مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 08/07/2005

حسن الخلق .. سلاحنا الأمضى

حسن الخلق .. سلاحنا الأمضى
خطبة الإمام الشهيد البوطي
تاريخ الخطبة: 08/07/2005


الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.
أمّا بعدُ فيا عباد الله ..
لقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيما رواه البزار والطبراني في الصغير والأوسط من حديث عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن أحبكم إلي أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إلي أسوؤكم أخلاقاً، المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الملتمسون للبرءاء العيب.
وقد روى الطبراني أيضاً وأبو يعلى وغيرهما من حديث أبي ثعلبة الخشني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، الموطؤون أكنافاً، الذين يألفون ويُؤلفون، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة أسوؤكم أخلاقاً الثرثارون المتدشدقون المتفيهقون". قال قائلٌ من أصحاب المصطفى صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله عرفنا الثرثارين والمتشدقين فمن المتفيهقون؟ قال "المتكبرون.
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فلتسعكم منهم بسطة الوجه وحسن الخلق.
وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أيضا أنه قال: إن المؤمن ليبلغ بحسن الخلق درجة الصائم القائم. أي القائم المتهجد بليل...
والأحاديث التي صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتعلقة بحسن الخلق كثيرة جداً أيها الإخوة.
ولعل فينا من يتصور أو يخيل إليه أن حسن الخلق الذي يدعو إليه المصطفى صلى الله عليه وسلم إنما ينبغي أن يسري علاقة بين المؤمنين بعضهم مع بعض، ولكن الأمر ليس كما يتصور هؤلاء الناس أبداً بل إن المصطفى صلى الله عليه وسلم أمر أمته بالتحلي بحسن الخلق بل باتخاذه أول سبيلٍ للدعوة إلى الله سبحانه وتعالى مع الناس جميعاً. ألا تلاحظون قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، لم يقل: إنكم لن تسعوا المسلمين بل قال: إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فلتسعكم منهم - أي من الناس جميعاً - بسطة الوجه وحسن الخلق.
وعندما خاطب الرب سبحانه وتعالى جل جلاله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بقوله فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِك. لم يكن الضمير راجعاً إلى المسلمين فقط، بل كان راجعاً إلى الناس جميعاً وفي مقدمتهم المشركون. فبما رحمة من الله لنت لهم يا محمد، لهؤلاء المشركين الذين يؤذونك والذين يستكبرون على الدعوة التي بعثت بها، فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِك.
هذا الذي يقوله لنا المصطفى صلى الله عليه وسلم هو أول سلاحٍ بل هو أمضى سلاح أيها الإخوة في طريق الدعوة إلى الله عز وجل، بل هو السلاح الأمضى في باب الجهاد في سبيل الله عز وجل، وهو المفتاح الذي به يدخل المسلمون قلوب عتاة الملحدين والطغاة والظالمين، إذا فُقد حسن الخلق فإن الوسائل المادية كلها لن تجدي فتيلا، وإن الأسلحة المتنوعة المتطورة كلها لن تحقق إلا مزيداً من الفتنة ولن تزيد ما بين المسلمين وغيرهم إلا عمقاً في الشقة وبعداً في المنال. لولا هذا الذي أقوله لكم لما ندب المصطفى صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى هذا الخلق، ولا أمرهم أن يتخذوا منه البوابة الأولى المقدسة للجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى.
