مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 14/06/1985

خسارة العاصي في شهر رمضان

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أما بعدُ فيا عبادَ الله:

ثلاثةُ أو أربعةُ أيّامٍ بقينَ من أجَلِ هذا الشّهرِ المبارك، وينقضي من بعدها شهرُ رمضان، ويفطرُ الصّائم، ويشبعُ الجائع، ويرتوي الظمآن، ويعودُ الصّائمُ الملتزمُ بأمرِ اللهِ عزَّ وجلّ سواءً بسواء، مثلَ ذاكَ الذي أعرضَ عن أمرِ اللهِ سبحانهُ وتعالى خلالَ هذا الشّهر، فلم يلبِّ لهُ أمراً، ولم يحقّق لهُ نداءاً، كلا الفريقين يعودانِ من حيثُ الواقعُ البشريّ بمستوىً واحد،إلا أنَّ أحدهما فازَ بالأجرِ العظيمِ عندَ اللهِ سبحانهُ وتعالى، وأصلحَ اللهُ بهذا الصّيامِ سريرتهُ ونفسه. والآخرُ باءَ بغضبِ اللهِ سبحانهُ وتعالى وشديدِ عقابه.

ألا فقولوا يا عبادَ الله ما هو الرّبحُ الذي ربحهُ العاصي؟ وما هو الخسران الذي خسرهُ الطّائع؟ ما هو الرّبحُ الذي عادَ بهِ ذاكَ الذي قطعَ هذا الشّهرَ المبارك،مجاهراً بالإفطار، معرضاً عن أمرِ اللهِ سبحانهُ وتعالى، ناسياً نفسهُ وناسياً حقوقَ مولاهُ عليه، ماذا ربح؟ وما هي الحصيلةُ التي عادَ بها؟

لذّةُ المعصيةِ عَرَضٌ زائل، وهوى النّفس ظلٌّ يزول، والأمرُ كما قالت تلكَ المرأةُ الصّالحة: كم من معصيةٍ ذهبت لذّتها وبقيَ حسابها.

نعم، ما هو هذا الرّبحُ الذي عادَ بهِ هذا الإنسان؟ الذي قطعَ الصّلةَ بينهُ وبين مولاه، فساحَ في أرجاءِ هذه الدّنيا كما يسيحُ العبدُ الآبق،وما هي الخسارة التي عادَ بها من أتعبَ نفسهُ في أيّامِ هذا الشّهر؟ فأجاعَ نفسه، مستشعراً أنهُ يطبّقُ أمرَ مولاه، وأظمأَ حلقه، مستشعراً أنهُ يعبّرُ بهذا عن الانصياعِ لأمرِ مولاهُ عزّ وجلّ، يعودُ بعدَ ذلكَ بالرّزقِ العظيم، والأجرِ الخفيِّ الذي لا يعلمُ حقيقته.

كم من مصيبةٍ يبعدها الله عزَّ وجلّ عن هذا الإنسان الذي اصطلحَ مع ربّهِ خلالَ هذا الشّهر، وكم من نعمةٍ يزجيها إليهِ وهو لا يدري، وكم من كربٍ يبعدهُ اللهُ سبحانهُ وتعالى عن قلبهِ وفؤاده، هذا بالنّسبةِ للعاجلةِ الدّنيا، فكيفَ بالأجرِ الذي يدّخرهُ اللهُ غداً يومَ القيامة؟ كيفَ إذا قام عندما ينادي منادي الله سبحانهُ وتعالى بالأرواحِ أن تعودَ إلى أجسادها، ووقفَ بينَ يدي المولى عزّ وجلّ، وسمعَ النّداءَ الذي يتّجهُ إليهِ وإلى إخوانهِ من أمثالهِ قائلاً: ((كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيّامِ الخالية))، ماذا سيذكرُ أحدنا آنذاك؟ من صعوبةِ هذه الأيام، ماذا عسى أن يذكر من المشقّاتِ التي تحمّلها، كلُّ ذلكَ ينقضي وتبقى لذّةٌ لا انقضاءَ لها، تبقى سعادةٌ لا تنطوي هي سعادةُ رضى الله عن العبد، سعادةُ دخولِ الإنسان في هذه الآية الكريمة:((كلوا واشربوا هنيئاً))، يقولها ربُّ العالمين لعباده: ((هنيئاً بما أسلفتم في الأيامِ الخالية)).

عبادَ الله: لا أتصوَّرُ انقضاءَ هذا الشّهر المبارك إلا كمثلِ انقضاءِ هذه الدّنيا.

