مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 25/09/1987

حول من جاءتهم الابتلاءات تأديباً فلم يتنبهوا

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

فاتحتان لسورتين في كتاب الله عزَّ وجل ما قرأتهما مرة إلا وتنبهت إلى أن فيها شحنة عظيمة من التهديد والتخويف والإنذار والوعيد، ما لو تنبه إليه الضالون لاهتدوا، وما لو مرت على أسماع الساهرون لاستيقظوا، وما لو التفت إليها المنحرفون لاستقاموا. الفاتحة الأولى هي قول الله سبحانه وتعالى: (ألر # تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآَنٍ مُبِينٍ # رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ# ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)، أما الفاتحة الثانية في السورة الأخرى، فهي قول الله عزَّ وجل: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ # مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ #لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ)، ولكن العجب الذي لا ينتهي هو أننا نجد كثيرٌ من القلوب تمر عليها هذه الآيات المخيفة المنبهة المتوعدة فلا تتحرك لها، ولا يتحرك فيها ساكنٌ لشيءٍ من هذه المعاني العجيبة المخيفة التي تصورناها، العجب الذي لا ينتهي أن في الناس من يتمتعون بإحساس ومن يتمتعون بعقول مفكرة وبألباب مدبرة ويسمعون بمناسبات أو بأخرى يستمعون إلى هذه الآيات فلا يتغير من واقعهم السيئ شيء، ولا يتحركون من مسيرتهم إلى الانحدار ومزيد من الضلال والتيه شيء.

ولا عجب .. فقديماً أوضح الله سبحانه وتعالى أنَّ في قلوب الناس ما هو أقسى من الحجارة والصخور الصماء، ألم يقل الله سبحانه وتعالى في محكم تبيانه: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ)، ولكن في قلوب الناس ما لا يتحرك لتنبيه منبه، ولا إيقاظ ذي عقل - مالا يتحرك لأي كلام ولو كان من رب العالمين سبحانه وتعالى.

كثيرون هم الذين تمروا بهم قوارع الدهر وسياط التأديب الرباني من ابتلاءات فلا يتنبهون ولا يستيقظون، وكثيرون هم الذين يمدهم الله سبحانه وتعالى بوارفِ النعم وجزيلِ العطاء فلا يخجلون ولا يستحيون، وكثيرون هم الذين تطوفُ من حولهم عبرُ الدهر ودلائل عظمة الله، وأن الله يأخذُ بالنواصي والأقدام، وأنه هو المتصرفُ في عبادهِ كيفَ يشاء، فلا تتحرك عقولهم لشيء من هذه الدلائل أو العبر قط، فبأي حديث بعد الله يؤمنون؟! بأي حديث بعد الله يؤمنون، بأي عبرة بأي تأديب بأي قارعة من القوارع؟! بأي نعمة تأتي من قِبَل الله عزَّ وجل يمكن لهم أن ينتشلوا أنفسهم من وادي ضلالتهم السحيق، كلُّ الطرق سدت وكل الأبواب غُلقت؛ ذلك لأن الأمر كما قال الله عزَّ وجل: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَة)

استمعت عَرَضاً من قريب إلى حوار يجري بين شخصين، أحدهما ينتمي إلى هذه البلدة المجاورة لنا التي بلزقنا، والتي ابتلاها الله عزَّ وجل منذ أكثر من عشر أعوام بسياط الفتن بسياط التأديب والتأنيب، بطريقةٍ لو أن الذين تتهاوى عليهم هذه السياط كانوا من الحيوانات العَجْمَاوات لتَنَبَهوا ولَارْعَوَوا، كان أحدهم منتسباً إلى تلك البلدة وسمعته يقول لصاحبه معتزاً متباهياً متفاخراً يقول: (أتتصور مدى هذه الحرب التي أناخت بكَلْكَلِهَا على صدورنا، هذه الفتن وهذه المصائب التي ادلهمَّ ظلامها فيما بيننا مع هذا كلِّه فإن مسارحنا عامرة، وإنَّ لياليَ لهونا مستمرة، وإنَّ الفنَّ في حياتنا في تصاعد، وإنَّ الناس الذين يقبلون على هذا اللهو يتزايدون ولا ينقصون)، لقد كذّبت أذني بادئ ذي بَدء، ما هذا الكلام! أعاقلٌ هذا الذي يقول هذا الكلام! أيتمتع فعلاً بإحساسٍ ووجدان؟! يتباهى الرجل أنه على الرغم من سياط الفتن التي تتهاوى منذ سنوات على ظهور الناس هناك، على الرغم من التأديب الإلهي الذي تَتَمَطَّر مظاهره عليهم، على الرغم من هذا يتباهى الرجل أن الأسباب التي فجّرت هذه المصائب في تزايد، وأنهم لا يزالون يغزون هذه الأسباب ليستمطروا بها مزيداً من غضب الله سبحانه وتعالى، مع أن الله سبحانه وتعالى يقول وكلامه يتكرر ويتردد على مسامعنا ليل نهار: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ). هذا ليس كلام بشر ليس كلام مؤرخ، ولو أنَّ الإنسان تنبه بشيءٍ من عقل إلى هذه الصياغةِ العجيبة، إلى هذا الأسلوبِ الفريد من نوعه إلى هذه المعاني العُلْوِيَةِ ذَاتِ الزَّخم الجَلاليّ؛ لعلم أنه كلام من استقل بإيجادنا ومن استقل بإمدادنا، كلام من بيده إيجادنا وإعدامنا، بيده نفعنا وضرنا، هذا كلام الله سبحانه وتعالى.

نحن نصغي صباحَ مساء إلى قوله سبحانه وتعالىوهو يقول: (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى # وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى) أيُّ مجنونٍ هذا الذي أُوتي حظاً بسيطاً من العقل يستطيعُ أن يزعُم أنَّ هذا ليس كلام رب العالمين. (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي) المخلوق لا يقول هذا الكلام ولا يستطيع أن يقول هذا الكلام، إنه كلام من بيده الأمر كله وبيده الحكم كله منه المبدأ وإليه المنتهى، نسمع هذا الكلام ويسمع الناس هذا الكلام الأخَّاذ الذي هو كلام ربِّ العالمين، ولو أنك سألت الواحد منهم أمؤمنٌ أنت بالله؟ قال لك: نعم طبعاً أنا مؤمنٌ بالله عزَّ وجل، وهذه أعجوبة أُخرى تؤمن بالله ولا تؤمن بحَاكِمِيَته عليك، تؤمن بالله ولا تؤمن بعبوديتك له، تؤمن بالله ولا تؤمن بأنَّ عليك ضريبةً من معاني هذه العبودية لمولاك وخالقك، كيف هذا؟ كيف يتم هذا التناقض؟ تؤمن بالله عزَّ وجل ثم تزيد طغيانك طغياناً! وتزيد الأسباب التي بها غضب الله عليك تزيدها عمقاً وتزيدها استثارةً لغضب الله سبحانه وتعالى! كيف يكون الإنسان عاقلاً وهو يفكر بهذه الطريقة المتناقضة من التفكير؟ كيف يتم ذلك؟

أنا عندما علم أني عبدُ مملوك لله عزَّ وجل أعلم أني مقيدٌ بسلطانه، وإذا علمت أني مقيد بسلطانه أعلم أنني مكلف بسلوك منهج معين، بالسير في طريق محدد إرضاءً لمن بيده أمري، إرضاءً لمن يأخذ بناصيتي، أنا أعلم هكذا، ومن ثَمَّ فلابدَّ أن أتبع صراطه وألتزم منهجه، قد أزيغ وقد أرتكبُ معصية؛ لكن لا بسائقِ تبرير لا مع فلسفةٍ وتباهٍ وغطرسة وإنما بسائق ضعف، وعندما تزل بيَ القدم بهذا الدافع فإن ضعفي سيعيدني إلى حمى ربي، ضعفي سيلجئني إلى التوبة والإنابة إلى الله وسرعان ما يتوب الله علي وسرعان ما يغفر ذنبي وإن كان من الكثرة كزبد البحر، ولكن لا يمكن لمن علم أنه عبد أن يرفع الرأس عالياً بمعصيته، لا يمكن أن يرفع الرأس عالياً بمحاربته لأمر الله سبحانه وتعالى يقول: (على الرغم من هذه المصائب على الرغم من هذه الفتن التي نعاني منها؛ فإن ليالينا اللاهيَة على ما هي عليه، ولا يزال الزبائن والرواد يتكاثرون، ولا تزال مظاهر الفن في ازدهارٍ وتقدم على الرغم من كل ما نعاني منه) والله إني لأتصور أن هذا الكلام لينطوي على ما يستدعي غضباً متضاعفاً من الله سبحانه وتعالى على هؤلاء الناس، ولربما أصابنا من رشاشهم، ولربما أصابنا من طفح غضب الله المتنزل عليهم، أين الذين إذا أدبوا تأدبوا؟ أين الذين رُبُوا تَرَبوا؟ أين الذين إذا ذُكِّروا بالله تعالى تذكروا؟

وأنا أقول هذا الكلام أيها الأخوة بعيداً عن أولئك الذين ابتلاهم الله فلم يتأدبوا، إنما أقول هذا عبرةً لنا، أقول هذا لأعود إلى نفسي وليعود كلٌ منكم إلى نفسه فيسأل الله العفو والعافية، أقول هذا الكلام حتى يتمسك كل منا بمعاني عبوديته لله ويزداد انصياعاً جهدَ استطاعته لأمر الله سبحانه وتعالى، وحتى يدعوَ كلً منا من شغاف قلبه وبذل وضراعة يقول يا رب: (لا تجعلنا مع هؤلاء الذين تاهوا عن سبيلك وضلوا عن صراطك وطغوا وبغوا فأنزلت عليه سياط تأديبك وتربيتك، اللهم إنا نسألك العفو والعافية).

أقول من هذا الكلام لنجعل من هذا الواقع الذي نشاهده - ليس تاريخاً بعيداً ولا قصصاً قديمة إنما هو واقعاً نراه – أقول هذا الكلام لنجعل هذا الواقع درساً لنا؛ كي يزيدنا إيماناً بالله ويزيدنا مخافة من الله و يزيدنا حباً لله عزَّ وجل، كي نتمثل المعنى العظيم الذي يقوله ابن عطاء الله السكندري - رحمه الله -: (تحقق من معاني عبوديتك وتعلق بمعاني ربوبيتك) وما أجدرنا أن نتحقق بهذا الكلام الذي يقوله ابن عطاء الله بمثل هذا الزمن ونحن نرى هذه المظاهر؛ أن نتحقق بمعاني عبوديتنا ونلتصق بأودية العبودية والذل والانكسار لله، ولا نرفع الرأس استكباراً على الله عزَّ وجل، ثم نتعلق بأذيال ربوبية الله لنا، نتعلق بقوته ليقوينا، نتعلق بغناه ليغنينا نتعلق برحمته ليرأف بنا، نتعلق بمظاهر ربوبيته لكي نسعد بفيض هذه المظاهر في حياتنا، أقول هذا الكلام عسى أن نكون ممن يعتبرون، ولكي لا نكون ممن يجرفهم التيار. أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي