
العلّامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي


السلاسل: القرآن والحياة
التاريخ: 29/01/1978
5- الحلقة الخامسة: القضاء والقدر
الإيمان بالقضاء والقدر من ضرورات الإسلام.
والقضاء: علم الله عزَّ وجلَّ بمستقبل الأشياء، وبعض هذه الأشياء يقع بخلقٍ مباشرٍ من الله؛ كالزلازل، ومن هذه الأمور ما يتمُّ عن طريقة إرادة الإنسان واختياره، أمَّا القدر فهو وقوع هذه الأشياء مطابقةً لِمَا سبق من علم الله عزَّ وجلَّ بها.
المراد من كلمة (خيره وشره): لفت النظر إلى أنَّ القضاء يتناول كلَّ حوادث الكون بما فيها من خيرٍ وشرٍ، وفيه ردٌ على تصورات الأديان الأخرى بوجود إلهٍ للخير وإلهٍ للشر بينهما خصامٌ، وهذا تصوُّرٌ خرافيٌّ وأسطوريٌّ لدى بعض قدماء اليونان.
مناط الثواب والعقاب ليس النية؛ لأنَّ النية قد ترقى إلى درجة العزم والقصد، وقد تكون متخلفة عن درجة القصد والعزم، ولا الفعل المادي، بل في القصد، وقصد الإنسان تأكيدٌ لاختياره، وتجسيدٌ لإرادته وحريته.
بعض الناس يتصورون: أنَّ الثواب والعقاب على الفعل المادي، وهنا ينبعث إشكالٌ وهو: أنَّ الفعل المادي إنَّما هو من خلق الله، فكيف يحاسبنا الله عليه، والخطأ يكمُن في تصور أنَّ الفعل هو مصدر الثواب والعقاب.
فإذا خطر في بالي فعلٌ، ثمَّ دعمت هذا الخاطر بالنية، ثم دعمت النية بالقصد والعزم، وأجمعت الأمر على أن أنفذ هذا الفعل، عندئذٍ يبثُّ الله في كياني القدرة التنفيذية تجسيداً لهذا القصد، وكأنَّ الفعل الذي يخلقه الله عزَّ وجلَّ يكون شاهداً على أني قد قصدت الطاعة أو المعصية.
ولا أدلَّ على هذا من كلمة الكسب التي يكررها القرآن ويجعلها مناط الثواب والعقاب، ألا ترى إلى قوله عزَّ وجلَّ: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾، وإلى قوله عزَّ وجلَّ: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾، والكسب هو القصد المتجه إلى الفعل.
القاضي مثلاً لا يؤاخذ إنساناً على فعلٍ ماديٍ تجسَّد فيه الجرم، ولكنه يقاضيه على القصد الذي تجسد فيه الجرم، فالإنسان الذي ينتهز فرصةَ غفلةِ المريض فيستلُّ قارورة الدَّواء من جنبه، ويضع في مكانها قارورة السُّم، ثم يحتسي المريضُ السمَّ وهو يتصور أنه دواء، فالفعل المادي صادرٌ من المريض، ولكنَّ القانون مع ذلك يقاضي الجاني؛ لأنَّ هذا الفعل الذي صدر منه دلَّ على أنَّ القصد الجرميَّ متكاملٌ بين جوانحه، وهذا ذاته ما شرعه الله سبحانه وتعالى، والرسول صلَّى الله عليه وسلَّم قد أوضح في أكثر من حديث أنَّ الإنسان الذي اتجه قصده إلى طاعةٍ ثم لم يتح له أن يفعلها تكتب له حسنةٌ، وإذا اتجه قصده إلى فعلٍ ثم فعل هذا الفعل تكتب له عشرُ حسناتٍ.
قوله تعالى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ معناه: أي لم تكونوا لتتمتعوا بمشيئةٍ ما لو لم أشأ أن أمتعكم بها، فالآية فقط تذكيرٌ للإنسان بنعمة الله على الإنسان، وفضله عليه إذ خلقه متمتعاً بالمشيئة والإرادة، فهذا تكريسٌ للمشيئة التي يتمتع بها الإنسان.
وحديثُ (فو الذي نفسي بيده إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الناس حتى ما يكون بينه وبينا إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها).
يقول قائلٌ: إذاً لم يبق للإنسان أي أثر لمشيئته لأنَّ الأمر يتمُّ بإرادة مباشرة من الله.
نقول: الرسول عليه الصلاة والسلام هو خير من شرح هذا الكلام لأنَّه قال في مجلسٍ آخر: (فو الذي نفسي بيده إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدوا حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع) ثم قال: (والذي نفسي بيده إن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدوا) فكلمة (فيما يبدوا) أوضحت البعد العميق لهذا الكلام.