مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 29/06/1984

قِيَم في ديننا تغني عن قيم الغرب المزيفة

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

إذا تأمَّلنا في مُجمَلِ أحكامِ الدّينِ وواجباتِ الشَّريعةِ الإسلاميةَّ، لرأينا أن هذه الواجباتِ والأحكامَ كلَّها تدورُ على محورِ شيءٍ واحد، ألا وهوَ الرَّحِمُ الإنسانيّ، إقامةُ الرَّحمِ الإنسانيِّ على أقومِ صلة، وعلى أرسخِ نظام، فالعقيدةُ التي أمرنا اللهُ عزَّ وجلّ أن ندينَ بها، والأوامرُ التي كلَّفنا اللهُ عزَّ وجلَّ أن نخضعَ لها، والنواهي التي حذرنا اللهُ سبحانهُ وتعالى من مغبتها، كلُّ ذلكَ خدمة للأُسْرَةِ الإنسانيّة، وكلُّ ذلكَ في سبيلِ أن تقومَ وشيجة الإنسانيَّةِ على أوفقِ نظام.

كيفَ لا؟ وقد رُويَ عنِ الصَّدقِ المصدوقِ عليهِ الصلاةُ والسلام فيما رواهُ الطَّبرانيُّ في الكبيرِ والأوسط، والبيهقيُّ في شُعَبِ الإيمانِ مرفوعاً، أنَّهُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ قال: "الخلقُ كلُّهم عيالُ الله، فأحبُّ الخلقِ إلى اللهِ أنفَعُهُم لعيالِه"، وحسبنا في هذا أن نمثلَ أمامَ قولِ اللهِ عزَّ وجلّ: (يا أيها النّاسُ اتَّقوا ربَّكمُ الذي خلقكم من نفسٍ واحدة وخلقَ منها زوجها وبثَّ منهما رجالاً كثيراً ونساءاً واتّقوا اللهَ الذي تساءَلونَ بهِ والأرحام إنَّ اللهَ كانَ عليكم رقيباً)، قرنَ اللهُ عزَّ وجلّ تقوى الرَّحِم بتقوى ذاته، فأمرَ - عزَّ من قائل - أمرَ عبادهُ بأن يتَّقوا الأرحام، في الوقتِ الذي كلَّفهم بتقوى اللهِ سبحانهُ وتعالى، إلا أنَّ إقامةَ الأسرةِ الإنسانيَّةِ على منهجٍ سويّ، وتحقيقِ صلةِ التآلفِ بينَ آحادِ النَّاسِ وأفرادِ المجتمعِ الإنساني، لا يتحقَّقُ إلا من وراءِ ثلاثِ مراحل.

المرحلةُ الأولى: تهذيبُ النفسِ الإنسانية وتزكيةُ الإنسانِ من سائرِ الأوطار، وسائرِ الأمراضِ النفسيّةِ والقلبيّةِ المختلفة، فهذهِ هي المرحلةُ الأولى.

المرحلةُ الثانية: ترسيخُ قواعدِ الأسرة، ونظامها الإنسانيِّ الدَّقيق، وهذهِ هي المرحلةُ الثانية.

أمَّا المرحلةُ الثالثة: فتتمثَّلُ في وضعِ الأنظمةِ الدَّقيقة، التي تربطُ النَّاسَ بعضهم ببعض بوسيلةِ الألفةِ والمحبَّة، تلكَ الأحكامُ التي تضمنُ أن تزولَ السخائم من القلوب، وأن تزولَ الأحقادُ والأضغانُ من النفوس.

ولذلك .. فنحنُ إذا نظرنا إلى مجملِ أحكامِ الشريعةِ الإسلاميَّة وتأمَّلناها مليَّاً، نجدها تنقسمُ إلى ثلاثةِ أقسام: أحكامٍ تتعلَّقُ بتزكيةِ الإنسانِ نفسَه، تتعلَقُ بتهذيبِ الفرد وتربيته، أحكامٍ أخرى تتعلَقُ بالأسرة وتنظيمها، وإقامةِ علاقةِ أفرادها على أساسٍ دقيق منَ الصلةِ الإنسانيَّةِ السليمة، القسمُ الثالث: أحكامٌ تتعلَّقُ بمجملِ الناس وما ينبغي أن تنهضَ علاقاتُ الناسِ بعضهم مع بعض، فانظر يا أخي المسلم، إلى مدى رحمةِ اللهِ بعباده، عندما شرعَ لهم دينه، وعندما أحبَّ لهم أن يلتزموا بأحكامه، وعندما قال لهم عزَّ من قائل: (اليومَ أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكمُ الإسلام ديناً)، هل من هديَّةٍ يحقُّ للإنسانِ أن يفخرَ بها، ويرفعَ الرأسَ بها عالياً، أعظمُ من هذه الهديَّة؟

