مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 23/12/2005

المسلمون في الاستجابة لله فريقان

المسلمون في الاستجابة لله فريقان
خطبة الإمام الشهيد البوطي
تاريخ الخطبة: 23/12/2005


الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.
أمّا بعدُ فيا عباد الله ..
ظاهرةٌ عجيبةٌ تحير الألباب وتخالف المنطق، لابد أن نعرض لها ولابد أن نقف أمامها في الحيرة التي يعبر عنها بيان الله عز وجل.
الناس المؤمنون فريقان اثنان، الناس المؤمنون الذين يعلنون عن إيمانهم بالله عز وجل وعن عبوديتهم له، هؤلاء ينقسمون إلى فريقين:
فريقٌ أقامه الله سبحانه وتعالى من مركزه الاجتماعي والمالي والثقافي في المرتبة الوسطى فما دون ذلك.
وفريقٌ آخر أقامه الله سبحانه وتعالى في المرتبة العليا من حيث المال الذي رزقه أو من حيث الرتبة التي يتبوأها، أو من حيث المكانة المرموقة التي يشار إليه بها.
أما الفريق الأول فيغلب عليه الالتزام بأوامر الله سبحانه وتعالى ويغلب عليه عند الشدائد أن يُهرع إلى باب الله سبحانه وتعالى، يغلب عليه إذا بحثت عنه أن تجده في أماكن مثل هذا المكان المبارك أو في حلقات الدروس أو في مجالس الموعظة والأذكار، إذا دعاه الداعي إلى حقٍ استجاب، وإذا ارتفعت الأكف بالضراعة إلى الله كان في مقدمة الضارعين والمتبتلين والمستغيثين برحمات الله سبحانه وتعالى.
أما الفريق الثاني، الفريق الذي أكرمه الله بالنعم وأغدق عليه من آلائه، رزقه الرزق الوفير، بوأه المكانة العالية، رزقه ما لم يرزق غيره، تنظر إليه فتجده معرضاً عن الله، إذا دعاه الداعي إلى الالتزام بأوامر الله عز وجل أصم أذنيه، وإذا دعا الداعي في المناسبات المختلفة لطرق باب الله عز وجل أن يزيل الشدة وأن يمتعنا بالرخاء لم تر أي من أصحاب هذا الفريق هناك.
مع أن المنطق يقتضي حسب الظاهر العكس، المنطق يتوقع من الإنسان الذي حرمه الله عز وجل بسطة العيش والمكانة المرموقة في المجتمع وأقامه من حياته المالية والاجتماعية في المرتبة الوسطى أو دونها، المتوقع منه أن يتأفف، المتوقع منه أن يعترض ويسخط ربما ولكنك تجده السباق إلى رحاب الله، تجده السباق إلى الالتصاق بأعتاب الله سبحانه وتعالى. والمتوقع من الفريق الثاني أصحاب النعمة المرموقة، أصحاب الرزق الوفير المال الكثير، المتوقع منهم أن يكونوا هم السابقين إلى رحاب الله، المتوقع منهم أن يكونوا هم السابقين إلى طرق باب الله عز وجل عند الشدائد، يستنزلون رحماته، يحمدونه سبحانه وتعالى على آلائه ولكنك تنظر فتجد الأمر يسير على العكس من ذلك.
بالأمس دُعينا إلى صلاة الاستسقاء، من هم الذين استجابوا؟ من هم الذين حضروا؟
لابد أيها الإخوة أن نضع النقاط على الحروف، كم هم الوزراء الذين هُرعوا إلى صلاة الاستسقاء وتناسوا رتبهم وتجلببوا بجلباب العبودية لله عز وجل وبسطوا أكفهم مع إخوانهم ضارعين متبتلين إلى الله كم؟ أنتم الذين يعرف الجواب.
كم هم عدد أعضاء مجلس الشعب الذين استجابوا لهذه الدعوة وصلوا مع المصلين صلاة الاستسقاء وابتهلوا مع المبتهلين أن يرفع الله عز وجل الشدة والغماء؟ كلكم يعرف الجواب.
