مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 01/06/1979

دعوة لانتهاز فرصة يوم عرفة

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

حدّثتكم في الأسبوعِ الماضي عن فضلِ العشرِ الأوّلِ من شهرِ ذي الحجّة، وذكّرتكم بقولِ اللهِ عزَّ وجلّ: (وَالْفَجْرِ * وليالٍ عشر * والشّفعِ والوتر * والليلِ إذا يسر * هل في ذلكَ قسمٌ لذي حجر)

أما اليوم فأذكّركم بذروة الفضلِ في هذه الأيّامِ المباركات، ألا وهو يومُ عرفة، الذي ألمحَ إليهِ البيانُ الإلهيُّ بكلمةِ الوَتْر: (والشّفعِ والوَتر) أي الوترِ من هذه الأيام، والمقصودُ منهُ كما ذكرهُ جلُّ علماءِ التّفسير يومُ عرفة، يومُ عرفةَ هذا هو محورُ الفضلِ الذي ثبتَ لهذه الليالي العشر، وهو اليومُ الأغرُّ من هذا الشّهرِ المبارك، بل هو اليومُ الأغرّ من أيّامِ السّنةِ كلّها، فقد وردَ عن جابرٍ عن رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ فيما يرويهِ البيهقيُّ وأبو يعلى والطّبرانيُّ وغيرهم أنَّ رسولَ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ قال: (إذا كانَ يومُ عرفة، فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يباهي بأهلِ الأرضِ الملائكة فيقول: (انظروا إلى عبادي أتوني شعثاً غبراً ضاجّين من كلِّ فجٍّ عميق، أشهدكم أنّي قد غفرتُ لهم)، فيقولُ الملائكة: (إنَّ فيهم فلاناً مرهقاً) أي مغموساً بالمعاصي والآثام، (وفلاناً وفلانة)، فيقولُ اللهُ لهم: (قد غفرتُ لهم جميعاً). يقولُ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلّم: (فلم يُرَ يومٌ أكثرُ فيهِ عتيقاً من النّارِ من يومِ عرفة).

وفيما رواهُ مالكٌ في موطّئه وابنُ ماجه، أنَّ رسولَ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ قال: (ما رؤيَ الشّيطانُ في يومٍ هو أحقرُ ولا أدحرُ ولا أصغرُ ولا أغيظُ منهُ في يومِ عرفة، وما ذلكَ إلا لما يرى من رحمةِ اللهِ سبحانهُ وتعالى المنزّلةِ على عباده).

وهذا اليوم الذي نوّهَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ بمزيّتهِ وفضله ليسَ وقفاً - هذا الفضل الذي فيه - على طائفةٍ من النّاسِ دونَ طائفة، فهوَ ليسَ فضلاً على الحجيج، ليسَ فضلاً موقوفاً عليهم دونَ غيرهم، وإنّما فضلُ هذا اليوم ينالهُ النّاسُ جميعاً في مشارقِ الأرضِ ومغاربها، إلا من أعلن عن غناهُ عن رحمةِ الله سبحانهُ وتعالى، فمن أعلنَ عن غناهُ عن اللهِ عزَّ وجلّ فاللهُ أشدُّ غناً عنه، وكيفَ يعلنُ الإنسانُ غناهُ عن اللهِ سبحانهُ وتعالى؟

يعلنُ الإنسانُ عن غناهُ عن الله بشيءٍ أعظمَ دلالةً من القول، يعلنُ عن ذلكَ بالفعل، وذلكَ بإعراضهِ عن اللهِ عزَّ وجلّ في هذا اليوم، وانغماسهِ في مزيدٍ من المنسياتِ والملهيات، وما رأيتُ صورةً أعجب - أيّها النّاس - ولا أغرب من صورةِ إنسانٍ تعلمُ كلُّ ذرّةٍ من كيانهِ أنّها في غايةِ الفقرِ إلى اللهِ عزَّ وجلّ حالاً ومآلاً، ويسمع عن رحمةِ اللهِ سبحانهُ وتعالى المنزّلةِ على عباده في هذا اليوم فيعرضُ عن هذه الرّحمة، ويلهو ويستكبرُ فوقها.

