مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 26/02/1982

الفتن التي تحدث عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم

تاريخ الخطبة الجمعة 26 / 02 / 1982 ‏

الفتن التي تحدث عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك. سبحانك اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله. خير نبي أرسله. أرسله الله إلى العالم كلِّهِ بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى، وأسألك اللهم أن تلهمني السداد والرشد وأن تقيني فتنة النفس والهوى أما بعد فيا عباد الله:

نبقى مع جملة المظاهر المؤكدة لنبوة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام والدالة على عظيم رحمته بأمته، أنك إذا عدت إلى أمة المصطفى هذه ونظرت إلى الواقع الذي نعيش فيه رأيت سنته صلى الله عليه وسلم تعيش معنا في كل حال ورأيت وصاياه الجميلة الرحيمة تلاحقنا في كل تقلباتنا وأحوالنا. لقد كان عليه أفضل الصلاة والسلام – وهو محدث أصحابه من حوله – لم يكن يعيش معهم فقط ولم يكن يخاطبهم وحدهم فقط بل كان يخاطبنا معهم وكان يوصينا إذا أوصاهم ويحذِّرنا إذا حذَّرهم ويصف لنا الفتن والوقائع وكل ما يمكن أن نراه أمامنا ليجنبنا المنزلقات وليحذرنا من المتاهات.

الفتن، كم حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها وكم أوضح لنا سبيل الفرار منها وكم بيَّنَ لنا سبل المعالجة لها، وما كان أصحابه رضوان الله عليهم بحاجة مباشِرة إلى ذلك ولكنها الرحمة النبوية إذ كان يشعر بها المصطفى عليه الصلاة والسلام لتلك الأجيال الآتية من بعده فلم يكن يدخر لتلك الأجيال من وصاياه شيئاً ولم يكن يألو جهداً في أن ينبهها ويحذرها ويرفدها. تعالوا بنا نصغي إلى طائفة من وصاياه صلى الله عليه وسلم التي تتعلق بالواقع الذي نعيش فيه مما لم يكن موجوداً في عصره عليه الصلاة والسلام.

يروي البخاري في صحيحه وغيره عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه يقول: كان الناس يسألون رسول الله عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني يومه، فقلت له يا رسول الله لقد كنا في جاهلية فأكرمنا الله عز وجل بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، قال: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن، قال: وما دخنه؟ قال: قوم يهتدون بغير هديي ويستنون بغير سنتي، قال: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، قال حذيفة رضي الله عنه: صفهم لنا يا رسول الله، قال: هم من أبناء جلدتنا، يتكلمون بألسنتنا، قال: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال عليه الصلاة والسلام جواباً لسؤال حذيفة رضي الله عنه: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قال: فإن لم يكن ثمة جماعة ولا إماماً؟ فقال: تلزم عقر دارك وتعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك.

وقال عليه الصلاة والسلام في موقف طويل آخر فيما يرويه البخاري ومسلم وغيرهما: (يوشك أن يكون خير مال الرجل غنم يتبع بها شعاب جبال) أي يعتزل بها عن الناس.

ويروي البخاري رضي الله عنه عن أبي بكرة رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إنها ستكون فتن، ألا ثم ستكون فتن القاعد فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي إليها، ألا فإذا وقعت فليلزم أحدكم عقر داره ألا هل بلغت، ألا هل بلغت، ألا هل بلغت) قال رجل من الناس: فكيف أصنع يا رسول الله إن أدركني ذلك؟ قال: تعمد إلى حد سيفك فتضربه بحجر – كناية عن أن لا يخوض غمار تلك الفتن هاهنا أو هاهنا، فقال رجل من أصحابه رضوان الله تعالى عليهم: أرأيت يا رسول الله إن طلبني رجل بسيفه – أي جاءني سهم فقتلني؟ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذاً يبوء بإثمك وإثمه، وفي رواية أكثر تفصيلاً يرويها البخاري أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ألا إنها ستكون فتن ثم ستكون فتن القاعد فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي إليها، ألا فإذا وقعت فمن كان له إبلٌ فليحلق بإبله ومن كانت له غنم فليحلق بغنمه ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه) فقال رجل ممن حوله: أرأيت يا رسول الله لو أن رجلاً ليست له إبل ولا غنم ولا أرض؟ فقال: يعمد إلى حد سيفه فيضربه ويثلمه بحجر ، ألا هل بلغت، ألا هل بلغت، ألا هل بلغت)

وصح عن البخاري ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوى متبعاً ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العامة).

هذه طائفة يسيرة أيها الناس من وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أسداها بسائق من حبه ورحمته لهذه الأمة يعلمنا فيها السبيل والمخلص من الفتن المختلفة التي شاء الله عز وجل أن يبتلى الناس بها لاسيما إذا قربت الساعة. ولماذا يوصي رسول الله بذلك؟ ولماذا يسميها رسول الله فتناً؟ ولماذا لم تكن هذه الوصية من حظ أصحابه؟ لماذا لم يأمر أصحابه أن يثلموا سيوفهم ويكسروا حدها؟ لماذا؟ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يتحدث عن نوع من المصائب والفتن هي التي يسميها رسول الله فتناً بالمعنى الدقيق، إذا شاء الرجل أن يتخلص منها بسبيل زجه السبيل إلى شرٍّ منه، وإذا شاء أن يلقى سبيلاً أخرى ليتخلص من تلك الفتن زُجَّ به إلى شرٍّ منه، يريد أن يتخلص من الفتنة فلا يرى سبيلاً مصفى سائغاً يرضي الله ورسوله ولا يرى طريقاً يستطيع أن يطمئن أنه طريق آمن سالك يرضي الله عز وجل إن وضع ميزان الله فقط نصب عينيه، فماذا يصنع وقد ادلهمت السبل وتعقدت الأسباب وتداخل بعضها ببعض ولا يمكن أن تتداخل ولا أن تتعقد إلا للأسباب التي وصفها رسول الله (إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوى متبعاً ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه) هنا تتشابك السبل وهنا تتداخل الوسائل فلا يحاول الإنسان أن يفر من بلاء إلا ويقع في شرٍّ منه مع أنه لم يفر من بلائه الأول فما السبيل؟ السبيل ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن عجب أن بعض الناس إذا ذُكِّرُوا بهذه الأحاديث الصحيحة التي بلغ مجموعها مبلغ التواتر المعنوي، فهي ليست أحاديث آحاد لم يرض أن يسمعها بل ربما اشمأز من ذكرها ووصف الذاكرين لها والداعين إليها بالسلبية، من؟ رسول الله يدعو إلى سلبية! هذا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت هذه الوصايا سلبية لو أنها كانت موجهة إلى فرد معين أو كانت موجهة إلى عشرة من بين المئات، أي إلى قلة، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسلها وصية إلى كل فرد فردٍ فرد فردٍ من المسلمين جميعاً، فتصوروا لو أن كل فرد فردٍ من المسلمين التزم خاصة نفسه وكان حارساً أميناً على سيفه وكان قواماً لحدود الله عز وجل على زوجه وأولاده ومن يلوذون به وكان آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر حيثما ارتحل وحيثما حل، لو أن المسلمين جميعاً كانوا هكذا إذاً لذابت الفتنة في خير نارٍ لا يمكن أن تذيبها نارٌ أخرى، لو أن المسلمين جميعاً كانوا بهذا الشكل لاضمحلت العقد ولاستبانت السبل، وقلت لكم مرة: إن هذا أحدث طريقة تربوية يتحدث عنها المربون بالنسبة للمعلمين في مدارسهم، يقول أحدهم: إذا دخل المعلم قاعة الدرس فوجد أن الطلاب جميعاً في صياح وفي ضجيج لا يمكن أن تستبين فيها كلمات متكلم، هذا يصيح من هنا وذاك يصيح من هنا حتى إن العرفاء عندما يريدون يصيحون فيهم يزيدون إلى الضجيج ضجيجاً، ما هو أحسن سبيل سريع من أجل إعادة هذه القاعة إلى الهدوء والطمأنينة؟ أن ينبههم المعلم إلى النقطة التالية، يدعو كل واحد منهم إلى أن يسكت نفسه وأن لا يكون أحد مسئولاً عن الآخر، لأن الضجة ما قامت إلا لأن كل فرد يتحمل المسئولية عن الآخرين فضجت القاعة كلها بصياح الموجهين، ولكن إذا طُبِّقَ هذا المبدأ التربوي الذي دعانا إليه معلمنا وحبيبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسكت كل واحد نفسه في اللحظة الواحدة ترى أن القاعة عادت إلى هدوئها وأمنها.