ولقد تحلى أصحاب المصطفى صلى الله عليه وسلم بحسن الخلق واستجابوا لهذا الذي ندبهم إليه رسول الله وأمرهم به الله سبحانه وتعالى، بهذا السلاح فتحوا مشارق الأرض ومغاربها، لم يفتحوها أراضي وأوطانا وإنما فتحوها عن طريق القلوب التي تعشقتهم، عن طريق العواطف التي ارتبطت بهم أيما ارتباط. فيم كانت هذه الرابطة؟ بحسن الخلق. إنما دخل الإسلام في الأندلس وتغلغل في ربوع الغرب وقامت دولةٌ قويةٌ إسلامية هناك، أشرقت ضمن الظلام الحالك في أوروبا، بماذا؟ أفكانت السبيل إلى ذلك أسلحة متطورة؟ أفكان السبيل إلى ذلك قتالاً كان المسلمون أقدر فيه من أولئك الأنداد الأوربيين؟ لم يكن الأمر هكذا ولا هكذا، إنما كان السبيل الذي به دخل المسلمون تلك الأرض والسلم الذي به هيمن المسلمون وبنوا الدولة الإسلامية المثلى إنما كانت دعامة ذلك الأخلاق الفاضلة، الأخلاق الفاضلة.
واليوم فقدنا هذه الأخلاق التي أمرنا بها الله سبحانه وتعالى، فقدناها لسببين اثنين.
السبب الأول: أن منبع الأخلاق الراشدة لا يمكن أن يتحقق إلا في الإيمان الحقيقي بالله عز وجل واصطباغ المرء بحقيقة العبودية لله عز وجل، فمن فاض قلبه إيماناً بالله ومن اصطبغ كيانه بالعبودية لله كان لا بد أن يتعامل مع عباد الله عز وجل بالأخلاق الرضية الفاضلة. عبودية لله واستكبارٌ على عباد الله لا يجتمعان، لا يجتمعان أيها الإخوة.
من هم الموطؤون أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون؟ هم الذين دانوا بحقيقة العبودية لله عز وجل فتقلمت مخالب الكبرياء في نفوسهم وتهذبت مشاعرهم الإنسانية وغدوا يتعاملون مع الناس جميعاً على مستوى هذه الأخلاق النابعة من عبوديتهم لله عز وجل، هذه العبودية التي ينبغي أن يصطبغ بها المسلمون غابت تقريباً، غابت أيها الإخوة، ونحن في أحسن أحوالنا نصطبغ بالإسلام فكرة، نصطبغ بالإسلام حديثاً، نصطبغ بالإسلام حفظاً لقواعده ومبادئه ونتسابق بالمناسبات إلى هذا الذي أقوله لكم. أما العبودية لله عز وجل فحاولوا أن تشموا رائحتها، لن تجدوا مشاعر العبودية متلألأة جلية واضحة في أكثر فئات المسلمين في هذا العصر على اختلاف درجاتهم وعلى اختلاف مستوياتهم، والإسلام الفكري لا يوجد الأخلاق الفاضلة، الإسلام العقلاني وحده لا يحقق هذه الأخلاق الرضية التي يأمر بها المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
السبب الثاني: هذا الالتباس الذي يقع فيه كثير من الناس حتى المثقفين ثقافة إسلامية اليوم، إذ يلتبس عليهم الخلق الإسلامي الراشد الإنساني السليم الذي يأمرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الجهاد القتالي في سبيل الله سبحانه وتعالى، يظن كثير من الناس أن الله عز وجل قد أمرنا بمقاتلة الطغاة والمارقين المعتدين والمحتلين للأرض والوطن والمعتدين على الحقوق، أما وقد أمرنا الله بهذا إذاً ينبغي أن لا يعايش الجهاد الأخلاق الإنسانية الفاضلة، ولكأن بينهما تناقضاً والأمر ليس كذلك، الأخلاق الإنسانية الراشدة هي الجذع الذي لابد منه لأغضان الجهاد.
