مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 15/03/1985

الصبر على المبدأ الذي أمر الله به

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

ما رأيتُ مبدأً يوصي بهِ كتابُ اللهِ سبحانهُ وتعالى، ويكرّرُ الوصيّةَ به، ويلحُّ على عبادهِ، يلحُّ اللهُ عزَّ وجلّ على عبادهِ أن يتشبّثوا بهذا المبدأ، ويجزلُ لهمُ المثوبةَ عليه، كالصّبر على اليقينِ الذي آمنوا به، وعلى المبدأ الذي أمرهم اللهُ سبحانهُ وتعالى به.

كلمةُ الصّبرِ من أكثرِ الكلماتِ تكراراً في كتابِ اللهِ عزَّ وجلّ، والصّبرُ وحده: هو الشّيءُ الذي وعدَ اللهُ عزَّ وجلّ عبادهُ أن يثيبهم عليه بدون حساب، فقالَ عزَّ وجلّ: ((إنّما يُوفّى الصّبرونَ أجرهم بغيرِ حساب))، وعن الصّبر قالَ اللهُ عزَّ وجلّ: ((يا أيها الذينَ آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتّقوا اللهَ لعلكم تُفلحون))، وقد قسَمَ البيانُ الإلهيُّ في سورةٍ كاملة، قسَمَ الدّين إلى قسمينِ اثنين: أحدهما يتمثّلُ في اليقينِ بالحقّ، والثاني يتمثّلُ بالصّبرِ عليه. فقالَ عزَّ من قائل: ((والعصر*إنَّ الإنسانَ لفي خُسر*إلا الذين آمنوا وعملوا الصّالحاتِ وتواصوا بالحقِّ وتواصوا بالصّبر)). وهذا معنى قولِ المصطفى عليهِ الصّلاةُ والسّلام: "الصّبرُ نصفُ الإيمان".

معنى ذلك: أنَّ الإيمانَ إنما يتكوّنُ من حقيقتينِ اثنتينِ في حياةِ المرء:

الحقيقةُ الأولى: أن يستيقِنَ الإنسانُ بالحقّ الذي أنزلهُ اللهُ عزَّ وجلّ عليه.

الحقيقةُ الثّانية: أن يصبرَ على مقتضى هذا الحقّ فيتمسّكَ به.

من اجتماعِ هاتينِ الحقيقتين يتكاملُ الإيمان، فإن وُجِدَ يقينٌ ولكن لم يتحقّقِ الثّباتُ على مقتضى هذا اليقين، فذلكَ إيمانٌ ناقص بل هوَ إيمانٌ وهميّ.

هذه الحقيقةُ السّاطعة ينبغي أن نتمثّلها يا عبادَ الله. وينبغي أن نعلم أنَّ الإيمانَ نبتٌ، لا يُزرعُ إلا في تربةِ الصّبر، وأنّهُ ثمرة لا تحيا إلا في حصنٍ من الصّبر، فمن لم يهبهُ اللهُ عزَّ وجلّ هذا المعنى في كيانه، لم يثبتِ الإيمانُ بينَ جوانحهِ إلا يسيراً.

وما هي حقيقةُ الصّبر؟ وما الفرق بينَ الصّبرِ والضّيم؟ الضّيمُ مكروه، والضّيمُ مظهرٌ من مظاهرِ الذّل، وقديماً كانتِ العربُ تأنفُ الضّيم، وجاءَ الإسلامُ ليزيدَ النّاسَ كراهيةً بالضّيم. ولكنَّ الصّبرَ محمود، وإنّكَ قد تنظرُ في الظّاهر فتجدُ الضّيمَ والصّبرَ شيئاً واحداً، الضّيمُ والصّبر كلاهما الامتناع عمّا تشتهيه النّفس، والبعد عن رغائب الذّات، لكن مرةًّ نسمّي ذلكَ ضيماً مسترذلاً، ومرّةً نسمّي ذلك صبراً محموداً.

ما الفرقُ بينهما؟ الضّيم هو أن يمنعكَ إنسانٌ أو أن تمنعَ نفسَكَ من شيءٍ تشتهيه نفسُك بدونِ فائدة، ودونَ أملٍ بالحصولِ على ما هو أفضل. هذا هو الضّيم.

تمتنع عن أكل الطّيّبات، تمتنع عن أن ترفّه نفسك بالنّعم التي أنعم اللهُ عزَّ وجلّ بها عليك دونَ هدف، ودونَ أملٍ في الوصولِ إلى غايةٍ محمودة. أو يحبسُكَ إنسانٌ عن نيلِ ملاذّك، لا لشيءٍ إلا ليضيمك، لا لشيءٍ إلا ليخزيك، هذا التّمنّع وهذا الحرمان لا أملَ من ورائه، ولا فائدةَ منَ الثّباتِ عليه، ومن ثمَّ فإنَّ الإنسانَ المختار لا يصبرُ على هذا، والصّبرُ على هذا لا يسمّى صبراً، ومن ثمَّ فإنّهُ ليسَ بمحمود، بل هوَ مذموم.

