مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 04/10/1985

عندما تتداعى عليكم الأمم وأنتم غثاء

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

كلّما اشتدّتِ الخطوبُ على المسلمين وكلّما تكاثرتِ المصائبُ من حولهم مقبلةً إليهم من كلِّ حدبٍ وصوب، تذكّرتُ حديثَ رسولِ الله صلّى اللهُ عليهِ وسلّم الذي رواهُ أبو داوودَ وأحمدُ بنُ حنبل عن ثوبان رضي اللهُ عنه. قال رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلّم: "يوشكُ أن تداعى عليكم الأممُ كما تداعى الأكلةُ إلى قصعتها"، قالوا: أمن قلّةٍ نحنُ يا رسولَ اللهِ يومئذ؟ قال: "بل أنتم كثير ولكنّكم غثاءٌ كغثاءِ السّيل، وسينزعنَّ اللهُ الرّهبة في قلوبِ أعدائكم منكم وسيقذفنَّ في قلوبكم الوهن"، قالوا: ما الوهنُ يا رسولَ الله؟ قال: "حبُّ الحياةِ وكراهيةُ الموت".

نعم كلّما رأيتُ الخطوبَ تتكاثر مقبلةً على المسلمين من كلِّ حدبٍ وصوب، ذكّرتني هذه المآسي بكلامِ المصطفى عليهِ الصّلاةُ والسّلام وهو ينظرُ من خلالِ مشكاةِ النّبوّة إلى ما يقعُ في هذه العصور وما بعدها، وطالما وقفت من هذا الحديثِ عندَ هذه الكلمة: "بل أنتم كثير ولكنّكم غثاءٌ كغثاءِ السّيل". وطالما رأيتُ العقلَ يقفُ خاشعاً أمامَ قولِ المصطفى عليهِ الصّلاةُ والسّلام: "ولكنّكم غثاءٌ كغثاءِ السّيل".

ترى لماذا تتحوّلُ الكثرةُ غثاءً؟ لماذا تصبحُ الملايين، مئاتُ الملايين غثاءً لا قيمةَ له؟ لماذا يتحوّلُ البناءُ الشّامخُ العالي إلى هباءٍ لا قيمةَ له؟ لماذا تتحوّلُ الشّوارعُ العريضة والأبنيةُ الفخمة والمالُ الكثير والغنى الوفير، لماذا يتحوّلُ ذلكَ كلّهُ إلى ما يسمّيهِ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم غثاءً؟ نعم، ينبغي لكلِّ مسلمٍ أن يقفَ عندَ هذه الكلمةِ النّبويّة فيجعلَ منها غذاءً لعقله وغذاءً لفكره، ويأخذَ منها العبرة تلوَ العبرة لكي يعلم لماذا لا يمكنُ أن يعيشَ الإنسانُ بدونِ عقيدة؟ ولماذا لا يصلحُ المجتمعَ مالٌ ولا غنىً إن لم يتوّج هذا المجتمعُ بعقيدةٍ صحيحة؟ أنتَ تمرُّ بمدرسةٍ شامخةٍ عظيمةِ البنيان، مشيّدةِ الأركان، وتنظرُ إلى داخلِ هذه المدرسة فتجدها قد مُلئت بأحدثِ الأجهزة وأحدثِ الوسائلِ التّعليميّة، فتظنُّ لأوّلِ نظرةٍ ولدى النّظرةِ السّطحيّةِ العجلى أنَّ هذا المعهدَ لابدَّ أن يخرّجَ أفذاذاً من العلماء، لأنّهُ بناءٌ شامخ ولأنَّ أجهزتهُ أحدثُ ما تكونُ الأجهزة، ولكنّكَ إذا تأمّلت وفكّرت رأيتَ أنَّ العبرةَ ليست بهذا كلّه، العبرةُ بالأدمغةِ التي في داخلِ هذا المعهد. العبرةُ بالأدمغةِ التي تقودُ الصّغارَ وتعلّمهم، ما هو التّصوّر الجازمُ في أدمغةِ هؤلاءِ المعلّمين والتّلامذة عن الكونِ والإنسانِ والحياة؟ ما هي عقيدتهم التي تدفعهم إلى العمل وتدفعهم إلى النّشاط، وتستعلي بهم فوقَ الكسل؟

