذلك كثيرَ الفكر دائمَ الذكر دائمَ الأحزان، فكيف ينبغي أن يكون حال من هو مغموسٌ بالسيئات معرضٌ لارتكاب المعاصي والآثام، لا يعلم مصيره الذي سينتهي إليه أإلى جنة أم إلى نار، إذا كان المصطفى عليه الصلاة والسلام، وهو المعصوم المنزه عن الآثام، المبشر برضوان الله عزَّ وجل، وبأن الله سبحانه وتعالى سيعطيه إلى أن يرضيه، مع ذلك كان كثير الفكر دائم الأحزان إذاً كيف ينبغي أن يكون حالنا نحن؟! ونحن لا نعلم المصير الذي سننتهي إليه، ولا نعلم النهاية المدَّخرة لنا، ثمَّ إننا مع ذلك وقبل ذلك معرّضون للكثير من السيئات والآثام.

إن هذه الصفة التي وردت عن المصطفى عليه الصلاة و السلام هي معناً عظيمٌ شرفه الله عزَّ وجل به، ثم إنه تعليم لنا نحن أن نقتدي برسول الله r في ذلك، ولئن كانت هذه الصفة في حياته r من المحسِّنات، فهي في حياتنا من الضروريات، لا يمكن أن تصلح حياتنا أبداً إلا إذا كنا كثيري الفكر، دائمي الذكر نتأمل في النهاية التي نحن مقبلون عليها، ونظراً إلى أنَّ أكثرنا مُعرضٌ عن هذه الصفة مُسرفٌ على نفسه، فكره متجهٌ إلى الدنيا التي من حوله والشهوات التي تبرُق عن يمينه وشماله، وذكره لملاذه ومتعه؛ نظراً إلى ذلك ... فقد أصبح إيمانُنا – عندما يكون إيمان – إيماننا أمراً تقليدياً ومظهراً ميتاً وشيئاً لا حراك ولا حياة فيه، ولم يعد غريباً أبداً أن يوصف الإنسان بأنه مؤمنٌ بالله عزَّ وجل ثم تجده يؤلِّه الدنيا التي يسعى وراءها ويؤله الشهوات التي اقتنصت قلبه بالمحبة والوداد، وتجده لا يتأمل صباحه ومساءه إلا في صفقاته التجارية أو أعماله الدنيوية، أما حقوق الله عليه فهي آخر ما يتأمل فيه ويفكر – مع أنه مؤمن بالله.

لماذا وكيف جاء هذا الازدواج بل ظهر هذا التناقض؟ لأن هذا الإنسان ليس كثير الفكر ولا دائم الذكر؛ بل هو معدوم الفكر معدوم الذكر لله سبحانه وتعالى؛ ولذلك أيضا قد تجد الإنسان وهو منتسب إلى الإسلام ومنتمٍ إلى الإيمان بالله سبحانه وتعالى، ولكنك تتأمله فإذا هو سكران، إذا هو سكرانُ بكبريائه، وإذا هو مأخوذٌ بنعم الله التي أغدقها الله عزَّ وجلّ عليه قد جعل منها حجاب بينه وبين الله سبحانه وتعالى، آتاه الله شيئاً من العلم يجعل من علمه سُلماً يعلو إليه ليتكبر به على الله، آتاه الله شيئاً من القوى والعافية يجعل من قوته وعافيته دليل استغناءٍ عن الله سبحانه وتعالى، آتاه الله شيئاً من المال والغنى جعل هذه النعمة التي آتاه الله سبحانه وتعالى إياها سَكَراً يشغله ويلهيه عن الله سبحانه وتعالى، وهو مع ذلك ينتمي إلى الإيمان وينتسب إلى الإسلام، لكن أيُّ إسلام هذا؟ وأيُّ إيمانٍ هذا الذي لا ينهض على جذور ولا يستقر على حقيقة راسخة في الفؤاد!!! إن هذا الإنسان وأمثاله إنما ينطبق عليهم قول الله عزَّ وجل: )وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ(. لئن لم يظهر هذا في دار الدنيا فإن ذلك سيظهر عما قريب يوم القيامة.

