مميز
EN عربي

السلاسل: محاضرات متفرقة في مناسبات مختلفة

التاريخ: 30/05/2013

المدرس: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI

كلمة في مؤتمر الغدير في لندن

التصنيف: فقه عام

هذه الكلمة ألقاها الدكتور البوطي رحمه الله في مهرجان الإمام عليّ كرّم الله وجهه عام 1991 في لندن.
أيها السادة: أجدني اليوم، بعد أن أصغينا معاً إلى المحاضرات التي ألقيت بالأمس، مضطراً إلى أن أفاجئكم بطيّ موضوعي الذي أعددته وكتبته، بعيداً عن مسألة الغدير والشيعة، ذلك لأني لن أجد متسعاً له في أذهانكم اليوم، لا سيّما أنا قد استمعنا البارحة، فيما استمعنا، إلى محاضرتين بلغتا الأوج في الأهمية والموضوعية؛ أولاهما لسماحة الشيخ محمد بحر العلوم، والثانية لسماحة الشيخ محمد مهدي شمس الدين.
وإن بوسعكم أن تعلموا أن كلمتي التي سأرتجلها الآن، لن تكون في مجملها أكثر من توقيع على الأفكار الرائعة التي وُضعت فيها النقاط على الحروف من هذين الباحثين الجليلين.
غير أن توقيعي هذا لن يكون مجرد كلمة تخط على ورق، وإنما هو بيان وتعليق وتعميق للمعاني التي أصغينا إليها.
لقد كانت كلمة سماحة الأستاذ الجليل الشيخ محمد مهدي شمس الدين، من الموضوعية والدقة، بحيث تناسى الرجل انتماءه المذهبي وصعد إلى أعلى درجات الصفاء الإسلامي، واستطاع من هذا المنطلق ومن ذلك التحليق أن يضعنا أمام فكر موضوعي رائع.
أفليس من الحق ومن مقتضيات العدل أن يقوم باحث مثلي، ربما كان ينتمي إلى مذهب مقابل، فيقف الموقف ذاته، ويذهب مذهب الأستاذ الجليل في هذه الموضوعية، بحيث يتخلى هو الآخر عن مذهبيته وانتمائه، ليلتقي معه في قمة الصفاء الإسلامي، وعلى أساس من الحقيقة الإسلامية ذات الجذور الواحدة والموحدة؟
هذا ما قد شعرت بضرورته. وهذا ما ندبت نفسي إليه، وأسأل الله تعالى التوفيق.
لا شك أيها الإخوة، أن وحدة الأمة أساس مقدس، بل لعله أقدس أساس. بل إني لا أعتقد أن الإسلام جاء لتحقيق هدف من الأهداف، أجلّ وأخطر من تحقيق وحدة الأسرة الإنسانية.. إن الإسلام جاء ليوحّد الأمم والقبائل والشعوب الإنسانية المتفرقة.
وإنني لأتصور أنه كلما كان سلوك المسلمين وتوجهاتهم الإسلامية محققين لهذه الغاية فإن سلوكهم سليم وصحيح. وكلما كانت أنشطتهم الإسلامية تسير في نقيض هذا الطريق، وتبعثهم على التفرق والشتات فإن سلوكهم منحرف وغير صحيح.
وإني لا أزال أتساءل: أيعقل أن يكون الإسلام الذي وحّد، بالأمس، القبائل المتخاصمة والمتعادية، هو بذاته الإسلام الذي يفرق ويشتت، اليوم، الأمة المتضامنة الواحدة؟!.. إنني لا أستطيع أن أتصور أن هذا الإسلام الذي نمارسه اليوم هو ذاته الذي مارسه سلفنا وأجدادنا بالأمس!..
وحدة الأمة، هي القطب الذي تدور عليه رحى الإسلام أجمع.. إذن ينبغي أن ننطلق من هذا الأساس.
أما ما يتعلق بأصول الإسلام ومبادئه الكلية التي لاخلاف فيها اليوم، ولم يقع فيها أي خلاف بالأمس، فلا نتوقف عند شيء منها، بل لا يوجد أي إشكال فيها.
