مميز
EN عربي

السلاسل: القرآن والحياة

التاريخ: 12/02/1978

المدرس: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI

7- الحلقة السابعة: الفطرة

التصنيف: علوم القرآن الكريم

الإنسان يولد وفي كيانه بذورٌ من الفطرة، بذورٌ فطريةٌ للبحث عن طعامه وشرابه، ولرد الأخطار عن ذاته، ولتطلع إلى المجهول، كذلك تكون لديه بذورٌ فطريةٌ تدفعه للحنين إلى الإله الذي أبدعه، وللخضوع إلى سلطانه المهيمن عليه، وهي حقيقيةٌ، وإذا ارتبنا في بذور الفطرة الإيمانية فعلينا أن نرتاب في بذور الفِطَر الأخرى التي حدثتك عنها.


كما أنَّ البذور المبثوثة في طوايا الأرض تحتاج إلى رعايةٍ مستمرةٍ، ليتحول هذا البذر إلى شتلٍ، ثم إلى نباتٍ، ثم إلى شجرٍ باسقٍ، كذلك هذه البذور، تأتي التربية تغذيةً لها.


رغبة الطفل في أن يتعرف على طعامه وشرابه بذرةٌ موجودةٌ، ولكنَّها تحتاج إلى معرفةٍ تبيِّن له الطعام المفيد، وما يشبه الطعام المفيد ممَّا هو ضار، فيتقي هذا، ويبحث عن ذلك، وهذا لا يكون إلا بالعلم.


الناس الذين يعيشون في الأدغال يقتاتون على ورق الشجر، وهم يعبرون عن صدق النَّواة التي فطرهم الله عزَّ وجلَّ عليها عندما يبحثون عن طعام يقتاتونه، وفي الوقت ذاته يعبر سلوكهم هذا عن خطأ خطيرٍ؛ لأنهم لم يتلقوا المعارف التي تغذي هذه النواة الفطرية في كيانهم.


كذلك الطفل عندما يُخلَق يحنُّ إلى مولاه وخالقه، لا بسائق عقلٍ يفهم، ولكن بسائق الفطرة، ثم هذا الطفل إذا تُرِكَ بعيداً عن أي يدٍ تجنح به ذات اليمين أو ذات الشمال، فإنَّ هذه الفطرة تنمو، وليسوف يعبِّرُ عنها بلسانه عندما ينطق، ولسوف يعبر عنها بفكره عندما يبحث، وليسوف يبحث عن الإله الذي ينبغي أن يتعرف عليه، لكن إذا استلمته يدٌ أو أيدٍ تربويةٌ جانحةٌ بثَّت فيه الشبهات والأهواء، وأيقظت كوامن الشهوات والأنانية والكبرياء في كيانه، فإنَّ هذه الفطرة الإيمانية تخبو.


وقد لا نشم رائحة ما تسميه بالفطرة الإيمانية في بعض الناس، سبب ذلك أنَّ خيوطاً عنكبوتيةً استدارت، ثم استدارت، ثم استدارت؛ بسبب التربية السيئة الاجتماعية على هذه الفطرة، حتى دُفنت، فلم نعد نستطيع أن نعثر عليها، ومع ذلك فإنَّ هذه الفطرة ستستيقظ كما يستيقظ المارد عند أول هزَّة تعتري هذا الإنسان ينتفض بسببها، وينظر فيجد أنَّه لا يملك أن يتخلص من هذه الهزة بأيِّ وسيلةٍ بشريةٍ فتجد أنَّ هذه الفطرة قد استيقظت بين جوانحه وكيانه.


والدين سماه الله الفطرة في عددٍ من الآيات؛ منها: قول الله سبحانه وتعالى: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ والحديث القدسي الذي يقول فيه الله عزَّ وجلَّ: (إني خلقت عبادي حنفاء كلهم ثم أتت الشياطين فاجتالتهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما ليس لهم به علم، كل مولود يولد على الفطرة) إلى آخر الحديث.


وقول الله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾ أي: أن تقولوا يوم القيامة إنَّا كنَّا عن هذا غافلين، نحن نعلم أنَّ الإنسان قبل أن يولد موجودٌ، موجودٌ روحاً، وهذه الأرواح موجودةٌ منذ عصرٍ لا ندرك مصدره أبداً، ولكنَّ الله عزَّ وجلَّ أنبأنا أنَّهُ في عهدٍ من العهود خاطب هذه الأرواح، وعرَّفها على ذاتِهِ العلية، وأنبأها عن صلة ما بينها وبينه، ثم إنَّهُ أخذ منها الاعتراف ليقينها بأنَّ الله سبحانه وتعالى هو الإله، وهو الخالق، وهو المعبود لهم بحقٍ.


من المستحيل أن يكون هذا الخطاب قد خُزِّنَ في مخزنِ هذه الأذن الحديثة، وأن تكون هذه الذاكرة الموجودة في أقصى المخ قد وعت هذا الخطاب؛ لأنَّ هذه الأشياء جديدةٌ، إذاً ما الذي أدرك الخطاب الإلهي؟ الفطرة.


تجلس وحيداً، وتنظر إلى هذا الملكوت من حولك، تشعر بحنينٍ وطربٍ، تشعر بمعنىً لا تستطيع أن تتبينه الأذن، ولا يدركه الدماغ، إلا أنَّه أثرٌ من الخطاب القديم الذي خاطب الله سبحانه تعالى بهذه الأرواح.
بل أقول شيئاً آخر إنَّ الطرب الذي ينبعث في كيان الإنسان عندما يصغي إلى أنغامٍ شجيةٍ _لا أقصد الطرب الإيقاعي الذي يحفز الجسد إلى الرقص، بل الطرب الذي يحدث النشوة في الروح_ هذا الطربُ ليس له مصدرٌ ماديٌ، وإنَّما مصدرُهُ أنَّ الإنسان بروحانيته يبتعد عن العالم المادي، ليطل على عالمٍ قديمٍ، إطلالته هذه تجعله يشمُّ رائحة ذلك العهد، وعندئذٍ تصفوا لنفسه هذه النشوة.



تحميل



تشغيل

صوتي