وتمرُّ بمستشفىً عظيمٍ جدّاً بُنيَ على أحدثِ الطّرازِ للتّو، وتنظرُ إلى داخلهِ فتجدهُ مليئاً هو الآخر بأحدثِ الأجهزةِ الطّبّيّة التي لا يمكنُ أن ترى أحدثَ منها في أيِّ صقعٍ من أصقاعِ العالم، فتخالُ لدى النّظرةِ العجلى أنَّ المرضى لابدَّ أن يجدوا الشّفاء العاجلَ في هذا المشفى لأنَّ بناءَهُ حديث ولأنَّ أجهزتهُ أحدث، ولكنّكَ عندما تتأمّل وتدقّقُ النّظر، تعلم أنَّ الأجهزةَ وإن كانَ الإنسانُ بحاجةٍ إليها، ولكنَّ العبرةَ بالقائمينَ على هذه الأجهزة، العبرةُ بالأطبّاء الذينَ يديرونها والعقيدةِ الجاثمةِ بينَ جوانحهم، ترى هل هؤلاء الأطباء المناوبون في هذا المستشفى في منتصفِ ليلةٍ مظلمة تُراهم منصرفون بدافعٍ من عقيدتهم الجاثمةِ بينَ جوانحهم إلى خدمةِ المرضى والقلقِ على أحوالهم والنّظرِ في شؤونهم، أم إنَّ قلوبهم فارغة من هذه العقيدة وأعينهم زائغةٌ مكانَ ذلكَ بالشّهواتِ والأهواء، كلٌّ ينتظرُ فرصةً أن يخلوَ مع زميلةٍ له، ماذا يفيدُ المشفى القائم على أحدثِ الأجهزة وعلى أحدثِ طرازِ البناء إن لم تكن الرّؤوسُ التي تديرهُ مصقولةً بالعقيدة التي شرّفنا اللهُ عزَّ وجلّ بها؟

وتنظر إلى الدّبّابةِ العظيمة، هذا الحديد الثّقيل المتراكب الذي يتهادى على الأرض فيحطّمُ الصّخر ويقذفُ بالشّواظ، فيعجبكَ مرأى هذا الشّيء وتظنُّ أنَّ مثلَ هذا الجهازِ ومثلَ هذه القوّةِ المادّيّةِ إذا وجدت فقد ضُمنَ النَّصر، ولكنّكَ لدى التّأمّل تتفكّر وتعلم أنَّ العبرةَ ليست كامنةً في هذا الحديد مهما اشتدَّ ثقلُه ومهما قذفَ بالشّواظ، إنما العبرةُ بمن في داخلِ هذا الحديد، إنما العبرةُ بالرّأس الذي يديرُ هذا الحديد بالعقيدةِ الجاثمةِ بين جوانحه، هذا معنى كلامِ حبيبنا المصطفى عليهِ الصّلاةُ والسّلام: "بل أنتم كثير ولكنّكم غثاءٌ كغثاءِ السّيل".

الكثرةُ المادّيّة تذهبُ بدداً إن لم تقم في داخلها خمائر العقيدة، إن لم تتحقّق في أعماقها أوّلياتُ التّصوّرِ الحقيقيّ لمعنى الكون ولمعنى الإنسان ولمعنى الحياة.

وياللأسفِ يا عبادَ الله. المسلمون هم إلى اليوم أوّلُ الفقراء بإدراكِ معنى كلامِ المصطفى عليهِ الصّلاةُ والسّلام، فلا يزالُ العدوُّ ينهشهم من عن يمينٍ وشمال، ولا تزالُ الخطوبُ تقرعُ أبوابهم صباحَ مساء تنبّههم إلى معنى كلامِ رسولِ الله صلى اللهُ عليهِ وسلّم ولكنّهم - وهم مسلمون - عن معنى كلامِ المصطفى غافلون، وياللأسف من الذي أدركَ كلامَ المصطفى هذا؟ المستعمرُ الأجنبيّ الذي حطَّ رحالهُ يوماً ما في هذه البلدةِ وغيرها من بلادِ الإسلام، هؤلاء هم الذين عرفوا معنى كلامِ المصطفى عليهِ الصّلاةُ والسّلام: "ولكنّكم غثاءٌ كغثاءِ السّيل".

لقد حطَّ هذا الأجنبيُّ المستعمر في بلادِ العربِ والمسلمين، ونظرَ فوجدَ في هذه البلادِ يهوداً ونصارى ومسلمين، فتركَ اليهودَ على يهوديّتهم، وتركَ النّصارى على نصرانيّتهم، وأقبلَ إلى المسلمين يسرقُ الإسلامَ من قلوبهم وعقولهم، لأنّهُ علمَ معنى كلامِ المصطفى عليهِ الصّلاةُ والسّلام، فهو يريد أن يحيلَ كثرةَ المسلمينَ إلى غثاء، لقد سرقَ الأجنبيُّ المستعمرُ ذات يوم إسلامَ المسلمينَ من أفئدةِ المسلمينَ وعقولهم، وهو يعلم أنّهُ بذلكَ سرقَ الوقودَ من خزّانِ السّيّارة، فماذا عسى أن تفعلَ السّيّارةُ الجاثمةُ بمظهرها الجميلِ بعدَ ذلك؟ منذا الذي يستطيع أن يحرّكها؟ وكيفَ يمكنُ أن تؤدّيَ غايتها؟ لئن كانَ العالمُ الإسلاميُّ مثلَ هذه السّيّارة، فإسلامُ العالمِ الإسلاميِّ إنما هو وقودُ هذه السّيّارة.

تبخّرَ الوقود، زالَ معنى الإسلام الذي كانَ جاثماً كالطّود في يومٍ من الأيّام بين جوانح المسلمين وفي عقولِ المسلمين فكانتِ القلّةُ تستحيلُ بذلكَ إلى كثرة، وكانَ الفقرُ يتحوّلُ بذلكَ إلى غنى، وكانَ الضّعف يستحيلُ بقدرةِ قادرٍ إلى قوّة، ذلكَ لأنَّ الإسلامَ منبعُ الغنى، ومنبعُ القوّة، ومنبعُ الكثرةِ الواحدةِ المتآلفة. تبخّرَ ذلكَ الإسلام وبقيَ من ورائهِ من أجلِ الخداعِ فقط ومن أجلِ ملء الثّغراتِ فقط، بقيَ المظهرُ الإسلاميّ، الإسلامُ الشّكليّ، افتقدنا حقيقةَ الإسلام الذي كانَ يقودُ الأمّة، والذي كان يرفعُ شأنها إلى الشّأوِ العالي، فاستحلنا - كما يقولُ حبيبنا المصطفى عليهِ الصلاةُ والسّلام إلى غثاءٍ كغثاءِ السّيل.

أما آنَ لنا يا عبادَ اللهِ أن نعلم؟ أما آن أن ندرك أنَّ الأجنبيَّ الكافر عندما سرقَ إسلامَ المسلمينَ بالأمس إنما كانَ يهيّءُ أرضَ المسلمين لهذا الامتلاكِ وهذا الاغتصابِ اليوم؟ أما آنَ لنا أن نعلم أنَّ الإسلام الذي سُرق بأيدي ذلكَ الأجنبيِّ الغاصبِ الحاقد على المسلمين أشخاصاً وأرضاً وذخراً، إنما كانَ يمهّدُ بذلك لتفتيتِ كيانِ هذه الأمّة؟ أما آنَ لنا أن نعلم أنَّ ذلكَ الأجنبيّ الذي سرقَ إسلامَ المسلمينَ وهم نيام لا يحسّونَ ولا يتنبّهون، إنما كانَ يتهيّؤُ لذلك من أجلِ أن ينزلَ المكيدةَ تلوَ المكيدة ببلادِ المسلمين وأراضيهم دونَ أن يستطيعوا حراكاً، ودونَ أن يستطيعوا دفاعاً، ودونَ أن يملكوا إلا الاحتجاجَ والكلام؟ ترى ما الذي فقدنا حتّى آلَ بنا الأمرُ إلى هذا الذّل؟ هل فقدنا شيئاً غيرَ الإسلام؟ ألا تعلمونَ أننا لا نزالُ أغنى الأمم؟ من الذي يجهلُ من الحمقى أنَّ أمّةَ المسلمين والعرب كما يقولون هي أغنى أمم الأرضِ قاطبة؟ وها هي ذي أرضُها بما في باطنها من ذخرٍ وما على ظاهرها من خير تعلنُ ذلك. أما تعلمون أنَّ أرضَ المسلمين أوسعُ أراضي اللهِ قاطبة؟ وأحراها بأن تؤلف أقواماً وتجمعهم من شتات، كلُّ من درسَ حقائقَ الجغرافيا والتّاريخِ يعلمُ ذلك.

ولكن مع هذا كلُّ هذا لم يعد يغني، لماذا؟ لأنَّ الأمر آلَ بعدَ ذلكَ كما قالَ المصطفى إلى غثاء، إلى غثاءٍ كغثاءِ السّيل، وجلَّ ربّنا القائل: (واعتصموا بحبلِ الله جميعاً ولا تفرّقوا)، واللهِ الذي لا إله إلا هو: لو أنَّ هنالكَ حبلاً غيرَ حبلِ اللهِ كانَ حريّاً بأن يجمعَ كلمةَ المسلمين، لأمرَ الإلهُ الرّحيمُ عباده أن يتمسّكوا بذلكَ الحبل، ولكنَّ الإلهَ الرّؤوفَ الرّحيم يعلم أن لا يوجدُ حبلٌ يجمعُ شتاتَ هذه الأمّة إلا حبلٌ واحد هو حبلُ الله ((واعتصموا بحبلِ اللهِ جميعاً ولا تفرّقوا واذكروا نعمةَ اللهِ عليكم إذ كنتم أعداءً فألّفَ بينَ قلوبكم فأصبحتم بنعمتهِ إخواناً وكنتم على شفا حفرةٍ من النّار فأنقذكم منها كذلكَ يبيّنُ اللهُ لكم آياتهِ لعلّكم تهتدون)) * ((يا أيها الذين آمنوا استجيبوا للهِ وللرسولِ إذا دعاكم لما يحييكم))، هذا هو الإيمانُ الذي يحيي ((وعدَ اللهُ الذينَ آمنوا منكم وعملوا الصّالحات ليستخلفنّهم في الأرضِ كما استخلفَ الذينَ من قبلهم وليمكّننَّ دينهم الذي ارتضى لهم وليبدّلنّهم من بعدِ خوفهم أمناً)).

أقولُ قولي هذا وأسألُ اللهَ عزَّ وجلّ أن يرزقنا العبرةَ من كلامه، وأن يرزقنا الاتّعاظَ بكلامِ رسوله فاستغفروهُ يغفر لكم..

تحميل



تشغيل

صوتي