أيها الناس: رسول الله مرة أخرى قال: (ألا إنها ستكون فتناً كقطع الليل المظلم)، قال سيدنا علي رضي الله عنه: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: (كتاب الله وسنتي) فالزموا سنة رسول الله والزموا كتاب الله سبحانه وتعالى يخرجنا الله عز وجل من مأزق هذه الفتن، هذا مع الرضا والتسليم بأن قضاء الله عز وجل جارٍ لا ريب فيه ومع ضرورة أن نقول في كل صباح إذا أصبحنا وفي كل مساء إذا أمسينا: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً ورسولاً.

وأخيراً كان المصطفى عليه الصلاة والسلام يتق المصائب بشيءٍ طالما أوصى به وطالما ذَكَّرَ به أصحابه ألا وهو الصدقات والمبرات، كان يوصي بذلك أمهات المؤمنين وكان يوصي بذلك أصحابه دائماً، وكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيَّن بأساليب شتى أن الصدقة تدفع البلاء.

أيها الناس نحن بأمس الحاجة إلى فيضٍ من رحمة الله وإن كنا لا نستأله، أفتعلمون كيف تستنزلون هذه الرحمة؟ تستنزلوها برحمة تبدونها فيما بينكم، تستنزلوها بالبحث عن الفقراء تكرمونهم بالصدقات الوفيرة، استنزلوا رحمة الله عز وجل بأن تكون يد كل واحد منكم قائمة بخير سبيل لإطفاء شر الفتنة، وكيف تفعل اليد ذلك؟ بأن تمتد بالإحسان إلى المحتاجين، بأن تمتد بالصدقة إلى الفقراء، وابتغوا بذلك وجه الله وحده، وابتغوا بذلك مرضاة الله وحده، افعلوا هذا دون حساب، افعلوا هذا دون خوف من الفقر، افعلوا هذا وأنتم على يقين بأن كنوز الله مفتحة وبأن ما أنفقه الله لوجه الله لا ريب أن يُعَوَّض.

أيها الناس: حاولوا أن ترتفع عنكم مظاهر غضب الله وأن ينزل الله عز وجل عليكم شآبيب رحمته بأن تتراحموا، والتراحم لا يكون بالكلام وإنما يكون بالفعل والقول، فابذلوا جهدكم على كل المستويات وفي كل الأحوال لتحقيق هذه الوصية التي أوصانا بها رسول الله وأذَكِّرُكم اليوم بهذا. ألا وعلى كلٍّ منكم أن يُذَكِّرَ بهذا إخوانه وأن يُذَكِّر بها أحبابه وأصحابه، إذا شئتم أن يكرمنا الله فليكرم بعضكم بعضاً، وليكرم الأغنياء الفقراء، انظروا إلى المحتاجين تحروا أحوالهم، لا يقولن قائل: أنا لا أعلم الفقراء هل تعلم أحداً منهم؟ كلفك الله بأن تبحث عنهم، ابحث عنهم في أصقاعهم وأحيائهم الضيقة فهم كثير، ولك من الأجر في البحث عنهم قدر ما لك من الأجر على الإعطاء لهم، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، وأختم كلامي بقول الله عز وجل:

(فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ)

ويقول الله سبحانه وتعالى:

(لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ)

أستغفر الله العظيم فاستغفروه يغفر لكم.

تحميل



تشغيل

صوتي