مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 12/03/1982

واقع المسلمين والفتن

تاريخ الخطبة

‏‏الجمعة 12/03/1982‏

واقع المسلمين والفتن

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله. خير نبي أرسله. أرسله الله إلى العالم كلِّهِ بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى. وأسألك اللهم أن تلهمني السداد والرشد وأن ترزقني الإخلاص في القول والعمل يا رب العالمين.

أما بعد فيا عباد الله:

إنه لا يمكن إذا نزلت الفتن وادلهمت المحن لا يمكن للإنسان الخلاص منها إلا أن يعكف بهدوء على معرفة قانون الله عز وجل في الكون ونظامه المتبع في عباده، لا يجزي إلا أن يبدأ الإنسان أولاً فيجدد يقينه بأنه عبدٌ ذليل لمالكه ومولاه وأن مالكه يتصرف به كيفما يشاء. ثانياً أن يعلم نظام الله عز وجل في عباده، فإذا علم ذلك أراح واستراح. وما هو نظام الله عز وجل في عباده؟ بعد يقيننا أننا عبيدٌ لله عز وجل نظام الله سبحانه وتعالى أو أنظمته عز وجل في عباده أنه يعاقب الناس في الدنيا على أساس جماعي وإن كان المذنبون والمستحقون للعقاب بعضاً منهم ويقينهم إذا حشرهم يوم القيامة حشرهم على نياتهم، ألم تسمعوا قول الله سبحانه وتعالى وهو يقول في محكم كتابه:

(وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً).

أولم تسمعوا قول سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام لزينب وقد سألته: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال لها: (نعم إذا كَثُرَ الخبث).

أولم تسمعوا قوله فيما يرويه مسلم عن عبد الله بن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أراد الله بقومٍ عذاباً عمَّهَم بالعذاب ثم حشرهم على نياتهم).

إذاً هذا هو قانون الله عز وجل، ولن تجد لنظام الله عز وجل من تبديل في عصر من العصور، بدءاً من عصر الرسل والأنبياء إلى يومنا هذا إلى أن تقوم الساعة. ألا تذكرون يوم أحد، يوم قاتل رسول الله ومعه صحابته الكرام فلول المشركين، خطيئة صغيرة وقع فيها فلول من الصحابة لا يزيدون على خمسين من أصل ما يقارب الألفين فماذا كانت نتيجة خطيئة مساحتها لا تزيد على خمسين جندياً من أصحاب رسول الله؟ عمَّتْ آثار هذه الخطيئة وعقابها الرباني عموم الجند بما فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قُتِلَ من خيرة الصحابة ما يزيد على سبعين، وألقي رسول الله في كمين وشُجَّ وجهه وكُسِرَت رباعيته، وأصاب المسلمين زلزال شديد ما أصيبوا به من قبل ولا من بعد، فهل شفع لأولئك الصحابة ضد هذا القانون الذي لا يتغير أن رسول الله كان فيهم؟ لا. إذاً فهذا القانون ساري المفعول دائماً. وهنا يتساءل بعض الناس وهل فينا اليوم خبث كثير حتى يعمنا الله بهذا العذاب، أوليس المسلمون بخير، أوليس المصلون يملئون المساجد، هذا ما يقوله كثيرٌ من الناس، ولكن كم قلت يا عباد الله وكم أعدت القول وسأعيده اليوم بأننا ننظر إلى القلة وتغيب أذهاننا عن الكثرة، ولو نظرت إلى الكثرة لرأيت الفساد هو المستشري وهو الغلاب ويجب علينا أن نعلم ذلك وأن لا نغتر ببعض الصور أبداً. وأحب اليوم أن أضع النقاط على الحروف حتى لا تكثر الأسئلة بعد اليوم في هذا وحتى تعلموا أن وراء هذه الأسباب الظاهرة للمحن جذورٌ من إرادة الله عز وجل وقانونه في عباده فلا تقفوا عند الأسباب الظاهرة وارجعوا إلى الجذور الراسخة الخفية. هذه الأمة استشرى فيها الفساد سواء من الناحية الأخلاقية والتفسخ الطغياني بسبب المادة، وسواء من حيث ظلم الناس بعضهم لبعض وتربصهم ببعض، وسواء من حيث تمزيق حقوق الله عز وجل وتضييعها، وكأني بكم تطلبون الشواهد، وما جئت قبل اليوم بشواهد ولكني سآتي اليوم بشواهد نماذج، ولو شئت لألفت من هذه النماذج الواقعية كتاباً.