وإنَّ من أعظمِ وأغربِ الصّورِ التي تجسّدُ هذا المعنى، صورُ أناسٍ تجدهم يومَ عرفة في رحابِ عرفة وهم مشغولون عن الله بكلِّ شيء بدلاً من أن يكونوا مشغولينَ باللهِ عن كلِّ شيء، تجدهم منغمسينَ بالطّعامِ والشّرابِ آناً، وبالأحاديثِ الملهيةِ التي يتجاذبونها فيما بينهم آناً، وبالضّحكِ والنّكتِ آناً آخر، يتصوّرونَ أنّهم في ذلكَ اليومِ إنّما ينتهزونَ فرصةَ نزهةٍ أتيحت لهم، فهم منغمسونَ في معنى اللهوِ في ذلكَ المكان الذي لن تجدَ مكاناً أفضلَ منهُ فوقَ الأرضِ ربّما، حاشا المكانُ الذي دُفِنَ فيهِ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم، وفي ذلكَ الزّمان الذي لن تجدَ زماناً أفضلَ منهُ يستطيعُ الإنسانُ أن يتقرّبَ فيهِ إلى مولاهُ وخالقه.

فماذا يقولُ حالُ هؤلاءِ النّاس المعرضينَ عن اللهِ بموائدهم وأطعمتهم، وفكاهاتهم وأحاديثهم ولهوهم؟ هؤلاءِ الذينَ اتّخذوا من مكانِ عرفة مكانَ نزهةٍ لهم كأيِّ نزهةٍ يرحلُ إليها النّاسُ في يومٍ من الأيّام. أليسَ معنى تصرّفهم هذا بكلِّ وضوحٍ وبكلِّ دلالةٍ قاطعةٍ أنّهم أغنياءُ عن الله، أنّهم أغنياءُ عن مائدةِ اللهِ سبحانهُ وتعالى ورحمته، المولى ينادي ويقولُ لهم: ألا هلمَّ ألا هلُم.. وهؤلاءِ النّاس معرضونَ عن نداءِ اللهِ عزَّ وجلّ، مع أنّهم أفقرُ ما يكونون إلى شيءٍ من رحمةِ اللهِ عزَّ وجل إن في دنياهم أو في أُخراهم.

ومَثَلُ حالِ هؤلاء الذينَ يعرضونَ عن اللهِ وهم في ألبسةِ الإحرامِ وأرديته، حالُ الآخرينَ من إخوانهم الذين ينتشرون في شتّى بقاعِ الأرض إذا جاءَ ذلكَ اليومُ المبارك، فالتّاجرُ مغموسٌ في صفقات بيعه وشرائه، والإنسانُ المتعوّدُ على اللهوِ منصرفٌ إلى لهوهِ كالعادةِ تماماً، والأسرةُ المعرضةُ عن الله، المعرضةُ عن مصيرها وعن عبوديّتها للهِ عزَّ وجلّ، يمرُّ بها هذا اليوم دونَ أن تشعرَ بأيِّ معنىً لقسديّته، ودونَ أن تشعرَ بأيِّ معنىً للرحمةِ الإلهيّةِ التي تطرقُ بابَ هذه الأسرة، ولكنَّ هذه الأسرة برجالها ونسائها عن رحمةِ اللهِ عزَّ وجلَّ في سهوٍ ولغو، لأنّها تعلنُ بذلكَ أنّها غنيّةٌ عن رحمةِ اللهِ سبحانهُ وتعالى.

