مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 25/10/1985

ضرورة ملازمة التوبة والاستغفار

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

ما من ريبٍ في أنَّ أعظمَ القرباتِ إلى اللهِ عزَّ وجلّ وأنَّ من أعظمِ الطّاعاتِ والعباداتِ والأذكار أن يلازمَ الإنسانُ التّوبةَ والاستغفارَ للهِ عزَّ وجلّ على الدّوام، فذلكَ طاعةٌ من أبرِّ الطّاعات، وعبادةٌ من أرقى العبادات، وذكرٌ من أدقِّ أنواعِ الذّكرِ للهِ سبحانهُ وتعالى، ولا فرق في ضرورةِ القيامِ بهذه الطّاعةِ العظمى بينَ فئاتِ النّاس على اختلافهم، لا فرقَ بينَ طائعٍ وعاصي، بينَ مستقيمٍ ومنحرف، فالكلُّ مطلوبٌ منهم أن يعكفوا دائماً على التّوبةِ لله سبحانهُ وتعالى وعلى الاستغفارِ من الذّنوبِ والآثام، ولعلَّ من أوضحِ ما يدلّ على هذا المعنى العظيم قولُ اللهِ عزَّ وجلّ: (وتوبوا إلى اللهِ جميعاً أيها المؤمنون لعلّكم تفلحون). تلاحظونَ أنّها دعوةٌ من الله لعبادهِ جميعاً، دخلَ في هذه الدّعوةِ الطّائعُ والعاصي، والبرُّ والفاجر، بل الرّسلُ والأنبياء، وسائرُ العبادِ الصّالحينَ والرّبّانيّين، كلّهم شملهم هذا الخطاب العظيم: (وتوبوا إلى اللهِ جميعاً أيها المؤمنون لعلّكم تفلحون).

ولقد صحَّ عن المصطفى عليهِ الصّلاةُ والسّلام قوله: "إنهُ ليغانُ على صدري فأستغفرُ اللهَ في اليومِ سبعينَ مرّة". وقد صحَّ عنهُ عليهِ الصّلاةُ والسّلام أنّهُ كانَ يكرّرُ في المجلسِ الواحدِ قوله: "اللهمَّ اغفر لي ذنبي وتب عليّ إنّك أنتَ التّوّابُ الرّحيم"، وكانَ الصّحابةُ رضوانُ اللهِ عليهم يحصون هذه الكلمة في الجلسةِ الواحدة يقولها رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلّم مراراً، والمعنى الذي ينبغي أن نتنبّهَ إليهِ في هذه الدّعوة، هي أنَّ الإنسان مهما كان، ينبغي أن يعلمَ أنّهُ مقصِّرٌ في جنبِ الله عزَّ وجلّ، بل إنَّ الإنسانَ كلّما ازدادَ استقامةً في سلوكه وقرباً إلى اللهِ في طاعاته تنبّهَ إلى المزيدِ من تقصيرهِ في جنبِ اللهِ عزَّ وجلّ، هذا فضلاً عن أنَّ سائرَ النّاس ما عدا الرّسل والأنبياء عاصون، متلبّسونَ بالآثام، سواءٌ منها الآثامُ الخفيّة أو الآثامُ الواضحة التي يستطيعُ الإنسانُ أن يعلمها ويحصيها في سلوكه. "كلُّ بني آدمَ خطّاء"، هكذا يقولُ رسولُ الله صلى اللهُ عليهِ وسلّم "وخيرُ الخطّائين التّوابون". ويقولُ عليهِ الصّلاةُ والسّلام: "المؤمنُ واهٍ راقع، فطوبى لمن ماتَ على رقعه". أي إذا كانَ الإسلامُ عبارةً عن ثوبٍ سابغ شرّفَ اللهُ عزَّ وجلّ به العبد، فإنَّ من شأن هذا الإنسانِ المسلم أنّهُ كلّما مزقَ ثوبَ إسلامهِ بمعصية جلسَ ليعودَ فيرقعهُ بالتّوبة.

وذلك هو شأنُ المسلم، كلّما وجدَ أنَّ الشّيطانَ قد انتهز منهُ فرصةً وزجّهُ في معصية التفت إلى نفسهِ فجلس يتوبُ إلى اللهِ عزَّ وجلّ ويستغفره ليعودَ هذا الثّوبُ الممزّق فترقّعهُ التّوبةُ وتعيدهُ كما كان.

ينبغي لكلٍّ منّا أن يعلمَ هذا، وإذا علمَ المسلمُ هذه الحقيقة نبّهتهُ إلى معنيينِ عظيمين:

أوّلهما ينطوي على وعيدٍ وإنذار، ثانيهما ينطوي على بشارةٍ ورحمةٍ من اللهِ عزَّ وجلّ، أما المعنى الذي يتراءى في هذا الكلام الذي نقول، والذي يتضمّنُ إنذاراً من اللهِ عزَّ وجلّ، فهو أنَّ على المسلمِ أن يعلم أنَّ اللهَ يحصي عليهِ سكناتهِ وحركاته، وأنَّ اللهَ يسجّلُ عليهِ معاصيهُ كلّها كما يسجّلُ لهُ طاعاتهِ أجمع .. فإن لم يستر معصيتهُ بتوبةٍ صادقةٍ وإنابةٍ إلى اللهِ عزَّ وجلّ، فإنّهُ سيرى مغبّةَ معصيتهِ عمّا قريب.