تلكَ الهديَّة، التي لا ضمانةَ غيرها، ولا يمكن للإنسانِ أن يجدَ عنها بديلاً، تلكَ الهديَّة التي تضمن أن يتحوَّلَ المجتمعُ الإنسانيُّ المتصارعُ المتعادي، إلى أسرةٍ إنسانيّةٍ متوائمة، ومترابطةٍ بِوشيجة الألفةِ والمحبّة.

وعندما ننظر في استعراضٍ سريعٍ إلى هذه الأحكام، نجدُ أمراً عجيباً، ونجدُ أحكاماً دقيقة، لم ترقَ إليها علومُ الاجتماعِ قَطْ، ولم يستطع علماءُ التربيةِ أن يصعدوا بعقولهم إلى مستوى دقّتها، إذ جعلَ اللهُ عزَّ وجلّ تهذيبَ الإنسانِ نفسهُ أوَّل درجةٍ في هذا السلَّم، ثمَّ جعلَ من تماسُكِ الأسرة وترابطِ أفرادها الدَّرجةَ الثّانية، فإذا قفزَ الإنسانُ فوقَ هاتينِ الدَّرجتين، فلسوفَ يخرُّ صريعاً، ولن يجدَ وسيلةً إلى تحقيقِ الهدفِ الذي قد يطمحُ إليه، في إقامةِ مجتمعٍ إنسانيًّ سليمٍ.

ومن عَجَبٍ أنَّكَ تنظرُ إلى الأسرةِ المسلمة، فتجدُ المقياسَ التالي:

كلَّما كانَ أفرادُ هذه الأسرة أكثرَ التزاماً بدينِ الله، كلَّما رأيتَ هذه الأسرةَ أكثرَ تماسكاً، وأكثرَ ترابطاً، وأكثرَ سعادة. وكلَّما رأيتَ أفرادَ هذه الأسرة أكثرَ بعداً عن دينِ اللهِ عزَّ وجلّ، وشتاتاً عن التزامِ أمره، رأيتَ هذه الأسرة أكثرَ تميُّعاً، وأكثرَ شتاتاً، وأبعدَ عن حمى السَّعادةِ وظلالها الوارفة.

ودونكم فانظروا .. فانظروا إلى المجتمعاتِ الإنسانيّة، البعيدةِ عن الدّين، والقريبةِ إلى ما يسمّى بالحضارة، هل هنالك معنىً للأسرةِ في تلكَ المجتمعات؟ أسرها متفسخة متفككة، لا يتعرَّفُ ابنٌ على أب، ولا يتعرَّفُ ولدٌ على أم، ولا يعرفُ أخٌ أخاه، أسرٌ متمزّقة، لم تغنهمُ الحضارةُ عندما فقدوا الدين، ولم تغنهمُ المدنيّة عندما تشتّتوا، وابتعدوا عن ظلالِ دينِ اللهِ سبحانهُ وتعالى.

