مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 21/06/1985

كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

إنَّ من أبرزِ خصائصِ هذا الدّينِ الإسلاميِّ العظيم أنّهُ دينُ تضامنٍ وتكافل، فحيثُما وُجدَ الإسلامُ الصَّحيح في أيِّ بلدةٍ أو قرية، أو مجتمعٍ صغيرٍ أو كبير، لا بدَّ أن تجدَ هناكَ شبكة متواصلةً من المسؤوليّاتِ ومظاهرِ التّضامنِ والتّكافلِ ساريةً في تلكَ المنطقة.

ولا يتحقّقُ الإسلامُ الذي أمرَ اللهُ عزَّ وجلّ به في كيانِ الفردِ المؤمن، إلا إذا كانَ جزءاً لا يتجزّأ من هذه الشّبكةِ المتواصلة، التي إذا اهتزَّ طرفٌ منها اهتزّتِ الأطرافُ كلُّها.

الإسلامُ لا يقرُّ أن يلتفتَ الإنسانُ المسلمُ إلى نفسه ثمَّ يحصرَ رقابتهُ في ذاته، ويقول: إنما كلّفني اللهُ عزَّ وجلَّ بنفسي فقط، فإذا هُديت فليضلَّ النّاسُ جميعاً، وإنما يؤاخذُني الله عزَّ وجلَّ بجريرةِ حقوقي أنا ونظري إلى ذاتي وحدها.

هذا الإسلامُ الذي أنزلهُ اللهُ عزَّ وجلّ علينا بواسطةِ رسلهِ وأنبيائه يسيرُ في نقيضِ هذا الخطِّ تماماً، فالإسلامُ دينُ المسؤوليّة، كيفَ لا ورسولُ الإسلامِ سيدنا محمّدٌ عليهِ الصّلاةُ والسّلام يقولُ فيما صحَّ عنه: (كلّكم راعٍ وكلّكم مسؤولٌ عن رعيّته) ، ثمَّ مضى يتحدّثُ عن طبقاتِ النّاسِ وفئاتهم، ويوزّعُ على كلٍّ منهم مسؤوليّتهُ التي أناطها اللهُ عزَّ وجلّ بعنقه، فالإنسان يتحمّلُ مسؤوليَّاتٍ منظّمةً تنظيماً عجيباً من قِبَلِ اللهِ عزَّ وجلّ، هو أولاً مسؤولٌ عن نفسه وذاته، ثمَّ هو في الدّرجةِ الثّانية مسؤولٌ عن أسرته وكلِّ من جعلَ اللهُ عزَّ وجلَّ رعايتهُم إليه، وهو ثالثاً مسؤولٌ عن أصدقائهِ وأقارِبهِ وذوي رحمهِ الأباعد، وهو رابعاً بالقدرِ الذي تطولهُ طاقتُه، وبالقدرِ الذي ينالهُ جاهه، مسؤولٌ عن أهلِ حيّه أو أهلِ بلدته، ثمَّ هو إن كانَ حاكماً أو عالماً، مسؤولٌ عن المجتمعِ الذي يعيشُ فيه أيضاً، وهكذا تنتشرُ شبكةُ المسؤوليّة التي أقامها اللهُ عزَّ وجلّ بينَ عبادهِ عندما يعلنونَ أنهم مسلمونَ للهِ عزَّ وجل، لا يوجدُ في المجتمعِ الإسلاميّ شخصٌ يدّعي أنّهُ مسلمٌ بصدق، ثمَّ يخرجُ من سلطانِ هذه المسؤوليّة ليعكفَ على النّظر في ذاته ويجترُّ الرّقابةَ على كيانهِ فقط.

انظروا إلى المصطفى عليهِ الصّلاةُ والسّلام عندما جاءَتهُ النّبوّة، أوَّلُ ما كلّفهُ اللهُ عزَّ وجلَّ به: هو أن يؤمنَ بذاته، وأن يعلمَ أنّهُ نبيٌّ مرسل، وأنَّ هذا الذي يأتيهِ إنما هو رسولٌ من عندِ الله، أنه جبريل مَلَكٌ من ملائكةِ اللهِ عزَّ وجلّ.

