مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 10/05/1985

معيار الحساب .. حقوق العباد لا كثرة العبادات

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

إننا إذا نظرنا إلى المسلمينَ اليوم من مقياسِ العبادةِ والطّاعاتِ والإقبالِ إلى المساجد، رأينا صوراً نتفاءلُ منها، وعدنا نتيمّنُ خيراً ونتصوّرُ أنَّ جلَّ المسلمينَ بخيرٍ وإقبالٍ على اللهِ عزَّ وجلّ، فأكثرُ مساجدهم ملأى، وأكثرهم يهرعونَ إلى الصلاةِ في أوقاتها، وما أكثرَ من يشدُّ نفسهُ إلى مجالسِ الذّكر هنا وهناك.

ولكن إذا نظرنا إلى حالِ هؤلاءِ المسلمينَ أنفسهم من مقياسِ التّعامل، ونظافةِ اليد، وصدقِ الأمانة، عدنا بخيبةِ أمل، وتحوّلَ التّفاؤلُ لدينا إلى تشاؤم، وتحوّلتِ الطّمأنينةُ والأمن إلى خوفٍ من سخطِ اللهِ سبحانهُ وتعالى ومقته، فإنّكَ لتفاجأ من هؤلاءِ الذين تمتلئ بهم المساجد ويقبلونَ إلى الصّلوات ويقبلونَ إلى الطّاعاتِ في أوقاتها، تفاجأُ منهم بأمورٍ تشيبُ لها الولدان، وتسمعُ أحداثاً عن الخياناتِ الماليّة، وعن أكلِ حقوقِ المسلمين، وعن التهامِ المالِ من حلاله وحرامه، تسمعُ من ذلك كلّه أخباراً لا يكادُ عقلك يتصوّرُ أنَّ مسلمينَ يفعلونَ هذا، وأنَّ مؤمنينَ باللهِ يقفون بين يديهِ ويضعونَ يمنى على يسرى في تبتّلٍ وخشوع يفعلونَ كلَّ هذا.

هذه صورةٌ دقيقةٌ - فيما أعتقد - لواقعِ جلِّ المسلمينَ اليوم، وغداً إذا قامَ النّاسُ لربِّ العالمين على أيِّ المقياسين يحاسبهم؟ وعلى أيِّ الأساسين ينظرُ إلى أعمالهم؟ هل ينظرُ إليهم من مقياسِ السّجودِ والرّكوع وكثرةِ الإقبالِ إلى المساجد، ويعفو عنهم كلَّ السّيّئاتِ الأخرى الدّاخلةِ في نطاقِ التّعامل؟ أم إنَّ اللهَ سبحانهُ وتعالى يحاسبهم على أساسِ المعاملة، وعلى أساسِ نظافةِ اليدّ؟ وعلى أساسِ الأمانة المحفوظةِ أو المضيّعة؟ ويعفو عن التّقصيرِ في العباداتِ والحقوقِ التي هي حقوقهُ خاصّة وليست عائدةً إلى حقوقِ العباد؟ ترى كيفَ يحاسبُ اللهُ المسلمينَ غداً؟

روى البزار وغيرُه عن عليٍّ رضي اللهُ عنهُ قال: (كنّا جلوساً عندَ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلّم فأقبلَ إلينا رجلٌ من أهلِ العالية، فجلسَ إلى رسولِ اللهِ وقال: يا رسولَ الله أخبرني عن ألينِ شيءٍ في الإسلامِ وأشدّه؟ فقال: "أمّا ألينه فشهادةُ أن لا إله إلا الله وأنَّ محمّداً عبدهُ ورسوله، وأمّا أشدّه فهو الأمانة، يا أخا العالية: إنَّ من لا أمانةَ لهُ لا يقبلُ اللهُ لهُ صلاةً ولا صياماً ولا زكاة، يا أخا العالية: إنَّ من أصابَ مالاً حراماً فلبسَ منهُ جلباباً – أي قميصاً - فصلّى به فإنَّ اللهَ لا يقبلُ منهُ صلاتهُ حتّى ينحّيَ عنهُ جلبابه، إنَّ اللهَ أكرمُ وأجلّ من أن يقبلَ صلاةَ إنسانٍ تجلببَ بجلبابٍ حرام"). هكذا يقولُ رسولُ الله صلى اللهُ عليهِ وسلّم.