ولكن الحديث هنا ينبغي أن يتناول الغدير -حديث الغدير- وما تفرع عنه، والمشكلات التي صورها لنا كل من الأستاذين الجليلين بالأمس.. هذه المشكلات كيف يمكن حلّها، وقد علمنا أن أقدس ما جاء الإسلام لتحقيقه إنما هو وحدة الأمة؟
ولحسن الحظ، كلنا متفقون ولله الحمد على هذا الهدف الأقدس. فأنا ما سمعت فيما سمعت بالأمس، وقبل الأمس، شيئاً من الكلمات والتدخلات، إلا ولاحظت أن المتحدث ينشد الوحدة الإسلامية، ويهتف بها، ويطلق الزفرات المتتالية لابتعادنا عنها.
إلا أننا عندما نسير في خطواتنا العملية، ابتغاء تحقيق الإسلام، نجد أن هذا الهدف قد تبخر، ونجد أنفسنا عاجزين عن القبض عليه بأي شكل من الأشكال. ولعل لذلك سبباً.. بل لابدّ أن له سبباً!..
هذا السبب لفت القرآن الكريم نظرنا إليه، وهو حقيقة علمية منطقية هندسية معروفة.. أنا لكي أرسم دائرة هندسية متكاملة، لابد أن أضع يدي قبل ذلك على المحور الثابت.. إن المحور هو الذي يوجد الدائرة التي تتكامل من حوله. فإذا لم أستطع أن أثبت يدي على المحور الداخلي، فهيهات أن أستطيع إدارة خط متكامل يعبر عن الوحدة!..
فما هو المحور الذي يلمّ الشعث؟ ما المحور الذي يوجد الدائرة؟
لقد أجاب القرآن الكريم عن هذا السؤال عندما قال: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولاتفرقوا}. لم يقل: لاتفرقوا، بادئ ذي بدء. ولو بدأ فقال: لا تفرقوا، أو اتحدوا، لما استطاع الناس إلى ذلك سبيلاً، ولما استطاع المنطق أن ينجدهم في تحقيق هذا الأمر.
ولكن البيان الإلهي قال قبل كل شيء: واعتصموا بحبل الله.. أي أمرهم بوضع المحور، حتى إذا استجابوا لهذا الأمر واعتصموا بحبل الله، أتيح لهم بعد ذلك أن يحققوا الوحدة التي ندبهم إليها.
ونحن اليوم بحاجة إلى أن نلمس المحور الذي يعيد وحدتنا إلى بنائها الحقيقي القائم.. فما هو هذا المحور في موضوعنا اليوم.. موضوع الغدير وما يتفرّع عنه؟
أعتقد أن المحور هنا يتكون من حقيقتين اثنتين: أولاهما حب آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثانيهما الاقتداء بآل بيت رسول الله الذين يجب أن نحبهم.
أما الحب، فأنا أتلمس مكانه في نفسي ونفس كل إنسان صادق في إسلامه، فلا أجد في هذا أي فرق بين مسلم ومسلم.. منذا الذي لايفيض قلبه حباً لعلي رضي الله عنه وكرم الله وجهه وعليه السلام؟!.. منذا الذي صدق في إسلامه ثم لم يفض قلبه حباً لآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم !؟
وإنني لأعتقد أن الإمام الشافعي إنما كان يعبّر عن مشاعر كل المسلمين عندما قال:
إن كان رفضاً حبّ آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي
بل إنني لأعتقد أن كل ذي شعور صادق في محبة الله ورسوله عليه الصلاة والسلام لابدّ أن يردد مع البوصيري أبياته هذه:
آل بيت النبي طبتم فطاب الـ ... ـمدح لي فيكم وطاب الرثاء
أنا حسان مدحكم فإذا نحـ ...ت عليكم فإنني الخنساء
سدتم الناس بالتقى وسواكم .. سوّدته البيضاء والصفراء
فابكهم ما استطعت إن قليلاً .. في عظيم من المصاب البكاء
غير أني فوضت أمري إلى اللـّ ... ـه وتفويضي الأمور براء
وعندما شرفني الله لأول مرة بالحج إلى بيته الحرام، ثم بزيارة مثوى رسول الله صلى الله عليه وسلم، دخلت البقيع، ووجدتني مندمجاً مع إخوة جاؤوا من إيران يزورون قبور آل البيت.. وقفت معهم، واندمجت في جموعهم، وأصغيت إلى أبيات فارسية من الرثاء لهم -وأنا أفهم شيئاً من الفارسية- تأثرت كما تأثروا، وبكيت كما بكوا، واندمجت معهم في شعور هو معين من معين الإسلام، وغصن من جذع دين الله عز وجل.