والإنسان لا يعلم كم يعصي اللهَ في يومه وليله، ولو أنّهُ أرادَ أن يحاسبَ نفسه ما أكثرَ المعاصيَ الخفيّة التي يمرُّ منها الإنسانُ غيرَ عابئٍ بها، وغيرَ ملتفتٍ إلى خطورتها، يظنّها أمراً هيّناً وهي عندَ اللهِ عظيم.

فجديرٌ بالإنسانِ - وهذه حالُه ألا يتنبّه إلى كثيرٍ من المعاصي التي ينزلقُ إليها، فلئن لم يتب إلى اللهِ دائماً احتياطاً وغسلاً للمعاصي التي لم يتنبّه إليها، وقع في طائلةِ هذا الإنذارِ الإلهيّ.

وأمّا البشارة التي تكمن في تضاعيفِ هذه الحقيقة فهي أنَّ على الإنسانِ أن يعلم أنَّ المعصيةَ ليست هي التي تقصي العبدَ عن ربّه، إنما الذي يقصي العبدَ عن ربّه هو العكوفُ على المعصية ونسيانُ التّوبة، والإعراض عن استغفار الله سبحانهُ وتعالى، المعاصي أمرها هيّن طالما كانَ الإنسانُ يحملُ بيده مغتسلَ التّوبة الباردَ العذب. كلّما انزلقَ في قاذوراتِ المعاصي كلّما أقبلَ إلى مغتسلِ التّوبةِ فطهّرَ نفسهُ بمائها، وهكذا فإنَّ الشّيطانَ لن ينالَ منهُ أيَّ حظوة، ولن يصلَ منهُ إلى أيِّ غاية.

ولكنَّ المصيبةَ كلَّ المصيبة إنما تكمن في إحدى مكيدتين يكيدُ بهما الشّيطانُ للإنسان، المكيدةُ الأولى أن يزجّهُ الشّيطانُ في المعصيةِ ثمَّ ينسيهِ الوقوفَ بينَ يدي الله ليتوبَ ويستغفر. كثيرونَ هم الذين يعذرون أنفسهم لأنهم ضعاف، ولأنَّ الشّيطانَ يزجّهم في المعصيةِ تلوَ المعصية، ولكنَّهم لا يتنبّهون إلى أنَّ الدّواء موضوعٌ أمامهم، وأنَّ عقار التّوبة موضوعٌ بين يديهم، وأنَّ بإمكانهم أن يستعملوا هذا الدّواء جرعةً فجرعة عندَ كلِّ زلّةٍ من الزّلّاتِ التي يدفعهم الشّيطانُ إليها.

المصيبةُ الثّانية وهذه المصيبةُ العظمى أيضاً، تكمنُ في تصوّرٍ خاطئ، وجهالةٍ جهلاء، عندَ أولئكَ الذينَ يتصوّرون أنَّ الطّاعاتِ لا تتجزّأ وأنَّ المعاصيَ أيضاً لا تتجزّأ، فإذا انزلقَ أحدهم في معصيةٍ من المعاصي بعدَ أن تابَ إلى اللهِ وأناب، وسوسَ إليهِ شيطانه: (إنّكَ لقد أسأتَ العلاقةَ مع ربّك، لقد وقعتَ في المعصية، وأُسدِلَ الحجابُ بينك وبينَ ربّك، فلن يقبلَ اللهُ منكَ طاعةً بعدَ اليوم، ففيمَ صلاتُك؟ وفيمَ طاعاتُكَ وعباداتُك؟). هكذا يوسوسُ الشّيطانُ لكثيرٍ من الجاهلين من عبادِ اللهِ عزَّ وجلّ. وليتَ الأمرَ وقف عندَ وسواسِ شياطينِ الجن، لا بل إنَّ لهؤلاءِ الشّياطينِ جنوداً وخدماً من شياطينِ الإنسِ وجهّالهم، ممن يطيلونَ ألسنتهم بالفُتيَا وهم أجهلُ الجاهلين، يقولُ أحدهم لصاحبه وقد علمَ أنّهُ سهرَ البارحةَ سهرةً لا ترضي الله، يقولُ له: (ما فائدةُ صلاتك؟ وقد علمتُ أنّكَ عصيتَ الله بالأمس، إنَّ اللهَ لا يقبلُ منكَ صلاةً بعدَ اليوم، وإنَّ اللهَ لا يقبلُ منكَ طاعةً بعدَ اليوم، لا تدخلِ المسجد فإنَّ اللهَ غنيٌّ عن عبادتك). متى تعلّمتَ حتّى تفتي؟ من قالَ لكَ هذا حتّى تتبرّعَ بالفتيا من عندك؟

وقديماً عرفنا أنَّ العلماء، العلماء، العاملين بعلمهم كانت ألسنتهم تتلجلجُ بالفتوى إذا سُئلوا، أما اليوم فإنا لنرى أنَّ الجهّالَ بحمدِ الله الذي لا يُحمدُ على مكروهٍ سواه، الذينَ لا يتقنونَ أداءَ صلواتهم، تطولُ ألسنتهم أمتاراً بالنّطقِ بفتاوى كاذبة، يجنّدهمُ الشّيطانُ له.

