مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 02/03/1984

كيف يفيض قلبك حباً لله ومخافة منه ؟

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

فإنك تسألني يا أخي المسلم، وتشكو إليَّ أنّكَ مؤمنٌ بالله سبحانهُ وتعالى، ولكنَّكَ تبحثُ عن أقصرِ طريقٍ إلى أن يفيضَ قلبُكَ حبّاً لله، وأن يفيضَ فؤادُكَ هذا مخافةً منهُ في الوقتِ ذاته، فكيفَ السّبيلُ إلى ذلك؟

أقولُ بكلمةٍ جامعةٍ مختصرة، إذا تذكّرتَ فضلَ اللهِ عليك فاضَ قلبُكَ حبّاً للهِ سبحانهُ وتعالى، وإذا تذَّكرتَ موقفكَ بينَ يديه فاضَ قلبُكَ خشيةً منَ اللهِ تعالى.

فتذكَّر دائماً عظيمَ فضلِ اللهِ سبحانهُ وتعالى عليك ليمتلئَ قلبُكَ حبّاً له، وتذكّر دائماً وقفتكَ العظيمةَ بينَ يديه، وأنتَ مقبلٌ عليها ما في بالكَ ريب، ليمتلئَ فؤادُكَ خشيةً منَ اللهِ سبحانهُ وتعالى.

ولا يسيرُ المؤمنُ إلى الله إلا بقدمينِ منَ الحبِّ والخوفِ معاً، فإن أحبَّ ولم يَخَفِ اللهَ سبحانهُ وتعالى لم يَصِلْ، وإن خافَ الله سبحانهُ وتعالى ولم يُحِبَّه، تقطّعتْ بهِ السُّبُلُ أيضاً.

تذكَّر فضلَ الله عليك، تساءَل من الذي يُنعِمُ عليك بالنِّعَمِ الظّاهرةِ والخفيّة؟ منِ الذي يُحيطُكَ بالعناية؟ منِ الذي يرعاكَ في نومك؟ ويرعاكَ في يقظتكْ؟

منِ الذي يجعلُكَ إذا مشيت تمشي باستقامة؟ وإذا جلستَ تجلسُ بطمأنينة؟ وإذا مضغتَ الطّعامَ مضغتهُ على الوجهِ السّويّ؟ وإذا ابتلعتهُ لم تختنق به؟ وإذا نزلَ الطّعامُ إلى معدتك، تفاعلتِ المعدةُ مع هذا الطّعامِ على الوجهِ الذي يريحُكْ؟ وعلى الوجهِ الذي يُمِدُّكَ صحّةً إثرَ صحّة؟

منِ الذي ُيُمَتِّعُكَ بِنعيمِ الرُّقاد؟ ومنِ الذي يُمتِّعُكَ براحةِ اليقظةِ بعدَ ذلك؟ منِ الذي يجعلُكَ بعيداً عنِ الأخطارِ التي تُحدِقُ بك، وما أكثرها وأنتَ لا تتنبَّهُ إليها، وقصارى ما في هذا، عليكَ أن تذكُرَ قولَ الله عزَّ وجلّ: (لهُ مُعقِّباتٌ من بينِ يديهِ ومن خلفهِ يحفظونهُ من أمرِ الله)، يحفظونَ العبدَ حفظاً آتياً من أمرِ اللهِ سبحانهُ وتعالى، ولئن لم تكن ترى هؤلاءِ الحفظة، فإنَّ بوسعكَ أن تراهم بعقلك، وأن تراهم ببصيرتك، وكم قلنا في مثلِ هذه المناسبات: إنَّ الإنسانَ ينفعلُ بطاقاتهِ وملكاتِه التي وهبهُ اللهُ إيّاها، ولا يفعلُها، فهوَ لا يدري كيفَ أكرمهُ اللهُ عزَّ وجلَّ بقدراته، لأنّهُ ليسَ صاحبَ هذه القُدُرات، وغداً ستذهبُ هذه القُدرات إذا انتهت وظيفتُها وحانَ أن يأخذَ صاحبُ الأمانةِ أمانته، ولا تعلمُ كيفَ ذهبت منكَ هذه الطّاقاتُ كلُّها.

ما أغربَ أمرَ الإنسان عندما يسألُ كيفَ أحبُّ اللهَ عزَّ وجلّ؟ وهذا الإنسانُ نفسُه إن شعرَ أنَّ رجلاً من النّاسِ أكرمهُ بِنعمةٍ عابرة، غبر حياتهُ كلّها وهو يحمدهُ على هذه النّعمة، إذا ذكرهُ وذكرها اهتزَّ قلبهُ حبّاً لذلكَ الرّجل.