هذا الشّهرُ مثابةُ ابتلاء، ومثابةُ عمل كلّفَ اللهُ عزَّ وجلَّ به عباده، ثلاثونَ يوماً، أيّامٌ معدوداتٌكما قالَ اللهُ عزّ وجلَّ عنهن، وينقضي الشهر، وتحيقُ الفرحةُ بمن التزمَ أوامرَ اللهِ عزَّ وجلّ خلاله، انقضاءُ هذا الشّهرِ الصّغير ذي الأيامِ المحدودة كانقضاءِ الدّنيا تماماً، إننا لنرى عمرَ الدّنيا ونحنُ نسيحُ في أرجائها الآن عمراً كبيراً متطاولاً، ولكن غداً إذا خرجنا من دائرتها، وإذا تخطّفنا الموت، وانصاعَ ملكُ الموتِ لأمرِ اللهِ عزَّ وجلّ الذي أخبرنا عنهُ في قوله: ((قل يتوفّاكم مّلّكُ الموتِ الّذي وُكِّلَ بكم ثمَّ إلى ربّكم تُرجَعون)).

إذا تخطَّفَنا ملّكُ الموت، وخرجنا من دائرةِ هذه الدّنيا، ونظرنا إليها بعينِ الذّكرى، فلسوفَ نجدُ أنّها هي الأخرى قصيرةٌ كقِصَرِ شهرِ رمضانَ بعدَ زواله، ولسوفَيصبحُ الإنسان بعدَ خروجهِ من إطارِ هذه الدّنياأحدَ رجلين:

رجلٍ وفّقهُ اللهُ عزَّ وجلّ للانصياعِ لأمرِ اللهِ عزَّ وجلّ جهدَ الاستطاعة، فهذا إنسانٌ فرحٌ جزل، هذا إنسانٌ ينطقُ كلُّ ذرّةٍ من كيانهِ بحمدِ الله، على أنّهُ وُفِّق، وعلى أنّهُ استقامَ ولم ينحرف،وعلى أنهُ سارَ جهدَ استطاعته على صراطِ الله، وإلا فكم كانت عاقبتهُ وبيلةً لو أنهُ انحرف، وحسبها من فرحةٍ تخلقُ السّعادةَ في كيانه.

ورجلٍ آخر ينظر بعين المفاجأة إلى الماضي وإلى الحاضر، ويرى نفسهُ وقد حاقت عليهِ خدعةُ الشّيطان، يرى نفسهُ وقد خسرَ ذاته قبلَ أن يخسرَ أوامرَ ربّه،خسرَ سعادته، فهو الشّقاء يجترّهُ إلى ما لا نهاية، والآلامُ التي تمزّقُ كبدهُ إلى ما لا نهاية، وإنّهُ ليقولُ بلسانِ الحالِ والمقال: ((ربِّ ارجعونِ لعلّي أعملُ صالحاً فيما تركت))، لكن هذا هو الدّعاءُ الذي لا يستجاب، نعم، هذا هو الاستثناءُ الوحيد من قولِ اللهِ عزَّ وجلّ: ((وقالَ ربّكم ادعوني أستجب لكم)).

إذا انقضت هذه الدّنيا، وحالَ حَيلُ الإنسان، ووقفَ بينَ يدي مولاهُ عزَّ وجلّ، وأصبحَ بصرهُ كما قالَ اللهُ حديداً، يُبصرُ الغائب، ويرى ما كان يسخرُ منه، عندئذٍ إذا دعا الله فتلكَ دعوةٌ لا تستجاب،وإنما من ورائهِ شيءٌ واحد: هو العذابُ الأليمُ الذي يتربّصُ به.

انقضاءُ الدّنيا كانقضاءِ هذا الشّهر، والمخدوع هو ذاكَ الذي خُدع بالطّرقِ الصّبيانيّة، أجل الطُّرُقِ الصّبيانيّةِ ذاتها، ذلكَ الطّفل الذي يحميهِ أهله عن ألوانٍ من الطّعامِ لأنّهُ مريض، ويجرّعونهُ الدّواءَ لأنهُ علاجه، ولكنَّ لعابَ هذا الطّفلِ الصّغير يسيلُ على المشتهياتِ أمامه، فهوَ لا يملكُ قوّةَ إرادةٍ ليستجيبَ بها لأمرِ الطّبيب، وإذا وُضعَ أمامَ الدّواء تميّزَ منهُ غيظاً،وتمعَّرَ منهُ وجهه، وابتعدَ فارّاً من هذا الدّواءِ ومرارته، تلكَ هي المشاعرُ الصّبيانيّة التي يتحرّرُ منها العقلاء، ولكنّ هناكَ صبياناً كباراً، لا يزالُ عمرُ المراهقةِ يستعبدهم، لا يزالُ لعابهم يسيل على معاصي الله عزَّ وجلّ، ولا يزالون يجزعون من مرارةِ الدّواء الذي يأخذهم به طبيبهم،نعم.

فاحمدِ الله يا أخي المسلم، على أن وفّقك للاستقامةِ على أمره،واهنأ بأنَّ عمرَ الدّنيا قصير، نعم، وأن الحياةَ التي نقبلُ إليها هي الحيوانُ الحقيقيُّ كما قالَ اللهُ عزَّ وجلّ.

لقد انقضى هذا الشهر أو كادَ ينقضي، وأنا ألتفتُ الآن بعينِ الخيال، إلى المئات التي تضرب بأمثالها من المسلمين الذين نراهم يجوبون شوارع هذه البلدة أيامَ هذا الشّهرِ المبارك، والدخائن على أفواههم، وهم يجترّونَ طعامَ الإفطار، وشهرُ رمضانَ غريبٌ مزدرىً فيما بينهم، ننظر بأعيننا أو أعين الخيال، وكلّكم رأى هذا الذي أقول، المطاعمَ المليئةَ بروّادها، والأنديةَ المليئةَ بالمفطرين، رأينا كلَّ ذلك، فماذا عسى استفادَ هؤلاء النّاس؟ بل رأيتُ أكثرَ من هذا كما قلتُ بالأمس، رأينا الشّرطة الذينَ كانوا يُكّلَّفونَ بالأمسِ القريبِ بملاحقةِ المفطرين ومعاقبتهم،رأيناهم هم يمارسونَ الإفطار، ورأينا الدّخائنَ على أفواههم، ولقد قلتُ في نفسي يا عجباً، سبحانَ من يُبّدِّلُ ولا يتبدّل، أينَ أولئكَ الشّرطة الذينَ كانوا بالأمسِ يلاحقونَ المفطرين ويسوقونهم إلى العقاب الرّمزيِّ أو الحقيقيّ؟ لقد انقلبَ المراقبونَ إلى لصوص، لقد انقلبَ أولئكَ المعاقبون إلى أولئكَ المجرمين، وكأنَّ البلدة غيرُ البلدة التي عهدناها، وكأنَّ الشّامَ ليست الشّامَ المقدّسةَ التي كرّمها اللهُ عزَّ وجلَّ ونوّهَ بقداستها، انقضى هذا الشّهرُ المبارك، فليقل لي أولئكَ الذينَ كانوا يمزّقونَ حرمةَ هذا الشّهر، بأيِّ خيرٍ رجعوا؟ وبأيِّ ربحٍ عادوا؟ نعم، وغداً سيموتون، وستلتقطهم القبور، ثمَّ سيعودونَ واقفينَ بينَ يدي اللهِ عزَّ وجلّ، فماذا عسى أن يكونَ جوابُ هؤلاءِ الصّبية المراهقين،الذينَ كانَ يسيلُ لعابهم في الدّنيا على المشتهياتِ الدّنيئة، على المعاصي المبتذلة؟ أولئك الذين كانوا لا يملكونَ من قوّةِ الإرادة ما يعبّرونَ به عن حقائق هويّاتهم، ما يعبّرونَ به عن انصياعهم لمولاهم، ما يُنطقونَ به أنفسهم بأنهم عبيد، للهِ عزَّ وجلّ، وأنا أقولُ يا عبادَ الله كما أقولُ دائماً، المعصيةُ قسمان:

هيكلُ المعصيةِ وسرها،أمّا هيكلُ المعصيةِ فأمرها يسير عندَ اللهِ عزَّ وجلّ، وماذا أعني بهيكلِ المعصية؟

هيكلُ المعصية: الضّعف الذي يسوقُ الإنسانَ إلى الانحراف، فيقعُ في الخطيئةِ وهو لها كاره، يُفطِرُ وهو يخجلُ من نفسه، ويقولُ بينهُ وبينَ نفسهِ لقد أسأتُ وكلُّ النّاسِ خيرٌ منّي، هذا من ارتكبَ هيكلَ المعصية.

أمّا روحُ المعصية: فهي التّباهي بها، هي تبريرها، هي أن يجاهرَ الإنسانُ بهذه المعصية، يخرجُ من داره ويقولُ هذا أنا ذا، هكذا ينبغي أن يفعلَ الآخرونَ مثلي، نعم، هذه هي المعصيةُ الكبرى التي تستنزلُ غضبَ الرّبّ، لا على هذا الإنسانِ المتجبّرِ وحده، بل على المحيط الذي يعيشُ فيهِ أيضاً هذا الإنسان.

أسألُ اللهَ سبحانهُ وتعالى أن يختمَ حياتنا بأحبِّ الأعمالِ إليه، وأسألُ اللهَ سبحانُ وتعالى أن يسلِّمَ رمضانَ لنا وأن يتسلّمهُ منّا متقبّلاً، وأن يكتبنا بفضلهِ ومنّهِ وكرمهِ من عتقاء هذا الشّهرِ المبارك، أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيم...

تحميل



تشغيل

صوتي