مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 12/02/1982

المؤمن لا يتأذى بمصاب جاءه من ربه

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

إنَّ من شأنِ المؤمن أن يحيا عمرهُ كلّهُ، يراقبُ من نفسهِ تنفيذَ حقيقتين اثنتين، أولاهما: تنفيذُ أمرِ الله سبحانهُ وتعالى جهدَ استطاعته، والثانية: الرضا بحكمِ اللهِ سبحانهُ وتعالى وقضائه ملء قلبه.

تلكَ هي الحقيقةُ المختصرة التي ينبغي أن يتحلّى بها المؤمن، بل وتلكَ هي الحقيقةُ العظمى التي يفهمها من قولهِ سبحانهُ وتعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شريكَ له وبذلك أُمرت وأنا أوّلُ المسلمين).

فالمؤمن ينفّذُ أمرَ اللهِ عزَّ وجلّ، ويراقبُ كلَّ أحكامهِ فلا يند عن واحدةٍ منها ولا ينحرف، ثمَّ مهما استقبله من أحداث، ومهما رأى من نتائج، يعلمُ أنَّ ذلكَ كلّهُ بتقدير من الله سبحانهُ وتعالى وبتدبيره. وهو يعلمُ أنَّ اللهَ عادلٌ لا يظلم، رحيمٌ بعبادهِ جميعاً، لطيفٌ بهم على كلِّ حال، وهو يتقبّلُ كلَّ ما رآهُ، وهو يذكرُ في هذا قولَ ربّنا سبحانهُ وتعالى: (وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم وعسى أن تحبّوا شيئاً وهو شرٌّ لكم واللهُ يعلم وأنتم لا تعلمون).

وإذا أردنا أن نُبَسِّطَ شرحَ هذه الحقيقة ببعضِ الأمثلة، فما أكثرَ الأمثلة التي نستطيعُ أن نجسد بها هذا المعنى:

المؤمن يخرجُ في صباحِ يومهِ الباكرِ إلى حقلهِ الذي يشتغلُ به، أو إلى مخزنهِ الذي يتاجرُ فيه، أو إلى أيِّ عملٍ يستدرُّ بهِ الرّزق، فيقومُ بكلِّ ما كلّفهُ اللهُّ عزَّ وجلّ به. وبعدَ ذلك يستسلم لما يأتي به قضاءُ الله وقدره، فإن جاءَتِ النّتائجُ كما يريد: حمدَ اللهَ سبحانهُ وتعالى، وعلمَ أنَّ ذلكَ إنما جاءَ بفضلهِ لا بجهده. أمّا إن فوجئَ بما يكره، إن فوجئَ بما لم يكن في الحسبان، جاءته الخسارةُ بدلاً من الرّبح، استسلمَ لحكمِ اللهِ عزَّ وجلّ وقضائه، لم يستسلم ظاهرهُ فقط بل يستسلمُ باطنهُ أيضاً، لأنهُ يعلمُ وهو مؤمنٌ باللهِ عزَّ وجلّ، يعلمُ ملئَ قلبه أنَّ اللهَ حكيم، لا يضعُ الأمورَ إلا في نصابها، وأنّهُ رحيمٌ به أكثرَ من رحمتهِ هو بنفسه، وأنّهُ عادلٌ لا يظلم، فلئن رأى النّتائج وهي بحسب الظّاهرِ خسران، وما أكثرَ ما يأتي الرّبحُ وظاهرهُ على غيرِ حقيقته، وما أكثرَ ما يأتي الخير وظاهرهُ لذوي العقولِ القاصرة أنّهُ شر ومكروه.

الرجلُ المؤمن إذا وقع قريبٌ لهُ في مرض، هُرعَ به إلى الطّبيب، متذكّراً قولَ رسولنا محمّدٍ عليهِ الصّلاةُ والسّلام: "ما أنزلَ اللهُ داءً إلا وأنزلَ لهُ شفاءً إلا السّام - أي إلا الموت -"، فيطبب ويستعلمُ الدّواءَ والعلاج، ثمَّ يستسلم لقضاءَ اللهِ عزَّ وجلّ وقدره، فإن شفيَ وعوفي، ازدادَ حمداً للهِ وشكراً، وإن جاءهٌ الأجلٌ المحتوم، رضيَ بقضاءِ اللهِ عزَّ وجلّ وقدره، وأيقنَ بملءِ قلبهِ وعقله، أنَّ الأجل هو الحاكمُ الغلّابُ بأمرِ الله وليسَ المرضُ الذي انتابه.