في سبيلِ هذا، أقامَ اللهُ أحكامهُ لنا، وأمرنا بالانضباطِ بها، فجعلَ سيّدَ الأسرة الأبوين، ولا يمكنُ أن تجدَ واحداً من أفرادِ الأسرة يتعالى إلى مستوى هذهِ السيادة، نعم، ألم تسمعوا كلامَ اللهِ عزَّ وجل؟ (وقضى ربكَ ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدينِ إحساناً إما يبلغنَّ عندكَ الكبرَ أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أفٍّ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً)، وقد شرحَ رسولُ الله عليهِ الصلاةُ والسلام طرفاً من معنى هذه الآيةِ العظيمة، عندما أجابَ على سؤالِ سائل جاءَ يقولُ لهُ يا رسولَ الله، أيُّ الناسِ أحقُّ بصحابتي؟ انظروا إلى السؤالِ الدقيق، أيُّ الناس؟ دخلَ في هذا الاستفهام الزوجة، والزوج، والأولاد، والإخوة، والأبوان، والأصدقاء، والعشيرة، أيُّ الناسِ أحقُّ بصحابتي؟ قالَ: أمُّك، قالَ ثمَّ من؟ قالَ: أمُّك، قالَ: ثمَّ من؟ قالَ: أمُّك، قالَ: ثمَّ من؟ قالَ: ثمَّ أبوك.

وهذا معنى قولنا: أنَّ الأبوين قد خصهما اللهُ عزَّ وجلّ في دائرةِ الأسرة بسيادةٍ لا يرقى إلى مستواها أحدُ أفرادِ الأسرةِ قط.

وقد روى الطبراني وروى الترمذيُّ وابنُ ماجه عن أبي الدرداء رضيَ اللهُ عنه أانَّ رجلاً جاءَ يقولُ له: إنَّ أبي ما زالَ بي حتّى زوَّجني، ثمَّ إنهُ اليومَ يأمرني أن أطلقَ زوجتي، فماذا أفعل؟ قالَ لهُ أبو الدرداء: أما إني لا آمركَ بأن تعقَّ أباك، ولا آمركَ بأن تطلِّقَ زوجتك، ولكن إن شئت، أخبرتكَ بما قالهُ رسولُ الله صلى اللهُ عليهِ وسلَّم: " إنَّ أوسط أبوابِ الجنّة برُّ الوالدين"، فإن شئت، فادخل من هذا البابِ إلى الجنّة، وإن شئت فدعه.

وقد وقعَ هذا الأمرُ بما هوَ أوضح، تزوَّجَ ابنُ عمر من امرأةٍ كانَ يكرهُها عمرُ رضيَ اللهُ عنه، فقالَ عمرُ لابنهِ طلّقها، وارتفعتِ المسألةُ إلى رسولِ الله، وقال عمرُ ذلكَ لرسولِ الله، وابنُ عمرَ جالس، فالتفتَ رسولُ اللهِ إلى ابنِ عمرَ فقالَ لهُ: نَعَمْ طلِّقها.

وهذا ما ينبغي أن يُفهَمَ يا عبادَ الله، على أنَّ للوالدينِ أن يتعسفا، في أمرِ ابنهما بأمرٍ من هذا القبيل، لا، ولكن انظروا إلى دقَّةِ الشرعِ ودقّةِ أحكامِ الشارع، إنَّ اللهَ عزَّ وجلّ، عندما أمرَ الأولادَ ببرِّ الآباءِ إلى هذهِ الدَّرجة، في الوقتِ ذاتهِ أمرَ الآباء، أن يصطبغوا بدينِ الله، وأن يقيموا علاقاتهم مع أولادهم على أساسٍ من موازينِ الشريعة، فإذا كانتِ الأسرةُ متدينة، وإذا كانَ الوالدُ مصطبغاً بدينِ الله، فإنهُ لا يخشى منهُ ظلمٌ ولا جَور، عندما يعطيهِ اللهُ عزَّ وجلّ هذه الصلاحية، وعندما يأمرُ الأولاد بأن يذهبوا في برِّهِمْ بآبائهم إلى هذه الدرجة، نعم الوالدان هما عصبُ الأسرة، وهما العمودُ الفقريُّ فيها، وكلُّ أعضاءِ الأسرة إنما يدورونَ على محورِ هذا العمودِ الفقريّ الذي إن ماعَ وزال، ماعتِ الأسرةُ من وراءِ ذلك، نعم، هنالكَ شيءٌ واحدٌ يستثنى من هذا الحكمِ الشاملِ العام، ألا وهيَ الحقوق المادّيَّةُ العينيّة. فإنَّ اللهَ عزَّ وجلّ، جعلَ حقَّ الزوجةِ مقدَّماً على حقِّ الأبوينِ والأولادِ في ذلك، لا فيما يتعلَّقُ بالبر، ولكن فيما يتعلَّقُ بالحقوقِ العينية، سألَ رجلٌ رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم فقال: يا رسولَ الله، أرأيتَ لو كانَ لي درهمٌ ماذا أصنعُ به؟ قالَ: أنفقهُ على نفسك، قال: فإن كانَ لي درهمٌ ثانٍ؟ قالَ: فعلى زوجك، قالَ فإن كان لي درهمٌ ثالث؟ قالَ: فعلى أولادك، قالَ: فإن كانَ لي درهمٌ رابع؟ قالَ: فعلى أبويك.

