
العلّامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي


أين (فإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) في حياة المسلمين؟
أين (فإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) في حياة المسلمين؟
خطبة الإمام الشهيد البوطي
تاريخ الخطبة: 5/8/2005
الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.
أمّا بعدُ فيا عباد الله ..
إن من شأن المؤمن بالله عز وجل إذا وجد مظاهر الفتن تدلهم أمامه وإذا وجد أعداء هذا الدين يتكاثرون ويقبلون إلى المؤمنين والمسلمين من كل حدب وصوب ليحتلوا أوطانهم وليمزقوا مبادئهم، ازدادوا ثقةً بالله عز وجل وازدادوا مخافة من الله سبحانه وتعالى، لأنهم يعلمون أن الظالمين هم صوت الله سبحانه وتعالى في الأرض. فالظاهر يقول: هنالك عدواناً يستشري من فئات هنا وهناك تتجه بالظلم والإساءة إلى المسلمين. أما الباطن الذي يراه المؤمن بعين بصيرته فهو أن الله سبحانه وتعالى يرسل من هؤلاء الظالمين سياط تأديب للمسلمين الذين تاهوا عن السبيل الأمثل وأعرضوا عن مولاهم وخالقهم سبحانه وتعالى.
هكذا يتبصر المؤمنون وهكذا ينظرون إلى أمثال هذه الأحداث. أما التائهون عن الله سبحانه وتعالى، أما العاكفون على رعوناتهم وأهوائهم، فإنهم لا يتبصرون في هذه الفتن إلا ما تريهم أعينهم، وكلما ازدادت صور العداوة المتمثلة في هؤلاء الذين يعلنون الحرب على الإسلام والمسلمين ازدادوا مخافة منهم وازدادوا هلعاً منهم، هكذا يتصورون وهكذا يظنون. والمأمول أن يرعوي هؤلاء التائهون وأن يصحو كل منهم من غفلاته وأن يتبين في كلام الله سبحانه وتعالى ما يذكره بأن اليد يد أناس من أمثالهم يرتكبون الظلم والجنوح عن الحق، أما الحقيقة فإن الله سبحانه وتعالى هو الذي يسخر وهو الذي يحمل هؤلاء الناس على ما يفعلون وعلى ما يسيؤون.
وقد ورد عن المصطفى صلى الله عليه وسلم بطرق مختلفة أنه قال )الظالم عدل الله في الأرض ينتقم به ثم ينتقم منه[. والظلم لا يكون عدلاً والظالم لا يكون عدلاً، ولكن المعنى أن الله عز وجل يسخر سوط الظالم لعدالته، والعدالة لابد أن تعتمد في كثير من الأحيان على الإرهاب ولابد أن يتمثل الإرهاب بسياط من التخويف. المأمول من الناس الذين قد ركبوا رؤوسهم وتاهوا عن معرفة الحق وسجنوا أنفسهم فيما تريهم أعينهم من الصور والأشكال، لم يخترقوها ولم يتجاوزوها، المأمول أن يعرفوا بواطن الأمور وأن يعلموا أن هؤلاء الذين سُلطوا على بلاد المسلمين إنما سُلطوا على هذه البلاد بأمر من الله سبحانه وتعالى، هم سياط الله سبحانه وتعالى، جردت على ظهور المسلمين التائهين، جُردت على ظهور المسلمين العاكفين على غرارهم لعل كتاب الله عز وجل يُذكر، لعل كتاب الله سبحانه وتعالى ينبه، يقول الله سبحانه وتعالى: )وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَٰهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ[ ولاحظوا الحصر أيها الإخوة )وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا[ أي له الدينونة وحده دائماً )أَفَغَيْرَ اللّهِ تَتَّقُونَ[ )وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ[
مرتين ينبهنا بيان الله سبحانه وتعالى ويحذرنا من أن تتوازع مخاوفنا بين عباد الله سبحانه وتعالى في جنبات الأرض، لا )فإِيَّايَ فَارْهَبُونِ[ هكذا يقول الله سبحانه وتعالى. مهما رأيتم من مظاهر الظلم ومهما رأيتم من المخاوف والنذر فلتعلموا أن مصدر ذلك كله إنما هو الله فلا تتجهن قلوبكم بالرهبة إلا إلى الواحد المحرك، إلا إلى الواحد الأحد الذي يسوس الكون هذا كله )فإِيَّايَ فَارْهَبُونِ[.