إنما جاءَ المرض: جنداً من جنودِ الأجل، وإنما جاءتِ الآلام: جنداً من جنودِ الأجل، فلو لم يأتِ هذا الجند لجاءَ جندٌ غيره، والأجلُ محتوم، لا بدَّ أن تنتهيَ حياتهُ في ذلكَ الميعادِ المحدّد.

وهكذا شأنُ المؤمنِ أيّها الإخوة، منفّذاً لأمرِ الله، واقفاً على صراطهِ جهدَ استطاعته، وهو يذكرُ دائماً قولَ الله: ((فاتّقوا اللهَ ما استطعتم))، ثمَّ إنّهُ مستسلم راضٍ بحكمِ اللهِ سبحانهُ وتعالى جهدَ استطاعتهِ أيضاً، بل وبملء قلبه.

ومن هنا: كانَ المؤمنُ في سعادةٍ دائمة، من هنا: كانَ المؤمنُ في رضىً دائمٍ عن ربّه، وعن الدّنيا كلّها، ولذلك يقولُ رسولنا محمّدٌ عليهِ الصّلاةُ والسّلام: "عجباً لأمرِ المؤمن إنَّهُ بخيرٍ على كلِّ حال، إن أصابتهُ سرّاء شكر، فكانَ ذلكَ خيراً له، وإن أصابتهُ ضرّاء صبر، فكانَ ذلكَ خيراً له، عجباً للمؤمنِ إنَّهُ بكلِّ خيرٍ على كلِّ حال، إنَّ نفسُ لتتقعقعُ بينَ جنبيه وهو بخير"، أي إنّهُ ليجودُ بنفسه وهو راضٍ عن ربّهِ سبحانهُ وتعالى.

هذه الحقيقة التي أقولها لكم أيها الإخوة، من الذي يفقَهُها؟ يفقَهُها من ذاقها بعقله وبوجدانه وقلبه، وما ذاقها إلا المؤمنون الصادقون بالله سبحانهُ وتعالى.

أما من عاشَوا على هامشِ الإيمانِ باللهِ سبحانه، سمعوا بهذه الحقائق وما عاشوها، سمعوا بها وما تذوّقوها، لأنَّ إيمانهم بالله عزَّ وجلّ لم يستحكم في جوارحهم وفي أركانِ قلوبهم ونفوسهم، فهؤلاءِ لا يفهمونَ ما أقول، ولا يدركونَ الحقيقةَ التي أقولها وأشرحها لكم.

إنَّ المؤمن الحقيقيّ لا يعلمُ للعذاب وللتعزيةِ والآلامِ معنى، لا يحتاجُ المؤمنُ إلى من يعزّيهِ في مصابٍ ماليٍّ جاءه، ولا في أجلٍ محتومٍ تخطّفَ قريباً له، ولا في أيِّ مصيبةٍ طافت به، ولماذا تعزّيه؟ إذا تصوّرنا الحقيقة لماذا تعزّيه؟ لكي تخفّفَ مصابه! إنّهُ مؤمنٌ بالله، وإنّهُ مستسلمٌ لسلطانِ اللهِ عزَّ وجلَّ وحكمته، واللهُ عزَّ وجلّ يداوي عبده ولكنّهُ لا يضيمه، وربَّ شفوقٍ داوى من يحبه ويشفقُ عليه، بدواء كلّهُ ألمٌ وأوجاع، أرأيتَ إلى المريضِ يُهرعُ إلى الطّبيبِ ليعالجه، فيقرّرُ الطّبيب أنّهُ يحتاجُ إلى عمليّة، عمليّةٍ جراحيّة تستنزفُ الكثيرَ من دمائه، وتجعلهُ يخضعُ لآلامٍ شتّى، إنَّ المريض يستسلمُ لما يحكم بهِ الطّبيب، ويمتدّ هادئاً ساكناً تحتَ أجهزةِ هذا الطّبيبِ وتحتَ حركاتهِ ومعالجاته، ربّما تأوه لكنّهُ يشكوهُ بنفسِ اللسانِ الذي يتأوّهُ به، لأنّهُ يعلم أنَّ الطّبيبَ طبيب، وأنَّ الطّب ليسَ مقياسهُ فيما يتجلّى لنا من ظاهرِ الأوجاعِ والآلام، ولكنَّ المقياسَ في النّتائج التي لا نعلمها كمرضى وإنما يعلمها الأطبّاءُ الذينَ يعلمونَ هذه الحقيقة.

