مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 03/05/1985

الحرز العاصم للشباب من كيد الشيطان

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

في كتابِ اللهِ سبحانهُ وتعالى مشهدانِ اثنان، أحدهما يدخلُ الهلعَ في الفؤاد ويتصوّرُ معهُ الإنسانُ أنّهُ يعيشُ من هذه الدّنيا في فلاةٍ قد أحاطت به فيها شياطينُ الإنسِ والجنّ، فلا مفرَّ لهُ منهم ولا مخلصَ ولا ملاذ، ولا يمكنُ لهُ أن ينجوَ من هذا المكانِ وهذا السّجنِ الذي أُحيطَ بهِ فيه.

المشهدُ الثّاني يصوّرُ لنا الحصنَ الواقي الذي يجدهُ الإنسانُ أنّا ذهب وأنّا ارتحلَ وأقام يجدهُ تلقاءهُ يناديهِ بلسانِ الحال أنْ أقبِلْ واطمئنَّ في داخلِ هذا الحصن فليسَ عليكَ من شرٍّ بعدَ ذلك ولن يطوفَ حولكَ من خطر.

أمّا المشهدُ الأوّل فيمثّلُهُ قولُ اللهِ سبحانهُ وتعالى على لسانِ إبليس: (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) لو وقفنا عندَ هذا الكلام الذي ينقلهُ لنا بيانُ اللهِ عزَّ وجلّ عن حقدِ إبليس وما التزمَ به لتصوّرنا أنَّ أحداً من البشر لا منجاةَ لهُ من شرِّ هذا المخلوق الذي ألزمَ نفسهُ بإغواءِ عبادِ اللهِ سبحانهُ وتعالى، وربّما استيأسَ الإنسان أمامَ هذه الصّورةِ المخيفة من النّجاةِ والفلاح، ولكنَّ اللهَ سبحانهُ وتعالى لم يتركنا للغوِ إبليس وإن أرادَ اللهُ عزَّ وجلَّ منّا أن نخاف وأن نقدّرَ الأمرَ حقَّ قدره، ولكنَّ كرمَ اللهِ عزَّ وجلّ عظيم، ولطفهُ عميم، فهو سبحانهُ وتعالى لم يتركنا لوعيدِ إبليسَ هذا.

إليكم المشهدَ الثّاني الذي يقولُ فيهِ اللهُ سبحانهُ وتعالى: (قال هذا صراطٌ عليَّ مستقيم إنَّ عبادي ليسَ لكَ عليهم سلطان إلا من اتّبعكَ من الغاوين)، هذا الكلامُ الإلهيُّ بدّدَ تلكَ المخاوفَ العظيمة، وهذا الوعدُ الرّبّانيُّ سحقَ ذلكَ الوعيدَ القميء، وعيدَ إبليس.

(إنَّ عبادي ليسَ لكَ عليهم سلطان) ذلكَ هو الحصن، حصنٌ يراهُ الإنسانُ تلقاءهُ في كلِّ زمانٍ ومكان، مفتّحُ الأبواب، يقولُ لهُ بلسانِ الحالِ بل ربّما بلسانِ المقال: إن كنتَ تخافُ ضراوةَ الشّياطين الذين يحدقونَ بك عن يمينٍ ويسارٍ ومن فوقٍ وتحت، فأقبل إلى هذا الحصن فإنَّ أحداً لن يستطيعَ أن يمتدَّ إليكَ بأيِّ سوء، (إنَّ عبادي ليسَ لكَ عليهم سلطان)، هذه الكلمةُ العظيمةُ القدسيّة يجبُ أن نقفَ عندها قليلاً يا عبادَ الله، فإنَّ فيها الدّواء لكلِّ مريض، وإنَّ فيها العلاج لكلِّ ذي شكوى، وإنَّ فيها الملاذ لكلِّ من أُحيطَ به.

قد يقولُ قائل ما معنى قولهِ عزَّ وجلّ: (إنَّ عبادي ليسَ لكَ عليهم سلطان)؟ أليسَ البشرُ كلّهم عبادَ الله أليسَ المؤمنُ والكافرُ والفاسقُ والملحد كلّهم عباداً للهِ عزَّ وجلّ؟ إذاً ينبغي أن يكونَ المعنى: كلُّ من كانَ عبداً للهِ حقيقة فإنَّ الشيطانَ ليسَ لهُ عليهِ سلطان، ولكنَّ الأمرَ ليسَ كذلك، فما أكثر من يتصيّدهمُ الشّيطانُ من عبادِ اللهِ تعالى، وما أكثرَ من يهلكون في شَرَكِ الشيطان ومصيدتهِ من عبادِ اللهِ تعالى، إذاً ما معنى قوله: (إنَّ عبادي ليسَ لكَ عليهم سلطان)؟

معنى هذه الآيةُ العظيمة؟ إنَّ كلَّ من تحقّق بمعنى العبوديّةِ لي، إنَّ كلّ من وضعَ عبوديّتهُ لي موضعَ التّنفيذِ من حياته، أقرَّ بها واعترفَ بها، وتطامن لها، وكسا نفسهُ بردائها، هذا الإنسانُ لن تطولهُ يمينُ شيطانٍ ولن يقعَ في شَرَكِ إبليسَ أبداً. كيفَ يتحقّقُ الإنسانُ بمعنى عبوديّتهِ للهِ عزَّ وجلّ؟ كلُّ النّاسِ عبيدٌ لله آمنوا بذلكَ أم جحدوا، ولكنَّ اللهَ عزَّ وجلّ يعد أولئكَ الّذينَ اعترفوا بهذه العبوديّة واصطبغوا بها ووضعوها موضعَ التّنفيذ يلجؤونَ إلى اللهِ بتضرّع وتذلّل كلّما نابهم مكروه، أو كلّما رأوا خطراً كادَ أن يداهمهم أو يطوفَ بهم، يلتجؤونَ إلى اللهِ سبحانهُ وتعالى معترفين بمملوكيّتهم له، موقنين بذلّهم ومالكيّةِ اللهِ عزَّ وجلّ لهم، هؤلاءِ النّاس آمِنون تحتَ مظلّةِ العنايةِ الإلهية، هؤلاءِ النّاس مطمئنون في حصنِ الأمنِ الإلهيّ. هذا هو معنى قولهِ عزَّ وجلّ: (إنَّ عبادي ليسَ لكَ عليهم سلطان إلا من اتّبعكَ من الغاوين). انظر إلى قوله: (إلا من اتّبعكَ من الغاوين)، تتّبعهُ أولاً ثمَّ إنَّ اللهِ يسلّطهُ عليكَ ثانياً، لولا أنّكَ تخطو الخطوةَ الأولى محالٌ أن يمكّنهُ اللهُ من أن يخطوَ خطوةً واحدةً إليك، فحصّن نفسكَ ضدَّ اتّباعه، وحصّن نفسكَ ضدَّ الإصغاءِ إليهِ وضدَّ الميلِ إليه وانظر كيفَ ينجيكَ اللهُ سبحانهُ وتعالى من أحابيله.

هذا الكلام يجدرُ أن يتأمّلهُ بدقّة آناءَ اليلِ وأطرافَ النّهار، أولئكَ الشّباب الذينَ ما زالوا يسألون ويشكون: نحنُ مؤمنون بالله، موقنون بشرعه ونحبُّ الاستقامةَ على صراطه، ولكنّا ضعفاء لا نستطيعُ الثّبات، ولابدَّ أن نجدَ أنفسنا بينَ الحينِ والآخر وقد انحرفنا وقد تخطّفتنا شياطينُ الإنسِ والجنّ، ماذا نصنع؟ تلكَ هي الشّكوى التي ينفثُ بها كثيرٌ من الشّبابِ في هذا العصر.

العلاجُ أمامكَ يا أخي، الدّواءُ موضوعٌ بينَ يديك، الدّواءُ كلّه مطويٌّ في هذه الآيةِ العظيمة: (إنَّ عبادي ليسَ لكَ عليهم سلطان). وقد ألزمَ اللهُ ذاته أن ينفّذَ هذا الوعد عندما قال: (هذا صراطٌ عليَّ مستقيم إنَّ عبادي ليسَ لكَ عليهم سلطان).

المهمُّ أن تتفتَ إلى هذا البيان وأن تتأمّله وأن تتدبّره، وأن تستعملَ العلاجَ الذي وضعهُ اللهُ عزَّ وجلَّ بينَ يديك، أنتَ تشكو من ضعفك، وتشكو منَ الشّهواتِ والأهواء والشّياطينِ الّذين يحاولونَ أن يتخطّفوك، فهل وضعتَ عبوديّتكَ للهِ موضعَ التّنفيذ؟ هل التجأتَ إلى هذا الحصنِ ذي الأبوابِ المفتّحة؟ أغلبُ الظّن أن لا لم تضع عبوديّتكَ للهِ موضعَ التّنفيذ، الإيمانُ في تصوّرك مجرّدُ حركة، مجرّدُ نشاط، مجرّدُ سعيٍ هكذا وهكذا، لا، أنتَ ضعيفٌ لا تملكُ أن تتحرّك ولا أن تنشط ولا أن تفعلَ شيئاً، ولكنَّ اللهَ ملّككَ شيئاً واحداً هو أن تعلنَ عن إرادتك، رغبتك في أن يهديك الله، في أن يعصمك الله، في أن لا تنحرفَ ولا تعوجّ، فإذا رأى اللهُ عزَّ وجلّ منكَ الإرادةَ الصّادقةَ إلى الاتّجاهِ إليه حصّنك، ولكنَّ هذه الإرادةَ أيضاً لا تكفي لا بدَّ أن تكسى هذه الإرادةُ ثوبَ العبوديّة.

لابدَّ أن تعبّرَ عن إرادتك بدعاءٍ واجف، ببكاءٍ خاشع، بتذلّلٍ إلى اللهِ عزَّ وجلّ، وقد أعلمتَ بينَ يديه أنّكَ لا تملكُ حولاً ولا قوّة، لا تملكُ من أمرِ نفسكَ شيئاً، أنتَ ريشةٌ في مهبِّ الرّياح، ولكنّكَ تحبُّ أن يعصمكَ الله، تحبُّ أن تكونَ مستقيماً، فليسَ أمامكَ وهذه هي الحال سوى الالتجاءِ إليه، سوى التّضرّعِ إلى بابه والتّمرّغِ عندَ أعتابه، هل فعلتَ ذلك؟ لو أنّكَ فعلت هذا بينَ كلِّ صباحٍ ومساء لرأيتَ ضعفكَ قد تبدّلَ قوّة، ولرأيتَ هذه البيداء التي أحيطَ بكَ فيها واحتوشت من حولكَ فيها السّباعُ الضّارية لرأيتَ نفسكَ انتقلتَ من حيثُ لا تشعر إلى إلى حصنٍ آمنٍ مطمئن، ولكنَّ أكثرَ الشّباب لا يعلمونَ من الإسلام إلا الحركة كأنّهُ نظامٌ يؤدّيهِ الإنسانُ بقوله وبطاقته، وهذا وهمٌ باطل.

الإسلام تاجهُ العبوديّة، روحهُ العبوديّة، نبضاتُ القوّةِ فيهِ تتمثّلُ في العبوديّة، والعبوديّة هي أن يصبرَ الإنسانُ بينَ يدي مولاه لا بينَ يدي أحدٍ آخر، أن يصبغَ الإنسانُ نفسهُ بصبغةِ الذّل والضّراعة، يتألّم ويظهرُ شكواهُ لله، ويشكو أنَّ الشّياطينَ تلاحقه، وأنّهُ لا يجدُ مفرّاً منهم.

نادهِ ولسوفَ يجيبك، ادعهُ ولسوفَ يستجيبُ لك ويحقّقُ رجاءَك، وإنَّ اللهَ عزَّ وجلّ إذا وعد لا يمكنُ أن يخلفَ وعده، إنَّ اللهَ لا يخلفُ الميعاد وهو القائل: ((إنَّ عبادي ليسَ لكَ عليهم سلطان))، اللهمَّ اجعلنا من عبادك الذين عصمتهم من شياطينك، اللهمَّ حصّنّا بحصنِ العبوديّةِ لكَ يا ربَّ العالمين، فاستغفروهُ يغفر لكم..

تحميل



تشغيل

صوتي