كم هم عدد التجار الذين يشار إليهم بالبنان والذين أكرمهم الله عز وجل ببسطة العيش والرزق، الذين حضروا مع الحاضرين وابتهلوا مع المبتهلين؟ كلكم يعرف الجواب.
كم هم أولاء الذين يتبوؤون مراتب عسكرية جاؤوا فأعرضوا عن رتبهم ونياشينهم وتجردوا إلا عن عبوديتهم لله سبحانه وتعالى وابتهلوا مع المبتهلين وتضرعوا مع المتضرعين؟ كلكم يعرف الجواب.
وأنا ينبغي أن أقول وأستدرك أما رئيس هذه البلدة والقيم على شأنها فأنا أعذره لاسيما في هذه المرحلة الدقيقة الحساسة الخطيرة التي نمر بها، وحسبه أنه دعا إليها وأمر بها، ولكن ما الذي حال دون البقية من أن يُهرعوا وأن يندمجوا مع إخوانهم المتضرعين الداعين الباكين ليستنزلوا رحمات الله سبحانه وتعالى؟ لماذا!
تلك هي الأعجوبة التي لا المنطق يعلم جواباً عنها ولا الإنسانية تدرك سبباً لها، ولكننا نقف من هذا أمام بيان الله الذي ينبهنا إلى هذه الحقيقة وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَان الضُّرّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرّه مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرّ مَسَّهُ وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنسَانُ كَفُورًا.
بيان الله عز وجل يضعنا أمام هذه الظاهرة ويرسم إشارة تعجبٍ من هؤلاء الناس ويرسم النهج الذي يسيرون عليه، ماذا يقول المنطق في تبرير هذه الظاهرة؟ لا شيء، ماذا تقول الإنسانية في تبرير هذا المنطق؟ لا شيء.
ومرة أخرى أقول لكم أنا لا أتحدث عن الملحد، الملحد منطقي مع نفسه. يقول: أنا ألجأ إلى الطبيعة، يقول كما قال ابن سيدنا نوح: سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ. لكنني أتكلم عمن يعلنون عن إيمانهم بالله ويعترفون بعبوديتهم لله سبحانه وتعالى.
قيل لأحد هؤلاء: أما تستجيب للدعوة التي دُعينا إليها كي نستنزل الرحمة من الله سبحانه وتعالى؟ فقال البركة فيكم، جواب مليء بالهزء ومليء بالسخرية ومن الذي يقول هذا؟ لم يقل هذا ملحد وإنما يقول هذا من أسكرته نعم الله، أسكرته المزرعة التي أكرمه الله عز وجل بها. هذه الظاهرة لماذا ذكرتها؟ ما الذي يدعونا إلى أن نتبينها؟ لكي نزداد يقيناً بعدل الله، ولكي نزداد يقيناً برحمة الله سبحانه وتعالى، ولكي لا تشككنا الشدائد التي نراها بعظيم فضل الله، بعظيم لطف الله سبحانه وتعالى، ينبغي أن نكون على بينة من هذا أيها الإخوة.
قلت لكم: ظاهرة لا المنطق يملك جواباً عنها، ولا الإنسانية تملك جواباً عنها، لكن الجواب عنها إنما يملكه شيء واحد، يملكه معنى الاستكبار على الله عز وجل. المستكبرون على الله هم الذين يحجبون عن مظاهر ومشاعر العبودية لله عز وجل، والإنسان شأنه أن يكون كفوراً. ألم يقل الله عز وجل قُتِلَ الإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ* مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ* ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ* ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ* ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ* كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ. والإنسان هنا ليس للتعميم ليس للاستغراق. (قتل الإنسان) بمعنى الشأن شأن الإنسان هكذا إلا من رحم ربك، إلا من هذب نفسه بمشاعر العبودية لله سبحانه وتعالى.