أمّا الصّبر: فهوَ أن تمتنعَ عن شيءٍ تهفو إليهِ نفسُك، لأنّكَ تعلم أنَّ استرجاعَ عافيتك متوقّفٌ على ذلك. تمتنع عنِ الطّيّبِ منَ الطّعام، لأنَّ الطّبيبَ حذّرك وكلامهُ عندكَ صدق، وقالَ لك: لن تعودَ إليكَ عافيتُكَ وصحّتك إلا إذا امتنعتَ من هذا الطّعام، هذا هو الصّبر.

الصّبر: هو أن تثبت على السّيرِ على القذاة، وأن تثبت على المغامراتِ في الطّرقِ الشّاقّةِ والعسيرة، لأنَّ ذلكَ هو السّبيلُ الوحيد للوصولِ إلى بلدك، وللاستقرارِ في بيتك. الصّبر: هو أن تثبت على مشاقِّ الغربة، وعلى الذّلِّ الذي تراهُ من أجلِ جمعِ المال، لأنّكَ لن تستطيعَ أن تجمعَ المال الذي ستعودُ بهِ إلى أهلك فتوسّعَ عليهم معيشتهم، إلا إذا صبرتَ على الضّنك، وصبرتَ على الغربة، هذا هو الصّبرُ المحمود.

إذاً الضّنك: حرمانٌ لا فائدةَ من ورائه ولا هدف. أمّا الصّبر: فحرمانٌ يتوخّى منهُ الإنسانُ أن ينالَ حقيقةً أسمى، وأن يتخلّصَ من بلاءٍ وشقاءٍ مبينين.

هذا هو الصّبرُ الذي أمرَ اللهُ عزَّ وجلّ به، أمّا ذلكَ الضّيم فذلكَ ما نهى اللهُ سبحانهُ وتعالى عنه.

وعندما تقرأُ في كتابِ اللهِ عزَّ وجلّ الآياتِ الكثيرة التي تذكّرُ الإنسانَ بضرورةِ الصّبر عن المعاصي، والصّبرِ على المصائب، فاعلم أنَّ البيانَ الإلهيّ ينمّي في كيانكَ الأمل بما وراءَ ذلكَ الصّبر، لا يريدُ من عبادهِ أن يحرموا أنفسهم من الطّيّباتِ لذات الحرمان، معاذَ الله، فهو الرّحيمُ بهم، الرّؤوفُ بهم، ولكنَّ ربّكَ سبحانهُ وتعالى يطبّبك، فهوَ يمنعك أن تنالَ ما تظنّهُ طيّباً وهو سمٌ يفتكُ بجسمك، يمنعكَ ربُّكَ سبحانهُ وتعالى أن تنحطَّ في مهايعِ الشّقاء، واللهوِ المحرّم، لأنّهُ ليسَ كما تتصوّرُ سبباً من أسبابِ السّعادة، إنّما هو سببٌ من أسبابِ الشِّقوةِ والضّياعِ والضّلال.

هذه الحقيقةُ ينبغي أن تكونَ ساطعة، فإذا عرفناها فلنسأل أنفسنا السؤالَ التالي: كيفَ السبيلُ إلى أن نصبر؟ وهذا هو العمودُ الفقريّ لإسلامِ المسلمِ لا سيّما في هذا العصر.

كيفَ يستطيعُ الشّابُّ أن يصبرَ عنِ المعاصي؟ وعلى المصائبِ التي يبتليهِ اللهُ عزَّ وجلّ بها؟ سبيلُ ذلكَ يا عبادَ الله باختصار: أن تعودَ إلى الإيمان وتقوّيَ جذورهُ في عقلكَ ونفسك. كلّما ازدادَ يقينُك باللهِ عزَّ وجلّ وما وعدكَ به، ازددتَ قدرةً على الصّبر. وكلّما ضَعُفَ يقينُكَ بالله ويقينُكَ بما وعدكَ به، أصبحَ الصّبرُ عليكَ أصعبَ وأشقّ.

فاعلم أنَّ بينَ الأمرينِ تلازماً كبيراً، وانظر إلى المثلِ التّالي: عندما تصابُ لا قدّرَ اللهُ بمرضٍ منَ الأمراض، ويأتيكَ طبيبٌ فيحذّرك من قائمةٍ من الأطعمةِ التي تشتهيها نفسُك، بمقدارِ ما تكونُ ثقتُكَ بالطّبيبِ موفورة، بمقدارِ ما تستطيعُ أن تصبرَ عن هذه الأطعمة، وبمقدارِ ما تكونُ ثقتُكَ بالطّبيبِ ضعيفة، بمقدارِ ما يسيلُ لعابُكَ وراءَ تلكَ الأطعمة، هذه حقيقةٌ لا ريبَ فيها.

إذاً نعود: بمقدارِ ما تتيقّنُ كلامَ ربّكَ سبحانهُ وتعالى وتعلمُ معنى قوله: ((وبشّرِ الصّابرين * الذينَ إذا أصابتهم مصيبةٌ قالوا إنّا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلواتٌ من ربّهم ورحمة وأولئكَ هم المهتدون))، بمقدارِ ما تستيقنُ هذا الوعدَ الإلهي، بمقدارِ ما يسهلُ عليكَ الصّبر. وحياتنا الدّنيويّة أمثلةٌ ساطعةٌ لهذه الحقيقة، والحديثُ عنها حديثٌ طويل، فَقِسْ آخرتكَ على دنياك، قس صبركَ على الغربة، صبركَ على العمل المسترذلِ في بلادٍ نائيةٍ عن أهلك بدافع الأمل أنّكَ ستعودُ إلى بلدتكَ بمالٍ وفير، قِسْ دينَكَ على دنياك كما تصبرُ على اللأواءِ هنا، فاصبر على ابتلاءاتِ اللهِ سبحانهُ وتعالى هنا، هذه حقيقةٌ لا ريبَ فيها.

ولكنَّ الإنسانَ الذي يخوض في هذه الحياة كتائهٍ ضائع، لا يعلمُ نهاية ولا يدركُ بداية خليقٌ به ألّا يصبر، خليقٌ بهِ ألا يؤمنَ إلا بلذّةِ السّاعة، وبلاء هذا الإنسانِ من نفسه، ومثّلتُ سابقاً هذينِ الإنسانين برجلينِ يسرانِ في نفقٍ مظلمٍ تحتَ الأرض، أمّا أحدهما فموقنٌ يقيناً تامّاً بأنَّ نهايةَ هذا النّفق واحةٌ خضراءُ فوّاحة يجدُ فيها كلَّ ما لذَّ وطاب. أمّا الثّاني فموقنٌ بأنَّ هذا النّفق مسدود ولا نهايةَ لهُ إلا هذا الظّلام. الأوّلُ يسير وكلّما سارَ أكثر شعرَ بالأملِ الأعظم، وشعرَ بالرّاحة. والثّاني يسير وكلّما سارَ أطبقَ الظّلامُ على صدره، وازدادَ اختناقاً، ولا بدَّ أن يؤولَ أمرهُ إلى الانتحار. وكلاهما يسيرانِ في طرقٍ واحد، يقينُ هذا بالنّهاية أسعدهُ حتّى وهوَ يسيرُ في ظلامه. وعدمُ يقينِ ذاك أشقاهُ حتى وهو يسيرُ في الطّريقِ ذاته.

هذا المعنى ينبغي أن نتلمّسهُ في أنفسنا. فيا أخي الشّاب إذا كنتَ لا تستطيعُ أن تصبرَ على الشّهواتِ التي تتربّصُ من حولِكَ، فتلمّس مكمنَ الإيمانِ بينَ جوانحك، عد إلى الإيمانِ بربّك فلسوفَ تراهُ ضعيفاً، قوِّ جذورَ إيمانِكَ بالله ذكراً له، قراءةً لكتابه، تأملاً واعتباراً بما في هذا الكونِ من مظاهرِ عظمته، نمِّ حبّكَ لمولاكَ بينَ جوانحك، عُد بعدَ ذلك فلسوفَ تجد نفسكَ قد قويت على الصّبر، والشّكرُ الذي يتحدّثُ عنهُ النّاس كأمرٍ يسيرُ معَ الصبر لا حقيقةَ لهُ إلا معَ الصّبرِ ذاته، فلا وجودَ للشُّكرِ إلا بالصّبر، وإذاً فالحقيقةُ واحدة: الإيمانُ والصّبرُ فقط، ما الشّكر؟ أن يستعملَ الإنسانُ نِعَمَ الله فيما خلقهُ اللهُ من أجله، هل تستطيعُ أن تفعلَ ذلكَ إلا بالصّبر؟ فلا شكرَ بدونِ صبر، ولا ثباتَ على الإيمانِ بدونِ صبر، ولا وصولَ إلى ما أعدّهُ اللهُ لكَ من سعادةٍ إلا بالصّبر، أسألُ الله عزَّ وجلّ أن يجعلنا من الصّابرين وأن نحييَ آمالنا برحمتهِ وكرمهِ وغفرانه، إنّهُ الرّبُّ السّميعُ المجيب، فاستغفروهُ يغفر لكم.

تحميل



تشغيل

صوتي