ومولاك؟ الذي أنعمَ عليكَ بالخلقِ أولاً، وأنعمَ عليكَ بمددِ استمرارِ هذا الوجودِ ثانياً، ورعاكَ ولا رعايةَ الأمِّ لطفلها، تحتاجُ إلى معرفةِ سبيلٍ لكي تسلكهُ فتصلَ منهُ إلى حبّكَ له.

الطّفلُ معذور إن هو لم يعلم أنَّ أمّهُ هي التي ترعاه، لأنّهُ لا يملكُ عقلاً، ولكنَّ الإنسانَ السّويَّ الرّشيدَ العاقل ليسَ معذوراً عندما يرى نفسهُ كطفلٍ صغير يعيشُ في مهدٍ من كرمِ اللهِ سبحانهُ وتعالى ورعايته. نعم، تذكّر دائماً فضلَ اللهِ عزَّ وجلَّ عليك، وتذكّر وأنتَ تمشي كيفَ يقوِّمُ اللهُ عزَّ وجلّ جذعكَ فلا تترنّحُ وتقع، وتذكّر والطّعامُ ممدودٌ على مائدتهِ بينَ يديك كيفَ هيَّءَ اللهُ عزَّ وجلَّ لكَ هذا كلّه، وتذكّر وأنتَ تمدُّ يدكَ إلى شرابك وإلى طعامك وأنتَ تتكلّمُ وتأكلُ وتشربُ وتركضُ وتتيقّظ، تذكّر من الذي يفعلُ كلَّ هذا بك، يمتلئ قلبُكَ حبّاً للمنعمِ الذي هوَ اللهُ سبحانهُ وتعالى.

فإذا أردتَ أن تتوّجَ حبّكَ هذا بالخوفِ منه، والخشيةِ من عظمته، فتذكّر، تذكّر سلسلةً منَ المواقفِ أنتَ قادمٌ عليها ولا ريب، تذكّر أولاً ضجعةَ الموت، عندما تمتدُّ على فراشه، وقد نفضتَ يديكَ من دنياك، وذاكَ هوَ معنى قولِ اللهِ عزَّ وجلّ: (وجاءت سكرةُ الموتِ بالحقّ ذلكَ ما كنتَ منهُ تحيد)، في تلكَ السّاعة تصغرُ الدّنيا التي طالما كنتَ تعظّمها في عينك، ويَعظُمُ الإلهُ العظيم الذي طالما كنتَ تنساهُ في تقلّباتك، ولكن لا هذا التّعظيم يفيدُكَ آنذاك، ولا ذلكَ التّحقير يفيدُكَ آنذاك.

وإنّما عليكَ أن تعلمَ الآن وقائعَ تلكَ السّاعة، ومشاعرها التي ستنتابك، تذكّر بعدَ ذلكَ الموت والرّقادَ في القبر. ألم تقف يوماً ما على شفيرِ قبرٍ وقد حُمِلتِ الجنازة إلى مقرّها الأخير؟ ألم تمعن بعينيك بالميّت وهم يسللونهُ من تابوتهِ ويمدّونهُ في لحده؟ وليسَ معهُ من كلِّ ما جمعَ فأوعى إلا كفنُه؟ ماذا ينتابُكَ في تلكَ السّاعة؟ ألا تتقزّزُ تلكَ السّاعة منَ الدّنيا والمعاصي والشّهواتِ التي تعكف عليها؟ ألا تشعر بأنَّ بينكّ وبينَ هذه الحفرة ربّما ساعات أو دقائق؟

ثمَّ تذكّر بعدَ ذلك اليقظةَ الثّانية، نعم اليقظةَ الثّانية، والموت ليسَ نهايةَ النّهايات، وإنما هي المرحلةُ إلى تلكَ اليقظةِ الكبرى، تذكّر في ذلكَ قولَ الله عزَّ وجلّ: (فإذا نُقِرَ في النّاقور فذلكَ يومئذٍ يومٌ عسير على الكافرينَ غيرُ يسير).

تذكّر ذلكَ المشهدَ العظيم الذي يقولُ عنهُ ربّنا سبحانهُ وتعالى: (فاصبر صبراً جميلاً * إنّهُ يرونهُ بعيداً * ونراهُ قريباً * يومَ تكونُ السّماءُ كالمهل * وتكونُ الجبالُ كالعهن * ولا يسألُ حميمٌ حميما * يُبَصَّرونهم يودُّ المجرمُ لو يفتدي من عذابِ يومِئذٍ ببنيه * وصاحبتهِ وأخيه * وفصيلتهِ التي تؤيه * ومن في الأرضِ جميعاً ثمَّ ينجيه * كلا إنها لظى). تذكّر ذلكَ اليوم الذي أنتَ مقبلٌ عليهِ ولا ريب.

ثمَّ تذكّر وقفةَ الحساب أمامَ اللهِ سبحانهُ وتعالى، وتلكَ هي الوقفةُ العظمى، تذكّر في ذلكَ قولَ اللهِ عزَّ وجلّ: (فوربّكَ لنسألنّهم أجمعين عمّا كانوا يعملون)، أما وقفتَ أمامَ هذه الآيةِ العظيمةِ على صغرها وعلى إيجازها يوماً؟ (فوربّكَ)، يُقسِمُ اللهُ عزَّ وجلّ: (فوربِّكَ لنسألنّهم أجمعين): الصّالحَ والطّالح، الفاسقَ والعدل (عمّا كانوا يعملون)، نعم.

يقولُ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم: "لا تزولُ قدما عبدٍ يومَ القيامة حتّى يُسأَلَ عن أربع: عن عمرهِ فيمَا أفناه، وعن علمهِ ما عملَ به، وعن مالهِ من أينَ اكتسبه، وعن جسدهِ فيمَ أبلاه". لتُسأَلنَّ يا أخي المسلم عن هذه الأمورِ الأربعة، فاسأل نفسكَ عنها قبلَ أن يسألكَ عنها ربُّنا سبحانهُ وتعالى.

اذكر ذلكَ المشهد ثمَّ اذكر بعده: السّيرَ على الصّراط بعدَ الحساب، الصّراط وما أدراكَ ما الصّراط؟ يقولُ عنهُ رسولنا صلّى اللهُ عليه وسلّم: "ثمَّ ينصبُ الصّراط على متن جهنم، وإنّهُ لأدقُّ منَ الشّعرةِ وأحدُّ منَ السّيف" ويطلب منك أن تمر على هذا الطريق، فهل جرّبتَ ذاتَ يومٍ أن تمرَّ على هذا الطّريق؟ فهل جرّبتَ ذاتَ يومٍ أن تمرَّ على حافّةِ سطحِ بناء ولم تترنّح؟ فكيفَ بكَ إذا دعيتَ أن تسيرَ على طريقٍ هكذا يصفهُ رسولُ الله فيما اتّفقَ عليهِ الشّيخان؟ "أدقُّ من الشّعرةِ وأحدُّ منَ السّيف"، ولكنّهُ يتّسع قدرَ ما كانَ يضيِّقُّ العبدُ على نفسهِ في الدّنيا ابتغاءَ مرضاةِ الله عزَّ وجل.

فانظرِ اليوم كم تضيِّقُ على نفسك في طريقكَ إلى الشهواتِ والأهواء من أجلِ أن ترضيَ ربّك ولو كانَ ذلكَ على حسابِ شهواتك؟ بمقدارِ ما تضيّقُ اليومَ على نفسكَ في سبيلِ أن يرضى عنكَ مولاك، يوسّعُ اللهُ سبحانهُ وتعالى من ذلكَ الطّريقِ الضيّقِ غداً.

وإذا مرَّ المؤمنُ على هذا الطّريق وهو يحملُ زاده الذي كانَ قد نهضَ به في دارِ الدّنيا، على أساسٍ من حبِّ الله عزَّ وجلَّ وخوفه، قالت لهُ النّارُ بكلامٍ فصيحٍ بيّن: جز يا مؤمن، جز يا مؤمن فإنَّ نورَ إيمانكَ قد أطفاَ لهبي.

ألا يكفي هذا كلّه من أجلِ أن يمتلِئَ قلبُكَ حبّاً للهِ أولاً، ثمَّ مخافةً منهُ ثانياً يا أخي المسلم؟

تذكّرِ المنعم وانظر منِ الذي يكرمك بجلائلِ النّعم؟ ومنِ الذي يفيضُ عليك بالمكارمِ الخفيّةِ والظّاهرة، واذكر قولَ الله عزَّ وجلّ: ((وأسبغَ عليكم نعمهُ ظاهرةً وباطنة))، تذكّر هذا وكن دائماً على ذُكرٍ من ذلك، فإنَّ النّفوسَ جُبلت على حبِّ من أحسنَ إليها.

ثمَّ تذكّر: مراحلَ حياتكَ التي أنت مقبلٌ عليها، فوالله: ما فكّرَ إنسانٌ في هذا وذاك وهو متجرّدٌ عنِ العصبيّاتِ والأهواء، إلا وامتلأَ قلبهُ حبّاً للهِ ومخافةً منه، وهذا هو خيرُ عونٍ لهُ في الطّريقِ أن لا يعصيَ الله، وإذا عصى اللهَ أن يسرعَ فيتوبَ إليه، وإذا تابَ إليهِ عاهدهُ أن لا يعودَ إلى تلك المعاصي أبداً، أقولُ قولي هذا وأسألُ اللهَ سبحانهُ وتعالى أن يملأَ قلبي وقلوبكم حبّاً للهِ عزَّ وجلّ وخشيةً منه، فاستغفروهُ يغفر لكم.

تحميل



تشغيل

صوتي