كم مرّةً قيلَ لي: إنَّ فلاناً من النّاسِ قال: إنَّ صلاتكَ لم تعد تُقبَل، وإنَّ إقبالكَ إلى اللهِ أصبحَ مرفوضاً، لماذا؟ لأنّكَ تمارسُ المعصيةَ الفلانيّة، لأنّكَ تفعلُ كذا وكذا. هذا مخالفٌ لدينِ اللهِ عزَّ وجلّ، وهذه رقيةُ شيطان ما ينبغي للإنسانِ أن يمكّنَ عقلهُ منها يا عبادَ الله.

الطّاعات كثيرة وكلٌّ منها مستقلٌّ عن الآخر، لكلّ طاعةٍ مثوبتها. والمعاصي كثيرةٌ أيضاً وكلٌّ منها مستقلٌّ عن الآخر، ولكلِّ معصيةٍ أو على كلٍّ منها عقابها، وكلُّ شيءٍ بحساب. ورسولُ اللهِ يقول: "أتبعِ السّيّئةَ الحسنةَ تمحها وخالقِ النّاسَ بخُلُقٍ حسن". أليسَ خيراً لكَ يا هذا وقدِ ابتلاكَ اللهُ بالمعصية، أليسَ خيراً لكَ أن تبقيَ على صلةٍ بينكَ وبينَ ربّك؟ أن تبقيَ على خيطٍ يصلكَ باللهِ عزَّ وجلّ، تجدهُ في حالات الشّدائد ينجدك ويغيثك؟ أليسَ خيراً من أن تقطعَ الجسرَ كلّه، بينكَ وبينَ اللهِ عزَّ وجلّ؟ ربَّ رجلٍ مرتكبٍ للمعاصي كلّها: يقامر، يرابي، يشربُ الخمر، يقعُ في الفواحش، ولكنَّ اللهَ عزَّ وجلّ يجذبهُ إليه، ويغفرُ لهُ بسرٍّ من الأسرار، قد لا نعلمُ هذا السّر، بطاعةٍ من الطّاعاتِ خفيّة، فإيّاك وأن تصغيَ إلى رقى الشّيطان، سواءٌ جاءتكَ وساوس من شياطينِ الجنّ، أو تعرّضَ لكَ أحدٌ من خُدّامهم وجنودهم من الأناسيّ الجهّال الذينَ يفتونَ بما لا يعرفون.

وأخيراً، بل أوّلاً وآخراً: ينبغي على الإنسانِ دائماً أن بالتّوبة، وبالاستغفارِ للهِ عزَّ وجلّ، سواءٌ من الذّنبِ الذي علمت أو منَ الذّنبِ الذي لم تعلم، قلها دائماً، هذه الكلمةُ تكونُ نبراساً لك طوال حياتكَ كلّها ولا تطمع أن يجعلكَ اللهُ معصوماً فقد قالَ المصطفى كا قلتُ لكم: "كلُّ بني آدمَ خطّاء وخيرُ الخطّائينَ التّوّابون" وقد قالَ اللهُ عزَّ وجلّ: (وخُلقَ الإنسانُ ضعيفاً).

وإياكَ أن تتركَ معصيتكَ التي قد تقعُ فيها تحجبكَ عن اللهِ حجباً كلّيّاً، إيّاك، مهما عظمتِ المعصية في ساعةٍ سبقت، فاجهد جهدك أن تكونَ طائعاً للهِ في السّاعاتِ التي تليها، وإيّاك أن تقولَ أنا أخجل من الله؛ أن أقفَ بينَ يديه وأنا قبلَ ساعةٍ كنتُ أعصيه، لا لا تخجل، هذا خجلٌ اصطناعي يصطنعهُ الشّيطانُ لك، لأنَّ خجلاً يبعدكَ عن الله ليسَ خجلاً، إنما هو بالوقاحةِ أشبه.

لا تخجل من الله، بل أشعر نفسك كلّما كثُرَت معاصيك أن يزدادَ إقبالُكَ إلى الله في السّاعاتِ الأخرى، وأنتَ لا تعلم، واللهُ يقول: (وخُلقَ الإنسانُ ضعيفاً). لعلَّ اللهَ يرحمُ ضعفنا جميعاً، ولعلَّ اللهَ يميتنا على الرَّقع ولا يميتنا على تمزيقِ ثوبِ الإسلامِ بالمعاصي، أسألُ اللهَ عزَّ وجلَّ لي ولكم حسنَ الإنابةِ إلى الله ..

تحميل



تشغيل

صوتي