هذا اليومُ إذا جاءنا ينبغي أن نستعدَّ لهُ قدرَ شعورنا بالفقرِ إلى الله، فإن لم نكن فقراءَ إلى اللهِ عزَّ وجلّ فذلكَ شيءٌ آخر، ولكن فليقل لي أيٌّ منكم، بل أيٌّ ممن يسمعُ كلاميَ السّاعة، بل أيٌّ من النّاس من مؤمنين أو غيرِ مؤمنين. من هو هذا السّكران الذي يجرؤُ أن يقولَ أنّهُ في غنىً عن الله؟ من هو هذا الذي يستطيع أن يقفَ متحدّياً لقولِ اللهِ عزَّ وجلّ: (يا أيّها النّاسُ أنتم الفقراءُ إلى الله واللهُ هو الغنيُّ الحميد * إن يشأ يذهبكم ويأتِ بخلقٍ جديد)، من هو الذي يجرؤ أن يقفَ بشيءٍ من التّحدّي أمامَ كلامِ اللهِ عزَّ وجلّ هذا؟ ما منّا من أحدٍ يستطيع إلا أن يوقّعَ على كلامِ ربِّ العالمين وأن يعلنَ عن فقرهِ إلى الله سواءً كانَ هذا الإنسانُ صالحاً أو فاسقاً، مستقيماً أم منحرفاً، مؤمناً أم كافراً، كلُّ النّاسِ فقراءُ إلى الله، فإذا كنّا فقراءَ إلى الله واللهُ عزَّ وجلّ ينادينا في كلِّ ساعة لا سيّما يومَ عرفة، ألا فأقبلوا إليَّ فقط إقبالَ العبدِ إلى مولاه أغفر لكم كلَّ شيء. فلماذا ونحنُ فقراءُ إلى الله لا ننتهزُ فرصةَ هذا اليوم ونحنُ لا ندري متى سيطرقُ الموتُ بابنا؟ ولا ندري متى سنودّعُ هذه الدّنيا ونرحلُ عنها إلى اللهِ عزَّ وجلّ؟ أليسَ خيراً لكلٍّ منّا أن يرحلَ إلى اللهِ بصفحةٍ بيضاءَ ناصعة؟ أليسَ خيراً لكلٍّ منّا وقد اسودّت صفحاتُ أيّامهِ ولياليهِ بالمعاصي أن نبيّضها ونغسلها في هذا اليومِ المبارك؟ وإذا هو آيلٌ إلى اللهِ عزَّ وجلّ كيومَ ولدتهُ أمّه، اللهم إلا إذا كانَ في عنقه ظلامةٌ لمظلوم.

وقد صحَّ عن المصطفى عليهِ الصّلاةُ والسّلام استحبابُ صومِ هذا اليومِ المبارك، اللهمَّ إلا للحجيج. فلقد وردَ في صحيحِ مسلمٍ وغيره عن رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم أنّهُ قال: (صيامُ يومِ عرفة كفّارةٌ لسنةٍ قبلها ولسنةٍ بعدها) رُويَ ذلكَ بطرقٍ شتّى. وقد روى عطاءٌ الخراسانيُّ عن عبدِ الرّحمنِ بنِ أبي بكرٍ رضيَ اللهُ عنهما قال: دخلتُ على عائشة رضيَ اللهُ عنها يومَ عرفةَ وهي صائمة والماءُ يُرَشُّ عليها، أي من الإجهاد، فقلتُ لها: أفطري. قلت: أفطرُ في هذا اليوم وقد سمعتُ رسولَ الله صلّى اللهُ عليهِ وسلّم يقول: (صيامُ يومِ عرفةَ كفّارةٌ لسنةٍ قبلها)!

فلننتهز فرصةَ هذا اليومِ أولاً بالتّوبة الصّادقة والإنابةِ إلى الله، ثمَّ بملئِ هذا اليومِ بما نستطيع من أنواعِ القُرُباتِ إلى الله على أن تكونَ نيّاتُنا في ذلكَ صافيةً خالصة. ولنجهد جهدنا أن نكونَ صائمينَ في هذا اليوم حتّى ترتفعَ أعمالنا إن وفّقنا اللهُ لشيءٍ من الأعمال حتّى ترتفعَ أعمالنا إلى اللهِ ونحنُ صائمون، فنحنُ الفقراءُ إلى الله واللهُ الغنيُّ عنّا، الرّحيمُ بنا، فاللهمَّ ارحمنا برحمتكَ التي وسعت كلَّ شيء. فاستغفروهُ يغفر لكم.

تحميل



تشغيل

صوتي