لابد أن يكون المنطلق الأخلاق الإسلامية والإنسانية الحميدة التي كم وكم شرحها لنا المصطفى صلى الله عليه وسلم ودعانا إليها، حتى إذا أسسنا علاقتنا مع الآخرين على هذا الجذع الراسخ بعد ذلك تنبثق أنواع الجهاد فيما بعد، فإذا رأينا من اعتدى على الرغم من أخلاقنا الإنسانية الفاضلة وعلى الرغم من تمسكنا بميزان العدل وبالميزان الذي عبر عنه البيان الإلهي إذ قال: وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى. عندما نسير على هذا المنوال ثم نجد من الطغاة من يركبون رؤوسهم ولا يتأثرون بهذه الأخلاق الإسلامية الحميدة التي نعاملهم على أساسها، يأتي بعد ذلك امتشاق السلاح. هذا وذاك يتعايشان وكل منهما له دور يحقق ذاته في مرحلة من المراحل أيها الإخوة.
ولكنا اليوم نجد أناساً من المسلمين ودعوا الأخلاق الإسلامية الحميدة التي أمر الله عز وجل بها وارتدوا أقنعة غريبة عجيبة تذكرنا بوحشية الوحوش في الأدغال وتنسينا معنى الإنسانية في هذا الكائن الذي كرمه الله سبحانه وتعالى، نعم ويقاتلون دون أن يبالوا ببر ولا فاجر وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك. هذا الواقع هو السبب الثاني أيها الإخوة.
لابد أن نعلم أن البوابة القدسية العظمى التي بها ندخل إلى ساحة الجهاد القتالي إنما هو حسن الخلق، هذا الذي ينبغي أن يشهده العالم كله منا وينبغي أن يراه صورة مميزة تميز الأمة الإسلامية عن غيرها من الناس، انظروا إلى تاريخ المجاهدين في سبيل الله منذ عصر الصحابة إلى أن جاء هذا العصر المدلهم المظلم الذي نعاني فيه مما تعرفون، تجدون أن كل المقاتلين في سبيل الله انطلقوا من هذا الذي أقوله لكم.
عهدكم بصلاح الدين قريب ألا تعلمون كيف جمع بين الأخلاق الإنسانية الراشدة التي طأطأ لها الغرب رأسه إلى جانب القتال في سبيل الله سبحانه وتعالى. نور الدين الزنكي ضرب المثل الأعلى للأخلاق الإنسانية التي جعلت الغرب يتعشقه مع السلاح الذي يحمله بيمناه، يحمل الأخلاق وبيسراه يحمل السلاح. محمد الفاتح من قبل هؤلاء ومن بعدهم كلهم ضربوا المثل الأعلى في الأخلاق الإنسانية الراشدة.
اليوم أيها الأخوة هذا الهرج و المرج الذي تسمعون عنه، تأملوا بعقولكم ماذا عسى أن يحدث؟ أي ثمرةٍ إسلاميةٍ يمكن أن يجنيها المسلمون من وراء ذلك أبداً بشكل من الأشكال، ردة الفعل خلق ذميم حذر منه ديننا وإسلامنا، ردة الفعل التي تنبثق من ردة فعل أخرى كلاهما محطم وكلاهما لا فائدة من ورائها بشكل من الأشكال قط، النهج الإسلامي السديد الذي ربانا عليه مولانا وخالقنا سبحانه وتعالى هو الذي ينبغي أن نسير عليه وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى البرءاء فيم يقتلون؟ إذا كان زيد من الناس قد ظلمني واستلب مني حقي وبسط كيانه على أرضي أسعى سعي اللاهث لقتله ولسحقه وللقضاء عليه إن لم يخرج من أرضي وإن لم يعد إلي حقي، أما البرءاء ففيما أقتلهم وفيما أقوم بهذا العمل الهمجي وربي سبحانه وتعالى يقول: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى.
إن هذا العمل يكرس أيها الإخوة المزيد والمزيد من الصورة المظلمة المزيفة لإسلامنا الحقيقي، إسلامنا مشرق نور، إسلامنا الحقيقي مهوى القلوب، إسلامنا الحقيقي تتعشقه العواطف وهذا وقع فيما مضى ويقع اليوم، لكن أرني أناساً تخلقوا بالأخلاق الإنسانية الحميدة ونفذوا في أنفسهم وصية رسول الله إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فلتسعكم منهم بسطة الوجه وحسن الخلق أريكم كيف ينتشر الإسلام سريعاً كانتشار النار في الهشيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم فاستغفروه يغفر لكم.

تحميل



تشغيل

صوتي