هذه الحقيقة القائمة الكبرى، أتلمس مكاناً فيها لمذهب دون مذهب، أو لخلاف بين فئة وفئة من المسلمين، فلا أجد.
الحقيقة الثانية في هذا المحور، هي الاقتداء بآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونحن نعلم أن من أبرز وأهم وأبسط ثمرات الحب الاقتداء بالمحبوب؛ إن المحب لمن يحب مطيع.. إنني أنظر إلى هذه الحقيقة الثابتة؛ وأحاسب نفسي، وأحاسب كل مسلم، بقطع النظر عن مذهبه ونوع انتمائه، فلا أجد مسلماً صادقاً مع الله إلا وهو مقتد في سلوكه ومشاعره بآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وولله الذي لا إله إلا هو، لو أن علياً كرم الله وجهه اتخذ يوم السقيفة موقفاً مستقلاً، أو اتخذ يوم استخلاف أبي بكر لعمر موقفاً مستقلاً، أو يوم الشورى التي بويع على أعقابها لعثمان موقفاً مستقلاً، إذن لتركنا كل نهج واتبعنا نهج علي!..
ولكن نظرنا فوجدنا هذا الإمام الجليل اندمج في فكره وسلوكه مع الكلمة الجامعة.. مع النهج الإسلامي العام.. فكان لابد أن يقودنا الحب إلى الاقتداء به وإلى سلوك النهج الذي سلكه.
وأنا لا أذهب في تحليلي لهذا الموقف إلى أكثر من هذا الكلام. حسبي أن أجد علياً رضي الله عنه سار في هذا المنحى لأتبعه.. أنا مسلم، ولا داعي إلى أن أحلل وأن أتساءل.. ليست لي مصلحة في أن أضعف حديث الغدير، وليست لي أي مصلحة في أن أؤول، أو أن أبتعد في الكلام عن ظاهره.. يغنيني عن ذلك كله أن أجعل من سيدنا علي رائدي في تفسير الحديث، بل في تفسير هذا الأمر كله.
وآية هذا الذي أقول.. آية هذا الاقتداء الذي أشعر بضرورته.. وأشعر أن إيماني ينقص وربما يتزلزل ويضطرب، إن لم يتحقق هذا الاقتداء بآل بيت رسول الله، آية ذلك: أن علياً رضي الله عنه عندما اتخذ موقفاً صريحاً من معاوية أيام الفتنة، بعد مقتل عثمان، وكتب إليه الرسائل.. وأعلن أنه -أي معاوية- منحرف عن الخط، خارج عن النهج، اتجه جمهور المسلمين إلى ما اتجه إليه علي.. ولعلكم جميعاً تعلمون أن جمهور الفقهاء يقررون أن علياً هو صاحب الولاية والخلافة بعد عثمان، وأن صف معاوية يشكل البغي.. قرأنا هذا في كتب الشريعة الإسلامية؛ هذا هو رأي الإمام الشافعي، وهو رأي الإمام أبي حنيفة.. وهذا هو رأي الجمهور. (على الهامش: البغي هو الخروج على إمام المسلمين أو التمرد على شرعية حكمه، بموجب تأويل اجتهادي من الباغي، وعلى الرغم من أن إمام المسلمين يملك صدّه ومقاتلته اعتماداً منه على اجتهاده المقابل، فإن الباغي لا يكفّر ولايفسّق لمجرد بغيه).
أين يكمن الخلاف إذن أيها الإخوة؟
يكمن الخلاف فيما شجر بين المسلمين من بعد.. هذا ما أتصوره.
يكمن الخلاف في سلسلة الخلافة التي رأى الإخوة الشيعة أنها ينبغي أن تكون محصورة في سلالة علي رضي الله عنه، إلى عهد الإمام الثاني عشر الذي اختفى كما يقرر الإخوة الشيعة.
تلك هي منطقة الخلاف وحدودها في هذه المسألة.