حتّى إذا آمنَ سيّدُنا محمّدٌ بذاته نبيّاً مرسلاً، وأدّى هذه المسؤوليّةَ في حقِّ نفسه، كلّفهُ اللهُ عزَّ وجلّ أن ينقلَ هذه المهمّة إلى ذويه، إلى أسرتهِ وأقاربه، فذهبَ للتّو وجمعَ أقاربهُ ونظرَ إليهم واحداً واحداً، يقولُ لكلِّ فردٍ فردٍ منهم: (يا بني عبد المطلب اشتروا أنفسكم من الله، فإني لا أملكُ لكم من اللهِ شيئاً، يا بني هاشم اشتروا انفسكم من الله فإني لا أملكُ لكم من اللهِ شيئاً، يا فاطمةَ بنتَ محمّد اشتري نفسكِ من الله فإني لا أملكُ لكِ من اللهِ شيئاً إلا رحماً وسأبلها ببلالها) إلا صلةَ رحمٍ أعطيها حقّها ما استطعت.

وهكذا قامَ رسولُ اللهِ وهو رسول، بمسؤوليّتهِ تجاهَ أسرته، تجاهَ أهليهِ وأولادهِ وعشيرته. ثمَّ نهض إلى الواجبِ الثّالث، إلى المسؤوليّةِ الأوسع: فراحَ يدعو النّاسَ جميعاً إلى اللهِ عزَّ وجلّ، واسمعوا في هذا بيانَ الله، الذي نقرؤهُ صباحَ مساء:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) خطابٌ تنخلعُ لهُ القلوب عندَما يتأمّلُ الإنسانُ هذا الأمرَ الرّبّانيّ المنزّل علينا من عند خالقنا وبارئنا، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ) زوجاتكم، أولادَكم، بناتِكم، (قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً) ناراً وأيَّ نار.. يصفُها اللهُ عزَّ وجلَّ في هذه المناسبةِ فيقول: (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ)، تتّقدُ بالحجارة.. ترى أيُّ نارٍ هذه!؟ التي تتّقدُ بدلاً من الحطبِ بالحجارةِ الصّمّاء؟ (عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)، لماذا هذا التّخويف؟ هل هو إلا تحذيرٌ ممن ينسى مسؤوليّتهُ تجاهَ أهله، تجاهَ أولادهِ وذرّيّته، ثمَّ يزعمُ أنّهُ قد أدّى حقَّ اللهِ بحقِّ نفسه، يحجُّ كلَّ عام، ويصومُ رمضان، ويقراُ كلَّ يومٍ جزأينِ من القرآن، ويذكرُ اللهَ صباحَ مساء يعدُّها بسُبحَتِهِ عدّاً. وأسرتُك؟ أولادُك؟ بناتُك؟ أتظنُّ أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ سينجيكَ من مسؤوليّتهم بشفاعةِ هذه السُّبحةِ التي تطقطقُ بحبّاتها؟ ألم تقرؤوا قولَ اللهِ عزَّ وجلّ:

(إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ)، هل وقفتم يوماً ما عندَ هذه الكلمة؟: (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا)، نحصي ما فعلوه ونحصي ما فعلهُ آثارهم، (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ) ما معنى وآثارهم؟ إذا ماتَ ابنُ آدم، فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يكونُ قد أحصى عليهِ عملهُ الذي قد قامَ به إن خيراً فخير وإن شرّاً فشرّ، ولكنَّ الحسابَ لم ينقطع.. يُسجِّلُ اللهُ عليهِ أو لهُ ما ينبثق من آثاره من بعده، وأثرهُ أولادُه، بناتُه، ذرّيّتُه.

