
العلّامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي


السلاسل: القرآن والحياة
التاريخ: 22/01/1978
4- الحلقة الرابعة: مفهوم الوسطية والعدالة
كلمة الوسطية والعدالة تجتمعان على معنى واحد؛ وهو الاحتراز عن الجموح يمنةً أو يسرةً، فكأنَّ العدالة عبارةٌ عن خطٍّ بين قطبين جاذبين إلى الانحراف، هذا التعبير هو ذاته التعبير الذي استعمله القرآن ﴿وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ﴾، فالمعنى الذي أراده الشارع: أنَّ كلَّ ما فيه من عقائد متَّفِقٌ مع الفطرة الإنسانية المثلى، ومتَّفِقٌ مع موازين العقل وموازين المنطق.
كلُّ تصرُّفٍ يتصرَّفه العبد في أداء عبادةٍ إن كان يحقِّق الغاية من العبادة التي شرعها الله فهو ضمن صراط العدل والوسطية، فإذا وصل به المبالغة أو التدين إلى حالةٍ لم يعد يستطيع معها تحقيق هذه الغاية فيكون قد ابتعد من منهج العدل والوسطية، كما لو أراد إنسانٌ أن يقوم الليل كلَّه، فأصبح كسولاً ضعيفاً عاجزاً، وأقعده ذلك عن السعي في رحاب الحياة وفي فجاج الأرص لبناء المجتمع، والباري إنما شرع العبادة من أجل أن تتهذب النفس وتصبح بحالةٍ إذا خرج صاحبها إلى السوق يصلح الحياة.
كذلكم النقص، إذا قال أحدهم: لن أزيد على الفرائض أبداً، وعوَّد نفسه على ترك النوافل والسنن، فَقَدْ فَقَدَ قدرةً كبيرةً من فاعلية العبادة في كيانه، وأصبحت ضامرة هزيلة لا تستطيع أن تقوّم رعوناته.
فكلما كانت العبادة تحقق هدفها التربوي الذي شُرِعت لأجله، فصاحبها يتحرَّك ضمن صراط العدل والوسطية، وعندما تُفقَدُ الجدوى من العبادة فمعنى ذلك أنه دخل في ساحة الغلو.
ما نجده في كتب التراث من تراجمَ لأناسٍ حمَّلوا أنفسهم ما لا يستطيعه الإنسان من قلَّة طعامٍ، وزيادةِ قيامٍ في الليل، فهؤلاء الصالحون أعمالهم خاصَّة بهم، ولا يشكِّلون حجَّة على الشريعة أبداً، لا ننكر عليهم أحوالَهم الخاصَّة بهم، ولا نتبعهم أيضاً لأنا لسنا مثلهم.