ثم يكرر هذا الكلام مع البينة والبرهان يقول )وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ[ من الذي يملك هذه المكونات كلها؟ من الذي يدير شأنها؟ إنما هو الله عز وجل له ما في السموات والأرض، إذاً له الدين واصبا ما ينبغي أن تكون الدينونة المخافة والذل والمهابة لشرق ولا غرب، ما ينبغي أن تكون المخافة لمن يلوح بسلاحٍ أياً كان نوعه ومهما كان فتكه، ما ينبغي أن يكون الذل والخوف والمهابة من تلك الجهة إنما ينبغي أن تكون الدينونة لمن بيده ملكوت هذا الكون كله، لمن يدير شؤون هذا العالم أجمع وله ما في السموات والأرض، إذاً وله الدين أي الدينونة والذل والمهابة، له وحده وله الدين واصبا مرة أخرى يكرر فيقول )وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ[ هنالك إياي فارهبون وهنا فإياي فاتقون.
نحن اليوم أيها الإخوة نرى هذه الفتن المدلهمة المتمثلة في ظلم الظالمين والمتمثلة في هذا الحيف الذي ينحط على بلاد المسلمين هنا وهناك، هذا الظلم المتمثل في احتلال الأوطان، في القضاء على الحقوق، في الإعلان على محاربة مبادئ وقيم كل هذا شيءٌ تراه أبصارنا وتتبينه عقولنا ولكن تعالوا فلننظر ونحن مسلمون ونحن مؤمنون بالله عز وجل فيما نزعم وآيات الله سبحانه وتعالى تتلى على مسامعنا من خلال أجهزة الإعلام المسموعة والمرئية المختلفة. ممن نهاب ونرهب؟ ما هي الجهة التي نتوجس خيفة منها؟ وبيان الله عز وجل يقول )فإِيَّايَ فَارْهَبُونِ[ ويكرر فيقول )وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ[.
جل المسلمين اليوم على اختلاف فئاتهم قادة وشعوبا إنما يحسبون لأمثالهم هذا الحساب، حساب المخافة، حساب التوجس من الرد الآتي ما الذي سيحدث؟ المخاوف كلها تتجه من عباد إلى عباد الله، المخاوف كلها تتجه من الضعفاء إلى الضعفاء، من الفقراء إلى الفقراء والله عز وجل يقول: )يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ واللَّهُ هو الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ ويَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ[ وهو القائل: )وخلق الإنسان[ أياً كان )ضعيفا[ إنما هي قوة الله عز وجل وإنما هو تسليط الله سبحانه وتعالى.
وسنة الله سبحانه وتعالى معروفة نتبينها في كتاب الله )وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا[، آية نقرأها ونسمعها وندرك معناها، ليس فينا من لا يدرك هذا القانون الذي ألزم الله عز وجل به ذاته العلية. إذا رأى العاقل السوط يهوي على ظهره أفيخشى السوط أم يخشى صاحب الصوت؟ أما العاقل فهو يخشى ذاك الذي بيده السوط، ذاك الذي يستخدم السوط ليلهب به ظهره، وأما الأحمق فربما تاه عن ذاك الذي يهوي بالسوط على ظهره ويحملق بدلاً عن ذلك في السوط. أجل وجل المسلمين اليوم يعانون من هذا الحمق، نعم جل المسلمين اليوم يعانون من هذا الحمق.
هذه القوارع التي تقرع لا أقول أبوابنا بل أقول تقرع عقولنا، تقرع بالتنبيه نفوسنا كي نستيقظ وكي نتنبه وكي نعود فنصطلح من جديد مع مولانا وخالقنا، نعود فنقوم الاعوجاج، نصلح الفساد، نلتزم بما أمر الله سبحانه وتعالى به وننتهي عما نهى الله سبحانه وتعالى عنه، لا نجاهر الله عز وجل بالمعاصي هنا وهناك وإذا انزلق أحدنا إلى معصيةٍ عاد وتاب إلى الله سبحانه وتعالى، هذا هو المأمول من هذه الفتنة المدلهمة التي يعاني منها العالم العربي والإسلامي أجمع. كنت أتوقع بل أقول أتمنى من عالمنا الإسلامي وهو يرى هذا التسلط بل هذا البغي على الإسلام متمثلاً في مبادئه وعلى المسلمين متمثلاً في حقوقهم، كنت أنتظر من المسلمين أن يعودوا فيتبينوا سنة الله عز وجل في عباده، أن يعودوا فيتبينوا قانون الله عز وجل الذي يتلى على مسامعنا في كتابه فيعودوا إلى الرشد بعد أن تورطوا في سلوك سبل الغي، يعودون إلى مولاهم وخالقهم سبحانه وتعالى.