إنَّ اللهَ هو الطّبيبُ لعباده، وإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ هو الحكيمُ بهم، الرّؤوفُ بهم، فإذا كانَ الإنسانُ مسلماً بربّه، إذا كانَ مصطبغاً بحقائقِ العبوديّةِ لمولاهُ وخالقه، وإذا كانَ يقولُ بلسانِ حالهِ ومقالهِ صباحَ مساء: (إنَّ صلاتي ونسكي ومحيايَ ومماتي للهِ ربِّ العالمين)، إذا كان يكرر تعاليمَ رسولِ اللهِ لنا: "رضيتُ باللهِ ربّاً، وبالإسلامِ ديناً، وبمحمّدٍ نبيّاً ورسولاً"، فما أبعدَ أن يؤذى هذا الإنسان بحكمِ ربّهِ سبحانهُ وتعالى، وما أقربَ أن يكونَ هذا الإنسان محفوفاً دائماً بألطافِ ربّه، معتنىً بهِ في كلِّ حال، وعلى كلِّ شاكلة، ولكنَّ هذا الإنسان ينبغي أن يعلم أنَّ مقاييسَ اللطفِ الإلهي لا تخضعُ لمقاييسهِ الضّيّقةِ التي يتصوّرها، كما أنَّ المريضَ يعلم أنَّ مقاييسَ الطّب لا تخضعُ لمقاييسِ آلامهِ وأوجاعهِ الخاصّةِ به.

نعم، هكذا حال المؤمنُ باللهِ سبحانهُ وتعالى، أنا عندما أكونُ مؤمناً بربّي لا أقصر بأوامرهِ كلّها، ولكنّي بعدَ ذلكَ أنظر، فلا أجد جرحاً جاءني من ربّي إلا على أنّهُ دواءٌ وعلاجٌ لحالي. وهذه هي الحقيقة، وهذا هو الواقع، وما أكثرَ ما أوضح لنا ربّنا هذا المعنى.

ولكن إذا كانَ النّاسُ بعيدينَ عن الإيمانِ بالله، إذا كانوا بعيدينَ عن الاستسلام لحكمِ اللهِ عزَّ وجلّ، إذا كانت شهواتهم هي ألهتهم. إذا كانوا يتّخذونَ أهواءهم أرباباً وآلهةً لهم من دونٍ الله، فإنَّ اللهَ عزَّ وجلّ قد يبتلي هؤلاءِ النّاسَ بالمصائب والرزايا، وهذه المصائبُ والرّزايا عندئذٍ ليست إلا رياضة لي، وليست إلا سياطَ تنبيهٍ وإيقاظ، فالخيرُ كلُّ الخير: أن يستيقظَ الّذينَ يُؤدَّبون، والبلاءُ كلُّ البلاء: في أن تتهاوى السّياطُ عليهم ثمَّ لا يستيقظون، ثمَّ يظلون سُكارى في ظلّهم، يتقلّبونَ في شهواتهم ولهوهم صباحهم ومساءهم.

نعم ما من نعمةٍ في الدّنيا كلّها أيّها النّاس، أعظمُ للإنسان من نعمةِ الإيمانِ باللهِ عزَّ وجلّ، الإيمان هو الحصنُ الذي يقي الإنسانَ من الشقاء، الإيمان هو النّعمة التي تقي فؤاد الإنسانِ من الضيقِ والكُروب، الإيمان هو بابُ السّعادةِ العظمى، الإيمان هو النّافذةُ التي يستنشقُ فيها النّسيمَ العليلَ كلُّ مكروب، فمن رُزِقَ هذا الإيمان رُزقَ سعادةً لا شقاءَ بعدها، أمّا من لم يُرزق هذا الإيمان فعليهِ أن يبحثَ لنفسِهِ عن هذه النّعمة ليجدَ الحقيقةَ التي أقولها لكم.

أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيم، فاستغفروهُ يغفر لكم، فيا فوزَ المستغفرين...

تحميل



تشغيل

صوتي