كم من إنسانٍ مدفونٍ تحتَ الثّرى قدِ انقطعَ حظُّهُ من العملِ الصَالح أو العملِ السّيّء، ولكنَّ صفحاتهِ يُسَجَّلُ عليها سوادٌ أو بياض، يأتيهِ الحسابُ الجاري من فوقِ الأرض، من الآثارِ التي تركها من بعده، من ذرّيّتهِ وأولادهِ وأطفاله، فلينظُر أحدُنا عندما يودّعُ الدّنيا كيفَ تركَ هذه الذّريّةَ وهؤلاءِ الأولادَ أوِ البنات؟ إن كانَ قد ربّاهم تربيةً صالحة، ونشّأهم على عينِ اللهِ عزَّ وجلَّ وكما يريدُ المولى، ثمَّ قال لهم لقد أعتقتُ رقبتي من مسؤوليّتكم وربّيتكم كما طلبَ منّي الباري عزَّ وجلّ، فدونكم وسيروا في فجاجِ الحياة، ثمَّ رحلَ منَ الدّنيا واستقرَّ في قبره، فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يرسلُ إليهِ المثوبةَ تلوَ المثوبة، يرسلُ إليهِ الأعمالَ الصّالحةَ تلوَ الصّالحة وهو ميِّت، لأنَّ أعمالَ أولادهِ البررة تُكتبُ حسناتها لأبويهِ قبلَ أن تُكتَبَ له.

وأمّا إذا كانَ هذا الإنسانُ قد غفلَ عن أولادهِ وبناته، تركَ أولادهُ يسرحونَ ويمرحون في ظلماتِ هذه الحياةِ الدّاكنة، وتركَ بناته لقماً لفريسةِ شياطينِ الإنس أوِ الجن، تركهم ينسونَ اللهَ عزَّ وجلّ، يتقلّبونَ في الملهياتِ والمنسيات، يتقلّبون فيما تعرفونَ وترونَ من مظاهرِ العُري، ومظاهرِ الزّينة التي نهى اللهُ عزَّ وجلَّ عنها، حالَ دونهُ ودونَ القيامِ بمسؤوليّتهِ ما يزعُمهُ من عطفٍ على أولادهِ وبناته، وأيُّ عطفٍ هذا الذي سيلجُّ بهم وبهنَّ في عذابِ اللهِ عزَّ وجلَّ ومقته، وأيُّ عطفٍ هذا الذي سيجعلُكَ يا أيّها الوالد فريسةً لعذابٍ لا نهايةَ له، هذا معنى قولِ اللهِ عزَّ وجلّ:

(إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ)، هذا الإنسان صحيحٌ أنّهُ قد حجَّ وصام وصلّى وذكرَ الله، ولكنّهُ يجدُ وهو مستقرٌّ في قبره أنَّ ظلماتٍ من الآثامِ تتمطّرُ عليه، من أينَ يأتي هذا؟ لقد انقطعت أعماله ومات، نعم إنها تأتيه من لدن أولاده وبناته الذين انحرفوا سلوكاً واعتقاداً، واللائي انحرفنَ سلوكاً أو مظهراً أو اعتقاداً.

ينبغي للمؤمنِ أن يعلمَ هذا، ديننا الإسلاميُّ دينُ مسؤوليّة، دينُ تضامنٍ وتكافل، إنَّ اللهَ عزّ وجلّ يؤاخذُ الفرد عن نفسه، وعن أسرته، وعن أصدقائه، وعن كلِّ من يلوذُون به.

ولو أنَّ المسلمين قاموا بعُشرِ المسؤوليّةِ هذه التي ألقاها اللهُ على كاهلهم، لصلَحَ المجتمعُ الإسلامي في أيِّ زمانٍ كانَ وفي أيِّ مكان، ولاستراحَ الحاكم عندما يريدُ أن يُصلحَ فلا يستطيع، ولعجزَ الحاكم عندما يريد أن يعوجَّ الأمرُ فلا يستطيع، لا الذي يريد أن يفسد يستطيعُ أن يفسد، ولا الذي يريدُ أن يصلح يُعجزهُ شيءٌ عن أن يصلح.