ولكني أنظر فماذا أجد؟ أجد بدلاً عن ذلك نذر ولا أقول تباشير، نذر الانقياد للأوامر التي تتجه سراً من أولئك الظالمين الذين سلطهم الله عز وجل على ظهورنا. يطالبون العالم الإسلامي بتبديل مناهجهم التربوية، يطالبون العالم الإسلامي بتغيير ثقافاتهم الدينية، يطالبون العالم الإسلامي بتنقية كتاب الله سبحانه وتعالى من كل ما لا يطيب لهم، من كل لا يوافقون عليه، من آيات الجهاد، من الآيات التي تتحدث عن ظلم بني اسرائيل وعن جرائهمهم التاريخية وعن جناياتهم المستمرة. هذا العدوان المستشري يرسل إلى العالم الإسلامي رسائل الواحدة تلو الأخرى يطالب الدول الإسلامية بتغيير مناهجها وبتغيير ثقافتها وبحذف ما لا يروق لها من كتاب الله ومن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأصغي السمع جيداً فأجد هنالك من يعد بالاستجابة من يعد بالعمل على تنفيذ كل ما هو مطلوب. وأنا لا أستطيع أن أقول أن كل العالم الإسلامي ينقاد لهذه المطالب الرعناء بل أرجو أن في بلادنا الإسلامية من لايزال أهلها يرفعون رؤوسهم عاليا، ويحاولون أن لا يبيعوا عزتهم ولا يبيعوا شرف دينهم بعرض من الدنيا قليل، بل بمخاوف لا قيمة لها ولا معنى لها.
ولكن الكثرة الكاثرة هي بصدد أن تنقاد لهذه المطالب، هل هنالك مخاوف حقا من هذا الذي ندعى إليه؟ هل هنالك ما يدل على أننا لو أننا وضعنا هذه المطالب تحت أقدامنا ورفعنا الرأس عالياً معتزين بديننا واستعنا بالله عز وجل كما يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم "استعن بالله ولا تعجز". هل سينوبنا هذا النذير الذي نسمعه؟ خسئ من قال هذا.
لو أن المسلمين وقفوا أمام قانون الله الذي ذكرته لكم وعرفوا أن هذا الذي يعاني منه العالم العربي والإسلامي ليس آتياً من فئات تحارب دين الله ولكنها سياطٌ سياط من تأديب الله عز وجل للعالم الإسلامي أن يرعوي، أن يستيقظ، أن يعود إلى صراط الله سبحانه وتعالى، لو أن المسلمين علموا هذه السنة الإلهية ولو أن المسلمين نفذوا وصية الله عز وجل المكررة في آيتين متعاقبتين )فإِيَّايَ فَارْهَبُونِ[ )وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ[ لو أنهم نفذوا هذا، ووجهوا أفئدتهم بالمخافة إلى الواحد الذي بيد ملكوت السموات والأرض، بيده حياة الناس جميعا، لو أنهم اتجهوا بالمخافة إلى هذا الإله وحده ولو أنهم بدلاً من أن ينقادوا لتنفيذ أوامر هؤلاء الذين أعلنوا الحرب على دين الله سبحانه وتعالى، عادوا ينفذون أوامر الله عز وجل إذاً لرأيتم كيف أن هؤلاء الظالمين يرتدون على أعقابهم صاغرين.
ترى ألم يأن لقادة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أن يعلموا هذه الحقيقة، لماذا يعاني العالم الإسلامي من هذه الثنائية؟ لماذا يعاني قادة المسلمين من هذه الثنائية المتناقضة شخصيتين متناقضتين؟ أنظر وإذا بهم يعلنون بأنهم مسلمون، يعلنون أنهم ينتمون إلى دين الله ويؤمنون بكتاب الله وبسنة رسول الله، وأنظر من ناحية أخرى وإذا بقلوبهم فارغة عن تعظيم الله، عن مهابة الله، عن الرهبة التي ينبغي أن تتجه بها قلوبهم إلى الله عز وجل بل أنظر فأجد أن أفئدتهم متجهة بالخوف، بالتعظيم بالتبجيل لهؤلاء الأعداء الذين يريدون أن ينتقصوا من أوطانهم وأن يحتلوا بلادهم وأن يستلبوا حقوقهم وأن يمزقوا مبادئهم مع هذا كله، أنظر فأجد أن الذل قد ركبهم وأن المهانة قد اصطبغوا بها وأنهم إنما ينقادون لتطبيق وصايا هؤلاء الناس بدلاً من أن ينفذوا قول الله سبحانه وتعالى: )فإِيَّايَ فَارْهَبُونِ[ ثم )وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ[. هذه الثنائية أسأل الله عز وجل أن يعافي أمتنا منها.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.