وعبثاً تحاول إن أنت ناقشت وذَكَّرت وأنَّبت أو حاورت واحداً من هؤلاء الناس ؛ لأن السَكران لا يمكن أن يعيي ما تقول، السكران يتكلم إلا أن لسانه منفصلٌ عن عقله، فعقله في واد ولسانه في وادٍ آخر، وهؤلاء سَكروا بنعمة الله عزَّ وجلَّ أولاً، ونسوا أنفسهم ثانياً إذ إنَّ الواحد منهم لا يفكر في الشهر ولا في العام مرةً في ذاته، من أنا .. ما حقيقتي .. ما هي هويتي؟ هل أنا أملك من أمر نفسي مثقال ذرة أم لا أملك شيئاً منها ؟ لا يفكر على نقيض ما كان عليه المصطفى r دائم الفكر، فهو أولاً ناسٍ نفسه، ثانياً هو سكرانُ بالنعم التي أغدقها الله سبحانه وتعالى عليه فحاق عليهم قول الله سبحانه وتعالى: )نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ) ولذلك لا فائدة من أن تحاورَ واحداً من هؤلاء وتحاكمه إلى موازينِ علم، ولا إلى موازين رؤيا ولا إلى موازين تذكرة مما يذكرنا به الله سبحانه وتعالى؛ وإلا فإن كلام الله سبحانه وتعالى يزلزل الجامدات ويجعل الصخور الراسيات تتفجر وتنهمر كيف لا والرب عزَّ وجلّ هو القائل:)لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ(. أي لو وجهنا خطابنا هذا بدلاً من اتجاهه إلى الإنسان لو وجهناه إلى جبل إلى حجارة إلى صخور لرأيت هذا الجبل قد تهاوى لرأيته تصدع من خشية الله سبحانه وتعالى، ولكنَّ في الناس -كما قلنا في الأسبوع الماضي - من يتمتعون بقلوب هي أقسى من الصخر هي في الواقع ليست أقسى من الصخر، لكنها آلت أخيراً إلى هذه الحال كما يستحجر الطين؛ يتحول الطين اللازب إلى حجر صلب كيف هذا؟

لما نسي هؤلاء الناس أنفسهم ولم يتفكروا بذواتهم، ولم يذكروا الصلة التي بينهم وبين الله سبحانه وتعالى، وأغرقوا أنفسهم في خضم النسيان يوماً إثر يومٍ وشهراً إثر شهرٍ وعاماً إثر عام، رانت هذه الحالة على قلوبهم واستحالت هذه الأفئدة النابضة إلى صخور قاسية بل إن الصخور ربما كانت أرق منها وألين، ولذا فإنا لا نعجب عندما نرى إنساناً نذكره بكلام الله ولكنه يلوي ويعرض الرأس عن كلام الله سبحانه وتعالى لا نعجب إن ذَكَّرنا إنساناً بقول الله سبحانه وتعالى )يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ #ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ # وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ( نقرأ هذا الكلام على أسماع أشخاص وإذا بنا نتخيل هذه الآيات وكأنها كرة قذفتها إلى جدارٍ صلب ما هي إلا أن ترتد من ذلك الجدار إلى الجهة التي اتجهت منه، تلك هي حال آذانهم وتلك هي حال قلوبهم.

الربُّ عزَّ وجل يقول: لا تتباهى بعلمك فيوشك إن طالت بك الحياة أن يزول علمك بعد جهل أن يزول علمك هذا فتصبح جاهلاً بعد علم، وتصبح ناسياً بعد ذكر وتصبح ضعيفاً بعد قوة، إذاً هذا العلم ليس علمك إنما هو علم الله الذي أنزله إليك لتتمتع به إلى حين، ومع ذلك فما أكثر السُكارى الذين يتباهون بالعلم، ويقولون إن الإنسان قد وصل من العلم إلى حيث امتلك زمام الطبيعة وسخرها كما يشاء ووصل بها إلى ما يريد، ومن ثَمَّ فهو ليس بحاجة إلى دين ولا إلى الانضباط بشيء، هل في السُكارى من يكون سُكره أشدَّ من هذا العبث وهذا الهذيان!! وإلى أيِّ حدٍ وصلتَ من العلم يا أيها الأحمق؟ ما هو العلم الذي وصلت إليه وأنت عاجزٌ عن التحكم في ذاتك فضلاً عن التحكم بما تسميه الطبيعة، إنْ ابتلاك الله بأرق لا تستطيع بعلمك الذي تتباهى به أن تجرَّ إلى عينك الرقاد، وإن شاء الله عزَّ وجلّ أن يجعل نومك ثقيلاً لا ينفك عنك لم تستطع أن تلتجئ إلى علم يعيد لك اليقظة، وإذا نظرت إلى نفسك في المرآة وقد ظهرت في وجهك خطوط المشيب وامتلأ الشعر الأبيض في فوديك ورأسك لم يُنجدك علمك في أن يعيد إليك الشباب مرةً أُخرى، أيُّ سكرٍ هذا؟ ما سبب هذا كلِّه؟ سبب هذا كلِّه أنَّ هذا الإنسان غافل لا يمتع كيانه بفكر ولا بذكر، ومن ثم ففيما يحزن ولماذا يجزع وهو لا يعلم إلا اللحظة التي يعيش فيها!! لا يعلم ذاته، ولا يعلم العلاقة بينه وبين خالقه، ولا يعلم شيئاً عن جوهره وكيانه ومبدئه ومنتهاه، ذلك لأنه لا يمتّع كيانه ويغديها بأي ِّ فكر ولا أي ذكر، فالحب بعيدٌ عنه والتأمل في المستقبل بعيدٌ عنه، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يعافينا مما ابتلى به كثيراً من خلقه، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن لا يضرب بين عقولنا وبين أنفسنا بحجاب يَزجُّنا إلى أسوأ مما عليه المجانين

فاستغفروا الله يغفر لكم

تحميل



تشغيل

صوتي