هذا شيءٌ لا علاقةَ لهُ بالبرِّ أبداً، البرّ، ينهضُ على حكمٍ تربويٍّ دقيق، وقاعدةٍ اجتماعيّةٍ هامّة، ومن ثمَّ فإنَّ الأبوين هما أساسُ البرّ، وإذا ذهبَ برُّ الوالدين، لم ينفع برُّ زوجةٍ ولا برُّ أولادٍ ولا إخوةٍ من بعدِ ذلك.

عبادَ الله: عندما أقولُ لكم هذا الكلام، إنما أهدفُ من وراءِ ذلكَ إلى شيءٍ واحد، هو أن نرفعَ الرأسَ عالياً بديننا، هو أن نستشعر أنَّ أعظمَ عزّةٍ مُتِّعنا بها هيَ عزَّةُ هذا التاج، وما التَّاجُ الذي يستأهلُ أن نرفعَ رأسنا بهِ عالياً، إلا تاجُ هذا الدينِ الذي شرَّفنا اللهُ عزَّ وجلَّ به؟ إذا أتيحَ للإنسان أن يعتزَّ بهذا الإسلامِ العظيم، وأن يعلمَ أنهُ استوعبَ جميعَ علومِ الاجتماع، وجميعَ علومِ التربية، وجميعَ علومِ التشريعات، وجميعَ الأدويةِ التي تعالجُ الإنسان كفردٍ وكمجتمع، فإنَّ الإنسان لا يلتفتُ إلى يمينٍ ولا إلى يسار، لا يقلّدُ شرقاً ولا غرباً، كيف؟ كيفَ يتركُ ربَّهُ عزَّ وجلّ؟ الذي شرَّفهُ بأن وصلهُ به، عندما عرَّفهُ بذاته، يضيَّعُ هذا الشَّرف، ويلقي هذا التاج، لكي يبحثَ عنِ القمامةِ فوقَ المزابل أي والله، يبحثُ عنِ القمامةِ فوقَ المزابل، يدعُ البرّ، برَّ الأبوين كما قالَ اللهُ سبحانهُ وتعالى، ويبحثُ عن قمامةٍ في تقليدِ الغربيين، يسمع أنَّ الغربيين جعلوا في السنةِ يوماً اسمهُ يومُ الأم، فنقلدُ ذلكَ المجتمعَ بهذا الشكل، وننسى أن نتشرَّفَ وأن نرفعَ الرأسَ عالياً لاصطباغنا بدينِ اللهِ عزَّ وجلّ، وينسى هؤلاءِ الأذلَّاء نعم الأذلَّاء، المهينون عندَ أنفسهم، أنَّ الغرب، ما الذي دفعهم ليجعلوا يوماً اسمهُ يومُ الأم؟ شيءٌ واحدٌ دفعهم إلى ذلك: تمييعهم للأسرة، تضييعهم لحقوقِ الآباء، ولذلك فإنهم يحاولون أن يشدُّوا الأولادَ والشبابَ إلى آبائهم ولو في العامِ مرَّة.

أمَّا ديننا فقد علَّمنا ألا نعيشَ إلا في ظلالِ البرّ، وألا ندخل حياتنا إلا من معينِ هذا البرّ، فارفعوا رؤوسكم عالياً بدينكم يا عبادَ الله، ولا تبتغوا عن دينِ اللهِ بديلاً، وإياكم أن تبتعدوا عن شرعةِ الله شروى نقير، فإنكم إن ضيعتم هذا الشرف، شقيتم شقاءً لا سعادةَ من بعدهِ قَطْ، أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيم، فاستغفروهُ يغفر لكم.

تحميل



تشغيل

صوتي