مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 12/06/1987

آيات من كتاب الله كأنما أنزلت اليوم

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

آياتٌ في كتابِ اللهِ سبحانهُ وتعالى تنطبقُ على واقعنا في هذا العصر، بل لكأنّها أُنزلت في حقّنا نحن، فلا أدري أنحنُ معرضونَ عنها أم نحنُ نقرؤوها بقلوبٍ ساهيةٍ قاسية؟ ألا فلنقف عندَ هذه الآيات لعلّها توقظُ مشاعرنا الميتة، ولعلّها توقظنا من سبات وتعيدنا مرّةً أخرى إلى جادّةِ صراطِ اللهِ سبحانهُ وتعالى، يقولُ اللهُ عزَّ وجلّ: ((وضربَ اللهُ مثلاً قريةً كانت آمنةً مطمئنّةً يأتيها رزقها رغداً من كلِّ مكان فكفرت بأنعمِ الله فأذاقها اللهُ لباسَ الجوعِ والخوفِ بما كانوا يصنعون)). ويقولُ عزَّ وجلّ: ((لقد كانَ لسبأٍ في مسكنهم آيتان جنّتانٍ عن يمينٍ وشمال كلوا من رزقِ ربّكم واشكروا له بلدةٌ طيّبةٌ وربٌّ غفور * فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيلَ العرمِ وبدّلناهم بجنّتيهم جنّتينِ ذواتي أكلٍ خمطٍ وأثلٍ وشيءٍ من سدرٍ قليل * ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور)). ويقولُ اللهُ سبحانهُ وتعالى: ((كلوا من طيّباتِ ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحلَّ عليكم غضبي ومن يحلل عليهِ غضبي فقد هوى وإنّي لغفّارٌ لمن تابَ وآمنَ وعملَ صالحاً ثمَّ اهتدى)). ويقولُ عزَّ من قائل: ((ولقد أرسلنا إلى أممٍ من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضّرّاء لعلّهم يتضرّعون فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرّعوا ولكن قست قلوبهم وزيّنَ لهم الشّيطانُ ما كانوا يعملون فلمّا نسُوا ما ذُكّروا بهِ فتحنا عليهم أبوابَ كلِّ شيء حتّى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتةً فإذا هم مبلسون)). ويقولُ مولانا جلَّ جلاله: ((وإذا أردنا أن نهلكَ قريةً أمرنا مترفيها - أي أمرناهم بالطّاعة - ففسقوا فيها فحقَّ عليها القول فدمّرناها تدميراً)).

ألا تلاحظونَ يا عبادَ الله أنَّ هذه الآيات تنطبقُ على واقعنا أيّما انطباق، ألا ترونَ أنّها كأنّما أنزلت في هذا العصرِ بل في هذه الأيّام تحذيراً لنا وإنذاراً وتنبيهاً لنا وإشعاراً، وذلكَ مظهرٌ من مظاهرِ إعجازِ كتابِ اللهِ عزَّ وجلّ، تتلو آياتهِ فلا ترتابُ في أنّها أنزلت عليكَ أنت، وأنّكَ أنتَ المعنيُّ بها في زمنكَ هذا.

ما هو واقعنا الذي نعيشُ فيهِ اليوم، أمّا المعاصي فقد انغمسنا فيها أصنافاً وألواناً، ما من معصيةٍ من المعاصي على أيِّ مستوىً من المستويات إلا وانزلقنا فيها ولا مجالَ لاستعراضها تفصيلاً، كل المعاصي، بدئاً من الماملاتِ الماليّة، بدئاً من أصنافِ السّرقة، وأصنافِ الغشِّ والمكائد، والظّلم وإلى كلِّ أنواع التّحلّلِ والفجور، وإلى كلِّ مظاهرِ الطّغيان بالنّعمةِ التي أكرمنا اللهُ سبحانهُ وتعالى بها، كلّكم يعلم أنَّ الإنسانَ اليوم قد فسدت ذمّته، وتفسّخت أخلاقهُ وطباعه، وعادَ وحشاً ضارياً مستأسداً همّهُ أن يأكلَ أخاهُ وجاره، مبتغاهُ أن يجعلَ من مالهِ شفرةً يحدُّ بها أنيابه تربّصاً بإخوانه، يتفنّن كيفَ يتلاعبُ عليهم، كيفَ يستلُّ أموالهم.