إذاً فغداً إذا رحلَ الإنسانُ عن الدّنيا ونفضَ يدهُ عن أموالها وخيراتها ووقفَ بينَ يدي اللهِ عزَّ وجلّ حافياً عارياً كما قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلّم، لن يحاسبهُ اللهُ الحسابَ العسير على حقوقه الخاصّةِ به، ولكنّهُ يوقفهُ الوقفةَ الطّويلةَ والطّويلةَ جدّاً على الأمانة، على نظافةِ اليد، على الفم الذي أكل من حقوقِ النّاس واستمرأها، ونسيَ أنَّ اللهَ الذي تعبَّدَ عبادهُ بما تعبّدهم به من أوامر إنما ألزمهم بهذه الأوامر من أجلِ أن يحفظوا حقوقَ النّاس، هذه هي الحقيقةُ التي ينبغي أن نعلمها، وانظروا فلقد وقفتُ على آياتٍ كثيرة من تلكَ التي يحدّثنا اللهُ عزَّ وجلّ عن حيثيّاتِ العقاب الذي سينزله اللهُ بالجاحدينَ والمالقينَ يومَ القيامة، فرأيتُ أنَّ هذه الآياتِ كلّها التي تبينُّ حيثيّاتِ مقتِ اللهِ عزَّ وجلّ إنما تركّزُ على التّعاون، إنما تركّزُ على الأمانةِ والخلق، اسمعوا هذه الآياتِ مثلاً: (كلّا بل لا تكرمون اليتيم * ولا تحاضّونَ على طعامِ المسكين * وتأكلون التّراثَ أكلاً لمـّا * وتحبّونَ المالَ حبّاً جمّاً)، هذه هي الحيثيّات التي يحدّثنا اللهُ عنها بين يديه، ومقدّمةً للحديثِ عن عذابه عندما يقولُ بعدَ ذلك مباشرةً: (كلّا إذا دكّتِ الأرضُ دكّاً دكّا * وجاءَ ربُّكَ والملأُ صفّاً صفّا * وجيءَ يومئذٍ بجهنّم * يومئذٍ يتذكّرُ الإنسان وأنّى لهُ الذّكرى).

لم يركّز البيانُ الإلهيّ على صلاةٍ قصّرَ في آدابها، ولا على قيامِ ليلٍ لم يؤدّهِ كما ينبغي، ولم يركّز على أنَّ هؤلاءِ النّاس لم يكونوا يتربّعونَ في مجالسِ الذّكر، وإنّما ركّزَ على التّعامل، على الأمانة، على أن يفطنَ الإنسانُ نفسهُ من أكلِ المالِ الحرام.

عبادَ الله، ألا تسألونَ أنفسكم: لماذا ألزمنا اللهُ بهذا الاعتقاد؟ لماذا ألزمنا اللهُ بأن نعلمَ أننا عبيدٌ له؟ وبأنّهُ مالكٌ لنا، وإلهٌ لنا؟ لماذا؟ اللهُ لا يحتاج إلى أن نعلم عبوديّتنا له، ولا يحتاجُ إلى أن نطأطئَ رأسنا ذلّاً بينَ يديه، فربوبيّتهُ كاملةٌ لا تحتاجُ إلى ممارسةٍ لعبوديّتنا له، ولكنَّ اللهَ عزَّ وجلّ ألزمنا بهذا الاعتقاد حتى نخافَ الله، فإذا خفنا الله خفنا من أن يظلمَ بعضنا بعضاً، وحسبنا للدّيّانِ حساباً، وحسبنا ليومِ القيامةِ حساباً، فلن أتقدّمَ بيدي إلى إنسانٍ إلا على النّهجِ العادل الذي أذن اللهُ عزَّ وجلّ، ولن تمتدَّ يدي إلى لقمةٍ أضعها في فيَّ إلا بعدَ أن أنظرَ وأحسبها بدقّة: هل جاءت من حلالٍ أم من حرام؟ من أجلِ هذا تعبَّدَنا اللهُ بهذه العقيدة.

ولماذا أمرنا اللهُ بالصّلاة؟ ولماذا أمرنا اللهُ بذكره؟ ولماذا أمرنا اللهُ بالإكثارِ من مراقبته؟ كلُّ ذلك أُمرنا به دعماً لهذا الاعتقاد، صلاتنا تغذّي عقيدتنا وخوفنا من الله، ذكرنا ومراقبتنا لله عزَّ وجلّ كلُّ ذلك يزيدُنا شعوراً بالخوفِ من الله سبحانهُ وتعالى، والعقيدةُ تصبُّ في المعنى الذي ذكرتهُ لكم، ذلك لأنَّ الإنسانَ لا يملكُ غرائز كما تملكها الحيوانات، الحيواناتُ لها غرائز تردّها وتصدّها عن الانحرافِ عن نهجها الذي فطرها اللهُ عليه هكذا بالغريزة، أما أنت يابنَ آدم وقد كرّمكَ الله عن أن تكونَ مثلَ الحيوان، ليسَ في عنقك زمامٌ اسمهُ الغريزة يدفعكَ دفعاً إلى صراطٍ لا انحرافَ فيه، وإنما أورثكَ اللهُ بدلاً من الغريزةِ عقلاً، ثمَّ توّجَ عقلك بهذه الرّسالةِ التي أرسلها إليك، بيَّنَ لك سبيل التّعامل مع إخوانك، كيفَ ينبغي أن تتعاملَ معهم، كيفَ ينبغي أن تضعَ مخافةَ اللهِ نصبَ عينيك، كيفَ ينبغي أن لا تمدَّ يدكَ إلى قرشٍ من المالِ إلا من حلّه، وكيفَ أنَّ اللهَ يحذّرك إن أنت أوغلتَ في المالِ الحرام وتقلّبتَ واستغرقت في بحارِ المحرّمات فإنَّ اللهَ لن يقبلَ منك صِرفاً ولا عدلاً، وإنّكَ مهما دعوتَ اللهَ في الدّنيا لن يُستجابَ لدعائك.

ألم تسمع كلامَ المصطفى عليهِ الصّلاةُ والسّلام في الحديثِ الصّحيح، حديثٌ طويل، ذكرَ في آخرهِ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلّم قصّةَ الرّجلِ المسافر أشعثَ أغبر، يطيلُ السّفر، ذي طمرينِ باليين، يقولُ: يا ربِّ يا ربّ، ومأكله من حرام، وملبسه من حرام، وغذّيَ بحرام، فأنّى يُستجابُ له؟ انظر إلى ما يقولهُ المصطفى: رجل أشعث أغبر، شأنهُ شأن الزّهّاد، يطيلُ السّفر، بعيد عن الأسواق، كأنَّ الرّجل طلّقَ الدّنيا، متعبّد، لكن كل هذا التّعبّد لا قيمةَ له في ميزانِ اللهِ عزَّ وجلّ، لقمةٌ واحدةٌ يأكلها هذا الإنسانُ من حرام يقومُ مقامَ الصّفقِ في الأسواقِ سنةً بكاملها، اشتغل في الأسواق وكن تاجراً أو صانعاً أو زارعاً ولا تكن هذا الزّاهد البعيدَ عن الدّنيا، على أن تأكل من الحلال وأن لا تمدَّ يدكَ إلى مالِ النّاس وأن لا تنكرَ حقوقهم، هكذا يعلمنا المصطفى عليهِ الصلاةُ والسلام.

إنني أسألُ اللهَ سبحانهُ وتعالى ألّا يجعلنا ممّن يخادعونَ الله عزَّ وجلّ، اللهُ لا يُخدع، ومخادعةُ اللهِ جريمة، ربّما تفوقُ جرائمَ الفسوقِ والعصيان، أسألُ اللهَ عزَّ وجلّ أن يجعلَ من أولى ثمراتِ مخافتنا من الله أن نؤدّيَ للنّاسِ حقوقهم، وأن لا تمتدَّ أيدينا إلى ظلمٍ معنويٍّ أو مادّيٍّ لأحدٍ من عباده، حتّى وإن قصّرنا في الطّاعات وإن قصّرنا في النّوافلِ والأذكار، فالأمرُ في ذلكَ سهل، ورحمةُ ربّكَ وسعت كلَّ شيء، ولكنَّ المهمّ أن تكونَ ثمرةُ مخافتنا من اللهِ عزَّ وجلّ أن لا نرحلَ من هذه الدّنيا وإن رقابنا مثقلةٌ بحقوقِ النّاس، أسألُ اللهَ سبحانهُ وتعالى لي ولكم المثوبة والرّجوعَ إلى هديهِ وصراطه، فاستغفروهُ يغفر لكم.

تحميل



تشغيل

صوتي