ولكنَّ المسلمينَ اليومَ ساهونَ سادرون عن هذا الواجبِ الملقى على أعناقهم، لا ينهضونَ بأيِّ مسؤوليّةٍ كلّفهم اللهُ سبحانهُ وتعالى بها، ويظنُّ الواحدُ منّا أنّهُ إذا جلسَ في غرفته آمناً مطمئناً إلى أنّهُ يؤدّي أورادهُ، ويقرأُ قرآنه، ويحجُّ كلَّ عام، ويفعلُ الأعمالَ الخاصّةَ به، فإنَّ اللهَ لا يسألهُ عن أولادهِ وبناته، من قالَ لك هذا؟ ألم تسمعِ الحديثَ الصّحيح عن يومِ القيامة.. عندما يكونُ الرّجلُ واقفاً في عرصات يومِ القيامة، وهو يذكرُ أعمالهُ المبرورةَ التي قدّمَ بها، وإذا بأولادهِ وبناته وذرّيّته يأخذونَ بحججه، يشدّونهُ شدّاً وينترونهُ نتراً إلى الله، يقولونَ لهُ: يا ربّنا خذ حقّنا من هذا، لم ينصحنا عندما أمرتَهُ أن ينصح، ولم يأمرنا عندما أمرتَهُ أن يأمر، ولم يربّنا عندما أمرتّهُ أن يربّي، ولا تجدي دعوى هذا الأبِ في ذلكَ الموقف، أن يقولَ: يا ربّ، لقد كنتُ آمرهم فلا يأتمرون، وقد كنتُ أطلبُ من ابنتي التي بلغت السّادسةَ عشرَ من عمرها أن تتستّرَ فما كانت تتستّر. هذا كلامٌ لغوٌ وباطل إنسانٌ مثلُكَ لا يقبله، فضلاً عن أن يقبلهُ ربُّك الذي أسلمكَ هذا الطّفل وهو معجونٌ بفطرةِ الإسلام، وكلّفكَ اللهُ أن تَرقُبهُ وأن ترعاه منذُ أن تزوّجتَ أمّه لا منذُ أن وُلِدَ هو.

كلّفكَ اللهُ بأن تبدأ برنامجَ تربيةٍ لأولادك منذُ أن تفّكر في الزّواج ثمَّ منذُ أن يولدَ هذا الولد ثمَّ إلى أن يشتدَّ عودهُ شيئاً فشيئاً، في كلِّ هذه المراحل لو أنّكَ أدّيت الرّكن الأساسيّ من المسؤوليّةِ التّربويّةِ التي كلّفكَ اللهُ عزَّ وجلّ بها لرأيتَ أولادكَ خيراً منك، ولرأيتَ بناتك ينهضنَ إلى السّترِ والصّيانةِ والتّديّنِ أكثرَ مما تنهضُ أنت، لأنَّ كلَّ مولودٍ يولَدُ على الفطرة. ولكنّكَ أعرضت، ثمَّ أعرضت، ثمَّ أعرضت، حتّى إذا اشتدَّ هذا الطّفل وحتّى إذا نمى عودُه، واستيبسَ غصنُ كيانه، عندئذٍ أخذتَ تتذكّر أنَّ عليكَ أن تربّي، ولكنَّ الشّياطينَ سبقوك، سبقوكَ فربّوه على أعينهم، ووضعوه في قالبٍ منحرف، فكيفَ تقوّمُ ما استقامَ منحرفاً؟ كيفَ تقوّشمُ ما استصلبَ منحرفاً؟

لقد فاتَ الأوان، والصيف ضيعت اللبن كما يقولُ المثلُ العربيّ، ولن تنجو من مسؤوليّةٍ خطيرةٍ يومَ القيامةِ أمامَ اللهِ عزَّ وجلّ غداً، وإنَّ غداً لناظرهِ قريب، أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي