مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 29/05/1987

الهوى المقنع بالدين .. بلاء خطير

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاُ عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أمَّا بعدُ.. فيا عبادَ الله:

إنّ الله عزّ وجلّ إنما أكرمَ عبادهُ بهذا الدِّين؛ ليكونَ نبراساً بينَ أيديهِمْ يوصلهم إلى الحق ويبعدهم عن الباطل، وإنما الميزان الوحيد الذي يكشف للإنسان الحقَّ عن الباطل ويميِّز هذا عن ذاك، إنما هو العلم. ولذلك؛ فقد كان العَمودُ الفقريُّ للدّينِ الذي أكرمنا الله عزَّ وجلَّ بهِ هو العلم.

ورفعَ المنهاج الإلهي من مستوى العلم كثيراً، وأهابَ بالناسِ أن يعكفوا على العِلمِ ودراسته.

إلا أن للعلم آفة كما أن لكل شيءٍ آفة. فما هي آفة العلم؟ أي ما هي الجرثومة المسلطة على العلم؟ الشأن فيه كالشأن في كل الأمور، لكل أمرٍ من الأمور المعنوية والمادية جرثومةٌ سُلِّطَتْ عليه. فما هي الجرثومة التي سلطت على العلم؟

إنها الهوى .. فالهوى آفةُ العلم، ومن ثمَّ فهو آفةُ الدّينِ أيضاً. والدّين الذي أكرم الله به الإنسان ليكون نبراساً له يوصله إلى الحق ويبعده عن الباطل، لا يمكن للإنسان أن يجد شيئاً يتربّص به في طريقه ليلبّس عليه الأمر سوى شيءٍ واحد ألا وهو الهوى.

ومن ثَمَّ فقد حذَّرنا كتاب الله عزَّ وجلّ من اتباع الهوى، وحذَّرنا من أن نخلط العلم بالهوى، وحذّرنا إذا حكمنا بما أنزل الله أن نمزج حكم الله أو الحكم بالحق بالهوى. وما أكثر ما يقرن البيان الإلهي بين الحكم بالحق دعوةً إليه وبين اتباع الهوى تحذيراً منه. انظروا إلى ما قاله جلَّ جلاله لداوود: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ).

وانظروا إلى الكلامِ ذاتهِ الذي قالهُ الله عزَّ وجلَّ لنبيّنا محمّدٍ عليهِ الصلاةُ والسلام: (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ)..

وانظروا إلى بقيّة ما في كتاب الله عزَّ وجلّ من آيات ونصوص تحذر من اتّباع الهوى، وكم يتفنَّن البيان الإلهي في عرض هذا الأمر الخطير. انظروا مثلاً إلى قول الله عزَّ وجلّ:

(وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ)، هذا كلامٌ عجيب، وكلامٌ خطير، (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ)، أيُّ بلاءٍ أخطرُ إذاً على وجهِ الأرضِ أو في الدنيا التي يعيشها الإنسان من اتّباع الهوى؟

وما هو الهوى؟ إنه عبارة عن داعٍ يدعوك إلى سبيلٍ ما.. وهذا الداعي يأتيك مقنعاً بالعلم، مقنعاً بشارة الحق، مقنعاً بالدليل والبرهان، بل مقنعاً بالدين في كثيرٍ من الأحيان، فيلتبس عليك الأمر ويختلط عليك الحق بالباطل؛ ذلك لأن عادة الهوى أنه لا يأتي مكشوفاً صريحاً، ولو كان الأمر كذلك لما كانت له هذه الخطورة.

إن الملحد الذي يدعوك إلى إلحاده لا خطورة فيه لأنه يستعلن بهويته، وإن المنحرف الذي يدعوك إلى الانحراف باسم الانحراف لا خطورة في دعوته، لأن انحرافه يحذر من دعوته ... ولكن الهوى لا يأتي بهذا الشكل الصريح الواضح، إنه يأتيك مقنعاً بأقنعةٍ عدّة بل مسلحاً بأسلحةٍ كثيرة، يأتيك مقنعاً بالعلم، يأتيك مقنعاً بالدين، يأتيك مقنعاً بدلائل الحق وشاراته .. فما أكثر ما يلتبسُ الإنسان عليه مثلُ هذه الدَعوة الخطيرة.

ومن ثَمَّ فقد حذَّرَ بيانُ اللهِ سبحانهُ وتعالى تحذيراً متكرراً من اتّباعه. انظروا إلى قول الله عزَّ وجل: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى).

ماذا أقولُ في هذا الصدد؟ اقرؤوا كتاب الله تعالى لتجدوا التحذير من الهوى، فإذا ما تنبهنا إلى ما ينبهنا إليه الله عزَّ وجلّ، استيقظت بين جوانحنا أحاديثٌ تخوِّفُ وتحذِّرُ الإنسان من هذا العدو الذي يتربّص بالعلم والذي يتربص بالدين ويتربص بالحق.

ومن ثَمَّ فإن الإنسان يعود إلى نفسه لينقدها نقداً ذاتياً وليتبيّن ما إذا كان للهوى تسللٌ إلى كيانه أم لا، وإذا ما وصل الإنسان إلى درجة الرقابة على ذاته، وقاه الله عز وجل من الأهواء والانحرافات كلها، رقابة الإنسان على نفسه، هذا هو الدواء أيها الإخوة.

كن رقيباً على نفسك بعد إخلاصك لربّك وبعد إخلاصك للدين الذي شرَّفك الله عزَّ وجلَّ به. هذه الرقابة تدعوكَ إلى العلم، وعكوفك على العلم يبعدك عن الهوى، لأن من عكف على العلم مخلصاً لله عزَّ وجلّ لا بدَّ أن يجعلَ هواهُ تحتَ قدميه، وإذا سارَ الإنسانُ مقيِّداً نفسهُ بضوابطِ العلم، مستأنساً بنورهِ وضيائه، مخلصاً لوجهِ ربِّه سبحانهُ وتعالى، فإن الهوى يبتعدُ عنه ولا يمكن أن يضيّقَ عليه سبيله أو يقطعَ عليهِ طريقه. معاذَ الله.

ولكنَّ الإنسان الذي يخلطُ الهدفَ الذي يسعى إليه من مرضاةِ ربّه، يخلطُ هذا الهدف بمصالحه، برغائبه، بشهواته، بدنياه. لا بدَّ أن يفتحَ السبيلَ واسعاً أمام أهوائه، وإذا تسللَ الهوى إلى كيانِ الإنسان، فإن العلم يصبحُ جنداً للهوى، وإن الحقَّ ذاتهُ يصبحُ جنداً للهوى.

الحقُّ يصبحُ شكلاً. أمَّا موضوعُ الحقِّ ومضمونهُ فيصبحُ بعيداً جدّاً عن الإنسان. ورضيَ اللهُ عن الصحابيّ الجليل عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه، يوم قالَ للناس: "أنتم في زمانٍ كثيرٍ فقهاؤهُ، قليلٍ خطباؤهُ، كثيرٍ معطوه، قليلٍ سُؤّالُه، العلمُ فيه قائدٌ للهوى. وسيأتي على الناسِ زمانٌ كثيرٌ خطباؤهُ قليلٌ فقهاؤهُ، كثيرٌ سؤّالُهُ قليلٌ معطوه، الهوى فيهِ قائدٌ للعلم".

ما أصدقَ هذا الكلامَ الذي قالهُ عبدُ اللهِ بنُ مسعود، ولا ريبَ أنهُ استقاهُ من مشكاةِ النبوة، ألا ترونَ إلى عصرنا الذي نعيشُ فيه، ألا تتأمّلون مدى انطباقِ هذا الكلامِ على ما نحنُ فيه..

خطباؤنا كثير.. ها نحنُ نتكلم وما أيسرَ علينا أن نتفنَّنَ في الكلام، لكن كم هي نسبةُ هؤلاء الخطباء الكثيرون الذين يتفصَّحونَ ويتشدَّقون في الكلام إلى الخطباء الذين يلتزمون بأمرِ الله عن علمٍ ودرايةٍ وفقه.

ألا ترون الأيدي التي تمتدُّ بالسُّؤالِ كم كثرت؟ والأيدي التي تمتد بالعطاء الحقيقيّ لوجه الله كم قلَّتْ؟ ألا تنظرون إلى العلم وقد تحوَّلَ عن قيادتهِ بالأمس؟ فأصبحَ اليومَ خادماً وجنداً لمن؟ للهوى ..

كثيرون الذين هم يتحدَّثون بألفاظ العلم. يكررون هذه الألفاظ في أقوالهم من أجل أن يُقَنِّعُوا بهذه الألفاظ أهواءهم. وكلُّ من تأمّلَ ورأى.. لاحظَ مصداقَ كلامِ عبد الله بنِ مسعودٍ رضي الله عنه، وإنما أخذَ عبدُ الله بن مسعود هذا الكلام _ كما قلتُ لكم _ من مشكاة النبوّة.

ما واجبنا عبادَ الله أمامَ هذه الحقيقة؟ هل نحنُ صادقونَ في إيماننا بالله؟ هذا السؤال الأول. هل نحنُ مخلصونَ في سعينا إلى مرضاة الله عزَّ وجلّ؟ هذا هو السؤال الثاني.

إن كان الجوابُ نعم. فلندرك أن لا جسرَ بيننا وبين الوصول إلى مرضاة الله بعد الإخلاص لدينه إلا جسرٌ واحد هو العلم. الذي قلتُ لكم إنهُ العمودُ الفقريُّ للدين. هذا العلم الذي نوه الله بشرفه، وأمرَ بالإقبالِ إليه. فتحصَّنوا يا عبادَ الله بحصنِ العلم.

العلم بكتاب الله .. بسنَّةِ رسول الله .. بعمومِ الشريعةِ الإسلاميّةِ اعتقاداً وآداباً وسلوكاً، بعدَ الإخلاص لدين الله عزَّ وجلّ. فإنكم إن فعلتم ذلك تحصَّنتم ضدَّ وباءِ الهوى، تحصَّنتم ضدَّ جراثيمِ الأهواء التي حذَّرَ اللهُ سبحانهُ وتعالى منها، وإنكم إن فعلتم ذلك وهبكم الله إحساساً سامياً دينيّاً دقيقاً تُميِّزون به بين الحق الذي تُدعَونَ إليه والباطلِ الذي تُدعونَ إليه.

مثلُ هذا الإنسان إذا سمعَ من يدعو الناسَ إلى هواه مقنعاً بقناعِ العلم مزيفاً بزيفِ الدين، لا يمكن أن يتأثر به أبداً. لأن إخلاصه لله، بالإضافةِ إلى العلمِ الذي تعلمه كما أمر الله به؛ يجعلُ عندهُ حصانةً، يجعلُ عندهُ وقايةً. والواقي هو الله والموفِّقُ هو الله.

أمّا إذا كانت أهواؤنا هي المفضّلة عندنا، عصبيّاتنا للذاتِ والجماعة هي المرجّحة في كياننا ولها الأولوية في تحقيق غاياتنا، إذا كان الأمرُ كذلك، فما أصعبَ العلاج وما أبعدَ الدواء. ولنعلم أننا بهذا سنجعلُ من الدينِ ومن العلم ومن مظاهر الحق جنوداً مجنَّدةً للأهواء. وقد حذّرنا الله من ذلك عندما أنذرنا أن هذا السبيل سيضلنا عن سبيل الله وقال: (إنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ).

وكأنه يقول: إن من وجد نفسه سجيناً لهواه، مقيَّداً بشهواته. دواؤهُ أن يتذكرَ يومَ الحسابْ. فإذا تذكَّرَ يومَ الحساب، تساقطت أهواؤه من قلبه وابتعدت جراثيم الهوى من فؤاده، فصفى طريقه إلى ربّه. أمّا الذي نسي يوم الحساب، فما أجدرَ أنْ يذكرَ مصالحهُ وعصبيّتهُ وأهواءَهْ.

أسألُ الله سبحانهُ وتعالى أن يحررنا من أهوائنا، وأن يجعلنا ممن تمسكوا بالدين عن طريق التمسّك بعلوم الدين. وأسألُ الله عزّ وجلّ أن يحصّننا بثقافةٍ إسلاميّةٍ راشدةٍ هاديةٍ مهديّة. وأن يجعلنا ممن أخلص لوجه الله عزَّ وجلّ.. فاستغفروهُ يغفر لكم.

تحميل



تشغيل

صوتي