الجواب على هذه الظاهرة عند معنى الاستكبار، هؤلاء أكرمهم الله بالنعم سواء تجلت بماء وفير أو بمركزٍ يتبوأونه أو بشارة عسكرية يتبوأون من خلالها مركزاً مرموقاً، الاستكبار هو الذي جعل أصحاب هذه النعمة محجوبين عن المنعم، محجوبين عن المتفضل، محجوبين عن الإله الذي إذا أخذ، أخذ أخذ عزيز مقتدر.
هذه الظاهر أيها الإخوة علمها عند هذا المعنى الذي أقوله لكم. وهي تتجلى في مناسبات كثيرة، تتجلى في مناسبات مختلفة متنوعة، منها ما قد ذكرت بالأمس القريب عندما يموت إنسان في أسرة مرموقة ذات مكانة باسقة، يؤت بجنازته إلى مسجد كهذا المسجد للصلاة عليه، من الذين يدخلون إلى المسجد؟ من الذين يفيض بهم المسجد؟ أمثالكم الفريق الأول وتنظر إلى الخارج تنظر إلى أولئك الذين أكرمهم الله ببسطة من الرزق بوأهم مكانة عالية، بوأهم مكانة مرموقة تنظر إليهم وإذا بهم واقفين كالأصنام أمام بيت الله سبحانه وتعالى، لسان حالهم يعلن الاحتجاج على قضاء الله وقدره.
هذه الظاهرة هي التي تجلت بالأمس عندما دعينا من قبل رئيس هذه الدولة متعه الله بمزيد من العافية وألهمه الله عز وجل مزيداً من الخير وأكرمه الله عز وجل ببطانة تدله على الخير وتحجزه عن الشر، هذه الظاهرة تجلت بالأمس عندما دعينا إلى صلاة الاستسقاء، كم هم الملايين الذين تفيض بهم دمشق وكم هم الذين حضروا صلاة الاستسقاء؟
أيها الإخوة احمدوا الله عز وجل أن أكرمكم بنعمةٍ لم يكرم بها أصحاب القصور، لم يكرم بها الأغنياء المترفين، لم يكرم بها الوزراء، لم يكرم بها أصحاب الشارات المتميزة والرتب المتنوعة ألا وهي مزية العبودية لله، مزية الشعور بأنكم عبيد مملوكون لله سبحانه وتعالى، أعظم نعمة متعكم الله بها هي هذه، أما أصحاب القصور فأناديهم من هنا لو بلغهم ندائي أقول لهم: يا أصحاب القصور غداً ستنزلون إلى القبور أروني ثباتكم على ما تثبتون عليه اليوم، أروني ثباتكم على الاستكبار على الله اليوم إذا دعا داعي الموت وأقبل ملك الموت ليستل الروح من جسد.
الواحد من هؤلاء الناس أين يبقى استكباره؟ أين يبقى عتوه؟ أين يبقى احتجابه على أمر الله سبحانه وتعالى؟ ما ضر لو علم هؤلاء الناس أن قبورهم تنتظرهم فجاؤوا وهرعوا إلى صلاة الاستسقاء بالأمس يتوبون إلى الله يعلنون عن عبوديتهم لله، يصالحون بين قبورهم وقصورهم، يقيمون لأنفسهم جسراً مع الله سبحانه وتعالى ليقبلهم إذا تابوا وآبوا عند ضجعة الموت؟ ما ضر لكن الكبر هو الذي يحجب أسأل الله سبحانه وتعالى أن يمتعنا بعبوديتنا له وأن يجعل من هذه العبودية خير تاجٍ نتتوج به ونسأل الله عز وجل أن يجعل من عبوديتنا له خير طريق ننفذ إليه غداً وقد رفعنا الرأس عالياً لا بوظيفة باطلةٍ راحلة نتبوأها ولا بمال وفير يذهب ولكننا نرحل إلى الله عز وجل بما هو أبقى وأنقى.. عبوديتنا لله.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي