مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 17/05/1985

الوسطية .. ومن هم الذين يألفون ويؤلفون؟

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

إنَّ من جميلِ فضلِ اللهِ سبحانهُ وتعالى على هذه الأمّة، أن ميّزها عن الأمم الأخرى بصفةٍ هي من أجلِّ الصّفاتِ التي نوّهَ بها كتابُ اللهِ عزَّ وجلّ، ألا وهي صفةُ الوسطيّة، تلكَ الصّفة التي قلّدَ اللهُ سبحانهُ وتعالى بها هذه الأمّةَ إذ قال: (وكذلكَ جعلناكم أمّةً وسطاً لتكونوا شهداءَ على النّاسِ ويكونَ الرّسولُ عليكم شهيداً).

والوسطُ من كلِّ شيءٍ أعدله، أي ما بعُدَ عن طرفي الإفراطِ والتّفريط، أي ما بعُدَ عن طرفِ الغلوّ والتّقصير، وقد وردَ في الحديثِ الصّحيحِ عن رسولِ الله صلى اللهُ عليهِ وسلّم: "أفضلُ الأعمالِ أوساطها". وقد وردَ في الأثرِ عن عليٍّ رضيَ اللهُ تعالى عنه أنّهُ قال: (عليكم بأوساطِ الأمور، فإنَّ إليها يهبطُ العالي، وإليها يصعدُ النّازل).

ومعنى هذا البيانِ الإلهيّ أنَّ اللهَ سبحانهُ وتعالى شرّفَ هذه الأمّةَ بشريعةٍ بعيدةٍ عن الغلوّ الذي جنحَ إليهِ النّصارى، وبعيدةٍ عن الاستهتارِ والتّقصير اللَذينِ وقعَ فيهما اليهود، وهذا المعنى ذاته هو الذي أشارَ إليه كتابُ اللهِ عزَّ وجلّ في قوله عزَّ وجلّ خطاباً لأهلِ الكتابِ عن طريقِ سيّدنا رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلّم: (قل يا أهل الكتابِ لا تغلوا في دينكم غيرَ الحقّ ولا تتّبعوا قوماً قد ضلّوا من قبلُ وأضلّوا كثيراً وضلّوا عن سواءِ السّبيل)، (لا تغلوا في دينكم غيرَ الحقّ) أي لا تشتطّوا فتتزيّفوا على الدّينِ ما ليسَ منه، فإنَّ الشّططَ فيهِ أخو التّقصير، وإنَّ الزّيادةَ على الدّين ليست بأقلَّ خطورةً من النّقصانِ منه، وما أكثرَ ما كرّرَ بيانُ اللهِ سبحانهُ وتعالى على أسماعنا هذا المعنى، ثمَّ كانَ عملُ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلّم خيرَ تطبيقٍ شارحٍ لهذه الوسطيّة التي شرّفنا اللهُ عزَّ وجلّ بها، وللابتعادِ عن ذلكَ الغلوّ الذي حذّرنا اللهُ سبحانهُ وتعالى منه.

فقد وردَ في الحديثِ الصّحيحِ المشهور عنهُ عليهِ الصّلاةُ والسّلام أنّهُ سمعَ بنبأ ثلاثِ فئاتٍ أو ثلاثِ رجالٍ من أصحابه قد عاهدَ كلٌّ نفسه على أن يحمّلَ نفسهُ من جهدِ العبادةِ أشدّه، فالتزمَ أحدهم بأن يصومَ ولا يفطر، والتزمَ الثّاني بأن يقومَ الليلَ ولا ينام، والتزمَ الثّالثُ بأن لا يتزوّجَ النّساء، فلمّا سمعَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلّم خبرهم غضب ودعا النّاس إلى المسجد وصعدَ المنبر فقال: "أمّا أنا فأخوفكم للهِ سبحانهُ وتعالى، أصومُ وأُفطر، وأصلّي وأنام، وأتزوّجُ النّساء، فمن رغبَ عن سنّتي فليسَ منّي".

وقد روى البخاريُّ رضيَ اللهُ عنهُ والتّرمذيّ أنَّ رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلّم آخى بينَ سلمانَ الفارسي وأبي الدّرداء، وجاءَ ذاتَ يومٍ سلمان رضيَ اللهُ عنه يزورُ أخاهُ أبا الدّرداء، فرأى امرأتهُ متبذّلةً شعثاء، فقالَ لها: ما شأنك؟ قالت: أخوكَ أبو الدّرداء لا شأنَ لهُ بالدّنيا قَطّ، لا يريدُ من الدّنيا شيئاً. فدعا سلمانُ رضيَ اللهُ عنهُ أبا الدّرداءِ إلى داره وصنعَ لهُ طعاماً ووضعَ الطّعامَ وقالَ لهُ: كل، فقالَ أبو الدّرداء: أنا صائم، ولكنَّ سلمانَ عزمَ عليهِ وأقسمَ أنّهُ لن يأكلَ إلا إذا أكل، فأفطرَ أبو الدّرداءِ وأكل، فلمّا جاءَ الليل أرادَ أبو الدّرداءِ أن يقومَ فيصلّي، فقالَ لهُ سلمان: بل نَمْ. نامَ قليلاً ثمَّ استيقظَ ليصلّي، قالَ لهُ سلمانُ رضيَ اللهُ عنهُ: نَمْ. ونامَ حتّى إذا كانَ آخرُ الليل أيقظهُ وقامَ إلى الصّلاة، ثمَّ قالَ لهُ سلمان رضيَ اللهُ عنه: (إنَّ لربّكَ عليكَ حقّ، وإنَّ لنفسكَ عليكَ حقّ، وإنَّ لأهلكَ عليكَ حقّاً، -وفي روايةٍ بزيادة- وإنَّ لزوجكَ عليكَ حقّاً، فأعطِ كلَّ ذي حقًّ حقّه). ومضى أبو الدّرداءِ يقولُ لرسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم ما قالهُ سلمانُ له، فقالَ لهُ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم: لقد صدقَ سلمان.

ماذا نفهمُ من هذا يا عبادَ الله، من هذا الشّرفِ الذي قلّدنا اللهُ به؟ إذا جعلنا أمّةً وسطاً، بل جعلَ شعارَ إسلامنا كلمةَ الصّراطِ المستقيم، التي نردّدها في صلاتنا ونقول: (اهدنا الصّراطَ المستقيم)، أي البعيد عن طرفيِ الإفراطِ والتّفريط، نفهم أنَّ على المسلم بعدَ أن يمتّنَ عقيدتهُ الإسلاميّة وأن يحافظَ عليها محافظةً عقليّةً ووجدانيّةً أن يعلم أنَّ ملاكَ الورع إنّما يتمثّلُ في الابتعادِ عن الفحشاء ما ظهرَ منها وما بطن كما قالَ اللهُ عزَّ وجلّ: (ذَروا ظاهرَ الإثمِ وباطنه)، هذا أعظمُ معنىً من معاني الورع، أن تعاهدَ نفسك وتعاهدَ ربّك على أن لا ترتكبَ شيئاً من الفواحش الظاهرةِ والباطنة، والفواحشُ الباطنةُ أخطرُ من الظّاهرة، أي أن تروّضَ كيانك على أن لا تحقد، على أن تبتعدَ عن الحسد، على أن تبتعدَ عن النّميمةِ والفحشاء، على أن لا تعلّقَ قلبكَ بالدّنيا وزخرفها، فإنّكَ إن وفّقتَ إلى ذلك ملّككَ اللهُ بهذا زمامَ الورع.

فإذا استطعت أن تسيرَ في هذا الطّريقِ ووفّقكَ اللهُ لذلك، فتتمّةُ هذه السّبيل أن تؤدّيَ فرائضَ اللهِ التي ألزمها عليك، وأن تتجاوزَ هذه الفرائضَ إلى ما تستطيعُ من النّوافل متمثّلاً قولَ اللهِ عزَّ وجلّ: (فاتّقوا اللهَ ما استطعتم). ولا تحمّل نفسكَ في ذلكَ شططاً، فربّما تسلّلَ الشّيطانُ إلى الإنسانِ من هذا الطّريق، حمّلهُ بدلاً من العبء ثلاثةَ أعباء، وبدلاً من الثّلاثةِ ستّةَ أعباء، حتّى يشعرَ هذا الإنسانُ بالكللِ والملل فيضجرَ من الدّينِ كلّه ويعودَ إلى شرٍّ ممّا كانَ عليهِ فيما مضى، إيّاكَ وأن يستغلّكَ الشّيطانُ هذا الاستغلال.

ثمَّ اعلم يا أخي المسلم أنَّ العبادة ليست محصورةً في أفكارٍ ولا أوراد، ولا في ركعاتٍ ولا إطالةِ سجودٍ ولا ركوع، العبادة كلُّ ما سمّاهُ العملَ الصّالح: ((إنَّ الّذينَ آمنوا وعملوا الصّالحاتِ كانت لهم جنّاتُ الفردوسِ نزلاً))، أرأيتَ إلى هذا الذي يسمّيهِ اللهُ العملَ الصّالح؟ إن أنتَ فعلتهُ استجابةً لأمرِ ربّك واستدراراً لمرضاتهِ عنك، كنتَ من المتعبّدينَ المتبتّلين، وانظر ما أوسعَ مدلول هذا الكلمة، تجارتكَ عملٌ صالح إن أنتَ قصدتَ بها مرضاةَ الله، زراعتكَ عملٌ صالح، صناعتكَ المباحة عملٌ صالح، دخولُكَ إلى داركَ ولهوُكَ المباح مع أهلكَ وأولادكَ عملٌ صالح، كلُّ ذلكَ من العبادةِ يسجّلُ اللهُ لكَ عليها أجراً، وأيَّ أجر؟ ولكنَّ هذا العمل الثّالث من أشقِّ الأعمال على المسلم، رغمَ أنَّ كثيراً من النّاسِ يظنّونَ أنَّ هذا من أسهلِ الأمور، لماذا هو من أشقِّ الأعمال؟ هوَ من أشقِّ الأمور من أجلِ أن تحوّلها من مباحةٍ إلى عملٍ صالح، سبيلُ ذلكَ القلب، ليسَ سبيلُ ذلكَ الأعضاء والحركات المادّيّةِ البارزة. وكيفَ يستقيمُ القلب؟ بأن توجّهَ قصدك في أعمالكَ هذه كلّها إلى هدفٍ واحد: ألا وهوَ أن يرضى اللهُ عزَّ وجلّ عنك، وهذا ليسَ يسيراً، هذا يحتاجُ إلى معاناةٍ طويلة، وإلى جهدٍ دائب، يتوجّهُ هذا الجهدُ إلى القلب لا إلى الأعضاء، تكثر من ذكرِ اللهِ عزَّ وجلّ بينكَ وبينَ ربّكَ في سرّك، تكثر من تصوّر معنى هذه الدّنيا وأنّها عَرَضٌ زائل، وأنّها شيءٌ فانٍ، وأنَّ الحقَّ فيها ليسَ إلّا الله سبحانهُ وتعالى.

فإذا أمعنتَ النّظرَ في هذه الحقيقة ونظرت فوجدتَ أنَّ الكونَ كلّهُ إنّما هو عبارةٌ عن ذرَّاتٍ تدورُ على محورِ الحقيقةِ الواحدة ألا وهي محورُ الذّاتِ الإلهيّة، وعرفتَ هذا واصطبغتَ بهذه الحقيقة: فإنّكَ مهما انغمستَ في الدّنيا، ومهما عاشرتَ أهلها، أو تعاملتَ بشؤونها، فإنّكَ تكونُ متعاملاً معَ اللهِ سبحانهُ وتعالى، لستَ بحاجةٍ إلى أن تنفضَ يدكَ من الدّنيا، لستَ بحاجةٍ إلى أن تأكلَ المقدّدَ من الطّعام تزهّداً، لستَ بحاجةٍ إلى أن تعتزلَ النّاسَ والأهلَ والأولاد لتفرغَ بزعمك في الذّكرِ مع ربّكَ عزَّ وجلّ، لستَ بحاجةٍ إلى شيءٍ من ذلك لأنَّ الخلوةَ في الجلوة، لأنَّ عبادتكَ لله إنّما تتحقّق بأن تخدمَ ربّكَ عزَّ وجلّ وتعبدهُ من خلالِ خدمةِ عباده، من خلالِ رعايةِ عباده، من خلالِ تحقيقِكَ لمعنى قولهِ عزَّ وجلّ: (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها)، كلّفكَ اللهُ بعمارةِ الأرض، كلّفكَ اللهُ بأن تكونَ زوجاً وأباً وربَّ أسرة، وأن تكونَ عوناً لإخوانكَ على طرفٍ من أطرافِ الحياة، ولكن احذر أن يتسلّلَ الشّيطانُ إلى قلبك فيجعلَ هدفكَ هدفاً دنيويّاً، هذا هو الورع، وهكذا ينبغي أن يكونَ المسلم، وبهذا الحصن يحصّنُ الإنسانُ نفسهُ ضدَّ ضراوةِ الشّيطانِ وضدَّ أحابيلهِ ومكره.

من قال: إنَّ المسلمَ لكي يكونَ ورعاً ومحبوباً إلى الله ينبغي أن يتبذّلَ في هيأته وينبغي أن يبتعدَ عن التّجمّلِ في مظهره؟ من قالَ هذا؟ العكسُ هو الصّحيح، ربَّ رجلٍ متبذّلِ الهيئة وقلبهُ مفتونٌ بالدّنيا، وربَّ رجلٍ متجمّلٍ في فاقة كما يقولُ الحسنُ البصريُّ رضيَ اللهُ عنه، وقلبُه لا يحيا إلا مع ربّهِ سبحانهُ وتعالى.

إنَّ رسولَ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ يقول: "ألا أنبّئكم بأقربكم منّي مجالساً يومَ القيامة؟ أحاسنكم أخلاقاً، الموطّؤونَ أكنافاً، الّذينَ يألَفونَ ويؤلَفون". هذا هو ديننا، وتلك هي شرعةُ ربّنا، وهذا هو كلامُ رسولنا عليهِ الصّلاةُ والسّلام. "ألا أحدّثكم عن أقربكم منّي مجالساً يومَ القيامة"؟ منذا الذي لا يحلم بهذا الشّرف الكبير؟ ما ثمنه؟ ثمنهُ شيءٌ واحد: "أحاسنكم أخلاقاً، الموطّؤونَ أكنافاً"، فسرَّ ذلكَ كلّهُ بهذه الكلمة: "الّذينَ يألفونَ ويؤلفون"، والإنسانُ لا يؤلف إلا إذا كانَ متجمّلاً في مظهره، قريباً من إخوانه، رخيَّ النّفسِ تجاههم، يشعرونَ بالأنسِ به، يعطيهم من طرفِ لسانهِ حلاوةً ومن طرفِ قلبهِ إخلاصاً وأنساً، يُعاملُ الأهلَ والأولادَ والأسرة هذه المعاملةَ التي تحقّقُ في نفسه هذا المعنى، وكانَ لهُ مظهرٌ أخّاذٌ بينَ النّاس، يجعلُ النّاسَ تتعشّقُه وتألفه وتحبُّ التّقرّبَ إليه، وهكذا كانَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلّم، ولكنَّ هذا كلّه ينبغي أن يحصَّنَ بحصنٍ من النّيّةِ السّليمة، النّيّةُ السّليمة هي مجالُ الجهاد، وهي مجالُ الورع، وهي مفتاحُ القربِ إلى الله، فأمسك بيدكَ مقودَ قلبك، أمسك بيدكَ مقودَ النّيّةِ والعزمِ في فؤادك، واجعل في قلبكَ من حبّكَ للهِ عزَّ وجلّ ما يصرفُ أعمالكَ كلّها ما تراهُ دنيويّاً وما تراهُ أخرويّاً في سبيلِ أن يرضى عنكَ ربُّكَ عزَّ وجلّ، وعندئذٍ ستجدُ نفسك أينما سبحتَ من يمِّ هذه الدّنيا وحيثما غصتَ يميناً أو يساراً ستجدُ نفسكَ تتقلّبُ بينَ الأعمالِ التي تقرّبكَ إلى اللهِ عزَّ وجلّ، فقط لا ترتكبِ المحرّمات، وابتعد عن الفواحشِ ما ظهرَ منها وما بطن، وأدِّ ما فرضَ اللهُ عزَّ وجلَّ عليك تكن أعبدَ النّاس، أقولٌ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيم فاستغفروهُ يغفر لكم...

تحميل



تشغيل

صوتي