وإنّكم لتعلمون أنَّ هذه الأموال لم تعد بينَ أيدينا أداةً لشكرِ اللهِ على نعمه بل أصبحت أداةً لكفرانِ الله عزَّ وجلّ وجحوده، أصبحت أداةً وسلّما للوصولِ بها إلى كلِّ أنواعِ الفجور، وكلِّ مظاهرِ التّحلّل، بيوتنا محشوّةٌ بكلِّ ما تعلمونَ من هذه المظاهر ومع ذلك فليست هذه هي المصيبة العظمى، نعم ليست هذه هي المصيبةَ الكبرى فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يغفرُ الذّنوبَ جميعاً كما تعلمون. ولكنَّ المصيبةَ الأدهى والأطمّ: هي أنّنا ونحنُ نخوض غمارَ هذه المعاصي لا نريدُ أن نتذكّرَ من نسيان ولا نريد أن نندمَ على هذهِ الحالِ التي وقعنا فيها، وإن استطعنا أن نُخرِسَ الألسنةَ التي تذكّرنا فعلنا، ليسَ فينا من يتصوّرُ أنّهُ قد عصى الله، وليسَ فينا من يتصوّرُ أنه قد ارتكبَ شيئاً يغضبُ اللهَ عزَّ وجلّ، وتطوفُ من حولنا المنذرات والمنبّهات والموقظات، فنعرضُ عنها أو نستهزئُ بها أو نتفلسفُ في تهوينِ أمرها وكأنَّ شيئاً خلافاً للواقعِ لم يقع قط.

هذه هي المصيبةُ الكبرى التي هي أعظمُ من كلِّ تلكَ المصائب، فوقَ مآسينا التي تعلمون، فوقَ آثامنا التي تقشعرُّ لها النّفوس، ولو شئتُ لأفضتُ القولَ في ذلك، ولوضعتكم أمامَ نماذجَ ومشاهد، فوقَ هذا كلّهِ ربّنا جلَّ جلاله الرّحيمُ الودود يذكّرنا، يوقظنا بما نرى من مظاهرِ الحرمانِ التي تطرقُ أبوابنا وتدلفُ شيئاً فشيئاً إلى بيوتنا فلا نستيقظ، ولا نتنبّه، أينَ همُ الذينَ قد ارتعدَت قلوبهم واقشعرّت أفئدتهم من طبيعةِ هذا العامِ الذي تمرّونَ فيه، أينَ همُ الذينَ يقولون: أهذا شتاء؟ متى كانَ عهدنا بالشّتاءِ في عصرٍ من العصور أنّهُ يمرُّ بنا بهذا الشّكل، شتاءٌ أشبهُ بالصّيفِ اللاذعِ منهُ بأيِّ فصلٍ من الفصول، ها هوَ ذا شهرُ شباطَ قد تولّى، وها هو ذا آذارُ من بعدهِ قد انتصف، وأنتم تمرّونَ في صيفٍ لاهب، وها هي ذي الآثار تطلُّ بقرونها المخيفة، ها هي ذي مياهُ الينابيعِ نضبت أو تكاد، ولئن كانَ فينا من يستر فإنَّ الحقائقَ لم تستتر، لماذا لا نتذكّر؟ المصيبةُ كلُّ المصيبة، المعصيةُ التي أدهى من كلِّ المعاصي: أن تمرَّ بنا هذه الأحوال ونحنُ في سبات، ونحنُ في معاصينا وسكرتنا لاهون،كما قالَ قائل: (وماذا لو أنَّ قطرَ السّماءِ احتبس؟ إنَّ الدّنيا اليوم قد أصبحت بلدةً واحدة، نظامُ الاستيرادِ والتّصدير تغني كلَّ البلاد التي نزلت فيها الأمطارُ أو التي لم تنزل). أهذه سخريةٌ بربِّ العالمين؟ أم هذا استهانةٌ بقضاءِ الخالقِ عزَّ وجلّ؟ أم هذا غباءٌ وبَلَه؟ أم هو هذا كلّهُ أجمع؟ نعم، هو غباءٌ وهو بعدَ ذلكَ استهزاءٌ باللهِ عزَّ وجّل، ولكن ما أشبهَ هذا الاستهزاءَ الغبيّ بتلكَ السّخريةِ الأخرى التي قالها غبيٌّ من الأغبياءِ يومَ بُنيَ سدٌّ من السّدودِ فقالَ متعجرفاً متباهياً: (ها نحنُ لقد أشدنا السّد وإذاً فقد أصبحنا منذُ اليومَ في غنىً عن رحمةِ السّماء). هل من بلاهةٍ تصلُ إلى هذا الحدّ؟ إذا كنتَ قد هيّأتَ وعاءً لطعامك، فإنَّ أيَّ عاقلٍ يعلم أنَّ وعاءكَ بمقدارِ ما يكونُ كبيراً يكونُ افتقارُكَ إلى الطّعامِ أكثر، ماذا يغني السّدّ إذا كانَ فارغاً لم تملأهُ الرّحمةُ الإلهيّة؟ (نستطيعُ أن نستوردَ ما نشاء)، أيُّ منطقٍ هذا؟

أسألُ اللهَ عزَّ جلَّ ألا يهلكنا بهذا الكلام، وأسألُ اللهَ عزَّ وجلَّ أن لا يجعلنا نقعُ تحتَ طائلةِ قوله: ((واتّقوا فتنةً لا تصيبنَّ الذينَ ظلموا منكم خاصّة)).