أما فيما يتعلق بطغيان المادة وأثر ذلك على التفسخ الأخلاقي فإليكم هذا النموذج، رجل من أغنياء هذه الأمة في هذه البلدة، مصلٍّ، يركض إلى الحج، وحج إلى بيت الله أكثر من مرة، قال له بعض أصحابه مذكراً: إن ابنك يرتكب الفواحش وإنه يستعمل مالك في ارتكاب كثيرٍ من المحرمات والانحرافات الجنسية، فقال الوالد: لقد رأيت على وجه ابني الغنى ولذلك فلم أعاتبه على فعل يفعله ولا أسمح بمن يتحدث على ابني بسوء فقد رأيت على وجهه الغنى، نعم هكذا قال هذا الرجل الذي يركض إلى الحج إلى بيت الله الحرام فماذا عسى أن يقول من لا يعلم صلاة ولا حجاً وهم كثيرون؟ نعم، لا يرى أن من واجب الشاب في هذه الدنيا إلا أن يكدح من أجل الرزق فإذا وجد أبوه أنه استغنى على وجهه أو من قفاه فهذا هو المطلوب ولا يراد منه بعد ذلك شيء آخر.

وإليكم هذا النموذج الثاني فيما يتعلق بتربص الناس بعضهم ببعض وأكل بعضهم حقوق بعض، رجل له دار يكسوها وهو يسكن خلال ذلك في دارٍ بالأجرة وجاء صاحب الدار المستأجَرَة يطلب داره لظروف اضطرارية، ووقع الرجل في مأزق، جاءه صديق لهم شهم قال له يا هذا، لماذا تتألم، لي دار مغلقة تعال فاسكن فيها ريثما تتم دارك التي تكسوها، وشكره هذا الإنسان، فانتقل من داره المستأجرة إلى دار صديقه وأصر صديقه ألا يأخذ منه درهماً ولا ديناراً لأنه يسكن في هذه الدار ريثما تتم داره المملوكة، لبث صاحب الدار الرجل الثاني ينتظر سنة وسنتين وسمع أن داره قد انتهت وما يريد أن يخرج منها وأرسل إليه بلطف يسأله متى سيترك له داره، أرسل إليه الرجل المصلي الحاج إلى بيت الله الحرام يقول له كم تدفع لي من الفروغ من أجل أن أدع دارك، وأبى الرجل أن يخرج حتى دفع له الرجل آلافاً معينة لا أذكر عددها. لست أتخيل يا عباد الله وإنما أضع أمامكم وقائع ونماذج.

نموذج آخر فيما يتعلق بتضييع حقوق الله، قال لي تاجر من تجار هذه البلدة ثقة صدوق، قال لي: أتعلم كم هي نسبة الذين يدفعون زكاة أموالهم كما أمر الله من هؤلاء التجار؟ قدرت وقلت: إنهم قلة ولا أتصور أن يكونوا أكثر من خمسة وعشرين بالمئة فضحك الرجل ضحك ألم وقال والله ما أبالغ إنهم لا يزيدون على خمسة بالمئة فقط، والرجل يعلم وهو يعيش في السوق ويعلم الحقائق، وأقسمت عليه بالله أنه لا يبالغ، قال: والله لست مبالغً وهم أصحاب نعمة وأصحاب ثروة وأصحاب غنى، نعم. أتريدون نماذج أخرى من كفران النعمة، من البطر والأشر، كم أسر كانت فقيرة فاستغنت فلما أمدها الله بالنعمة والعطاء تكبرت وتحولت دورها في المساء إلى سهرات ماجنة بل إلى حانات، وهؤلاء الناس كانوا فيما مضى يركعون ويسجدون ويسبحون ويحمدون فلما أكرمهم الله بالنعمة قابلوا إكرامه بهذا البطر والأشر ثم لما زادهم الله من العطاء لم يرتضوا أن تكون سهراتهم في تلك البيوت الضيقة بل جعلوا يقيمون سهراتهم في أندية الفنادق الفخمة، نعم، إن بحثت عنهم أين يوجدون من كان يسمى الحاج فلاناً والحاجة فلانة ولم تعثر عليهم في بيوتهم من بعد التاسعة مساء تبحث عنهم في ردهات تلك الفنادق. هل تريدون نماذج أخرى في هذا المكان يا عباد الله؟ هذه نماذج، وفي الذهن صور كثيرة، وقلت لكم لو شئت أن أجمع هذه الصور وأبينها لأخرجت من ذلك كتاباً أسوداً. إذا علمتم هذا يا عباد الله فاذكروا قول ربنا:

(ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)

هذا كلام الله، هذا كلام قيوم السموات والأرض: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) والله يغفر الكثير ويعاقب على البعض أو القليل لعلهم يرجعون، والبلاء كل البلاء أن تتمطر المحن علينا كما يقول الله ثم لا نرجع، المصيبة كل المصيبة أن يجعل الله بأسنا بيننا ثم أن نقف أمام الأسباب الظاهرة ولا نصل إلى الجذور، الجذور الخفية التي تجدونها في قوانين كتاب ربنا سبحانه وتعالى. نعم، إن الذي غضب على من ذكره بفجور ابنه ما قال هذا قبل سنوات، قال هذا في هذه الأيام حيث كان ينبغي أن يرعوي وحيث كان ينبغي أن يقف أمام قول الله:

(وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ).

في هذا الوقت بالذات حيث كان ينبغي أن يعتبر وأن يتوب ويرجع يغضبُ على من يقول إن ابنك يفجر، بل يجيب وهو رافع الرأس: لقد وجدت على وجه ابني الغنى فليفعل ما يشاء ولن أسمح أن يقول عنه قائل شيئاً.

يا رب: اللهم إنا نسألك أن لا تهلكنا بما فعل الظالمون. أنا أسأل مَن الذي أمر أن يقول هذا الكلام، من الذي جره جراً إلى هذا الفسوق، هل أمره بهذا آمر، هل جره إلى الفسوق جارّ؟ هذا سؤال، سؤال آخر تتحرق من ورائه نفسي، أريد أن أسأل كل من يحلم بمجتمع إسلامي صحيح، أريد أن أسأل كل من يتحرق على الجهاد في سبيل الله عز وجل: ترى ما هي قيمة دار تبنيها على سبيل من الرمال، ماذا عسى أن يكون مآل هذه الدار وما أقمتها إلا على كثيب متحرك من الرمال يا عباد الله؟ المجتمع الإسلامي يتكون من هؤلاء الناس، من صنوفهم، من أطيافهم، من واقعهم، فمن أراد أن يجاهد فليبدأ جهاده بإصلاح هؤلاء الناس، إصلاح هذه البيوت، إدخال حقيقة قوانين الله عز وجل في العقول، علينا إذا أردنا أن نكون قوامين على حدود الله عز وجل أن نقطع ألسنة فجاراً يقولون هذا الكلام، ويحك ربك رزقك، حقوقه عليك كثيرة ثم تقول ما يقوله اليهود وهل اليهود أكثر من هذا دنياهم وآخرتهم وقوانينهم ومبادئهم وأخلاقهم تنحصر في جمع المال وهذا ما قال أكثر من ذلك: لقد رأيت على وجه ابني الغنى وحظي منه ذلك، نعم، لاشك أنه لا فرق بين أن يأتيه الغنى على رأسه من قفاه. اللهم إنا نسألك أن تهدينا فيمن هديت ونسألك الله أن تبصرنا جميعاً بالطرق من أوائلها وكيف ينبغي على المسلم أن يطهر الأرض عن طريق إصلاح الأفراد وعن طريق إصلاح الناس فإن الله عز وجل يقول:

(إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) وما قال رسول الله: (كما يُوَلَّى عليكم تكونون) ولكنه قال عكس ذلك تماماً يا عباد الله، نعم إننا لو أردنا أن نطبق قوانين الإسلام كما كانت مطبقة في عهد رسول الله وأردنا أن نطبقها على هؤلاء الناس على هذه الفترة فلا ريب أن هذه القوانين ستمزق خلال بضعة أشهر، ذلك لأن الناس لا يريدون ذلك لأنهم انفصلوا عن دين الله، لا تنظروا إلى قلة، لا تنظروا إلى من حولكم يصلون ويركعون ويسجدون ويتبتلون فإن الخبث أكثر، أسأل الله عز وجل أن يهدينا وأن يوفقنا وأن يعمنا برحمته إنه خير مسئول.

تحميل



تشغيل

صوتي