كنّا نعلم من عادةِ هذه البلدة أنّهُ إذا مرَّت أسابيع، إذا مرَّ أقلُّ من شهر والنّاس لا يجدونَ المطرَ في وقتهِ الطّبيعيّ يأخذُ الهلعُ بمجامعِ أفئدتهم، وتتعلّقُ أبصارهم بالسّماء، ويرحلونَ كلّهم بعاصيهم ومستقيمهم وفاجرهم، يخرجونَ إلى الفلاة يستمطرونَ اللهَ عزَّ وجلّ. هذا ما أعهدهُ في هذه البلدة، نعم حتّى العصاة، كلّهم في تلكَ الحالةِ يستغيثونَ الله، ويتضرّعونَ إليهِ ويتوسّلون، وما أكثرَ ما خرجَ أهلُ هذه البلدةِ إلى ظاهرةِ العمرانِ يستسقون، ويستمطرونَ رحمةَ اللهِ عزَّ وجلّ.

ولكنّي أنظرُ اليوم، وإذا بشيءٍ عجيبٍ وغريب، ما هذا؟ كأنَّ أهلَ هذه البلدة انقطعت الصّلاتُ كلّها بينهم وبين اللهِ عزَّ وجلّ، المصائبُ تلوَ المصائبِ أنواعاً وألواناً، قطرُ السّماءِ انقطعَ ما لم ينقطع في أيِّ عامٍ من قبل، ولا أحدَ يقول: تعالوا نستغفر، تعالوا نتوب، تعالوا نعد من غيّنا، لا أحدَ يقولُ هذا أبداً. أهكذا تفعلُ نعمُ اللهِ بنا؟ أإلى هذا الحدّ تسكرنا؟

أيّها النّاس إنَّ نعمةَ اللهِ عزَّ وجلّ إن ذهبت لن تعود، وإن ندمَ الإنسان لن يفيدهُ النّدمُ قَط. وأنا مرّةً أخرى أقولُ لكم: واللهِ إنَّ المصيبةَ لا تكمن في زلّةِ أقدامِ العصاة، فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ قال: (قل يا عباديَ الّذينَ أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمةِ اللهِ إنَّ اللهَ يغفرُ الذّنوبَ جميعاً إنّهُ هو الغفورُ الرّحيم).

ولكنَّ المصيبةَ العظمى، الدّاهيةَ الكبرى: أن يكونَ النّاس جالسينَ على مائدةِ الّرحمن، يأكلونَ من طعامه، ويستظلّونَ بملكوته، ويأكلونَ من رزقه، ويتكبّرونَ عليه، ويستهزؤونَ بقرارهِ وحكمه، وهذا واقعنا نحن. نحنُ نأكلُ من مائدةِ الله، نحنُ نتحلّق ضيوفاً على بساطِ الرّحمنِ سبحانهُ وتعالى، كلُّ ما نملكهُ منه، وكلُّ ما نتمتّعُ به عطاءٌ من فضله، ومع ذلك فنحنُ نعيشُ على هذه المائدة مستدبرينَ أمرَ اللهِ سبحانهُ وتعالى، نضعُ اللقمةَ تلوَ اللقمةِ في أفواهنا كوحوشٍ لا تعلمُ سوى أن تنحطَّ على معلفها أو على فريستها، وإذا جاءَ من يذكّرنا بالله أعرضنا أو استهزءنا أو سخرنا. ويحكَ ماذا تصنع لو أنَّ ربّكَ طردكَ من مائدته، ماذا تصنع لو أنَّ ربّكَ أخرجَ اللقمةَ من فيك ولطمكَ على وجهكَ وقفاك فأصبحتَ أذلَّ من حيوانٍ تافهٍ على وجهِ الأرض؟ هذه هي المصيبةُ الكبرى..

أسألُ اللهَ سبحانهُ وتعالى إن ابتلانا بهذه المعاصي أن يوقظنا من سباتنا حتّى نطبّقَ قولَ اللهِ عزَّ وجلّ: ((فقلتُ استغفروا ربَّكم إنّهُ كانَ غفّاراً * يرسلِ السّماءَ عليكم مدراراً))، فنحنُ حتّى هذا الأمر لا نريدُ أن نلتفتَ إليه. اللهمَّ ألهمنا الاستغفار، وألهمنا الرّجوعَ إلى دينك، فاستغفروهُ يغفر لكم...

تحميل



تشغيل

صوتي