وأنا أقول: إنها مسألة اجتهادية.. مسألة اجتهادية مجردة. جمهور المسلمين يرون أن حديث الغدير وما يتفرع عنه وما قد يوحي به، إنما يتعلق ذلك كله بشخص علي رضي الله عنه دون غيره.. وإنما على المسلمين أن يجتهدوا ويتفقوا بعد ذلك على اختيار من يشاؤون. (على الهامش: على أن علياً رضي الله عنه لم يفسر حديث الغدير كما فسره الإخوة الشيعة، أي لم يفسر كلمة (.. فإن علياً مولاه) بالخلافه السياسية من بعده، إذ لو كان هذا تفسيرها في اجتهاده، لأعلن ذلك يوم السقيفة ودعا إلى هذا الحق لنفسه محتجاً بهذا الحديث، ولاتخذ الموقف ذاته الذي اتخذه من معاوية بعد مقتل عثمان)
أما إخواننا الشيعة فيرون أن حديث الغدير يشير إلى إمامة عليّ أولاً، ثم تمتد الإشارة منه إلى آل بيته حتى غياب الإمام الثاني عشر ثانياً..
هذه المرحلة، أياً كانت أهمية الخلاف فيها، تجاوزناها.. طويت.. غدت تاريخاً مضى.. واليوم نحن نسير في الفترة التي يغيب فيها الإمام المنتظر في اعتقاد الإخوة الشيعة، أقول لكم بحق.. أقول عن نفسي وعن كل مسلم: عندما يحين ظهور هذا الإمام الغائب، وعندما يظهر فعلاً، لن يكون هناك أي لبس على ظهوره، ولن يكون هناك أي ضباب أو اضطراب يغشّي على شخصيته، وعندما يحين ذلك الميعاد فلسوف تجدون أن المسلمين جميعاً قد غدوا مذهباً واحداً وأنهم جميعاً يقدّمون الولاء لهذا الإمام ويتقدمون بالبيعة له !..
هذا بالنسبة إلى المستقبل المنظور.. وذلك بالنسبة إلى الماضي منذ وفاة رسول الله إلى أواخر الخلافة الراشدة، لايوجد هنا أو هناك أي خلاف قط.
رقعة الخلاف تتمثل فيما بين ذلك.. أما ما عداها فلا أجد موضوعاً لأي خلاف.
لا أجد مادّة أستطيع أن أضع يدي عليها لأعثر فيها على ينبوع خلاف أو سبب فرقة قط. وأعتقد أن هذا المعنى ماثل أمام الأبصار والبصائر جميعاً، ومن ثم فهو يكفينا مؤونة الخوض في تفاسير قد تتفرع عنها اجتهادات خلافية شتى، هذا الحل يكفينا مؤونة تأويل لسنا بصدده ولسنا بحاجة إليه قط. ثم إن هذا واقع.. واقع نلمسه ونعيشه.
إذن.. أين بقي الإشكال الخفي؟
اسمحوا لي، أيها الأخوة، أن أقول بصراحة، وأن أستظل بصراحة الكلمات التي أصغينا إليها بالأمس: إن الذي كان ولايزال يفرق بين المسلمين إنما هو العصبيات العصبيات والأهواء!!.. عندما ينسى الإنسان أن المذهب خادم للمبدأ، يضحي بالمبدأ في سبيل المذهب. وتلك هي ثمرة العصبية الخطيرة في حياة المسلمين، بل في حياة الجماعات الإسلامية كافة. ولو أن الناس، أو لو أن المسلمين بالأحرى، تنبّهوا إلى أن المذهب لايبرر وجوده إلا أن يكون خادماً للمبدأ المتفق عليه، لحركوا المذهب كما يقتضي المبدأ، ولسيّروا الفروع كما تقتضي الجذور.. ولتحررنا عندئذ من عصبياتنا، ولتحررنا من أهوائنا.
وأنا أقول هذا الكلام انطلاقاً من النظر إلى نفسي.. انطلاقاً مما أثبتناه في بعض الأحيان من آراء واجتهادات. إنني عندما أنسى في كثير من الأحيان أنني مشدود إلى مبدأ وأنني مكلف برعاية هذا المبدأ -والإنسان بشر- أجد حافزاً خفياً بين جوانحي وقوياً يدفعني إلى أن أنتصر للفكرة التي ناديت بها، وأشعر أنها قد غدت جزءاً من شخصيتي وكياني، بل أشعر أنني من منطلق الدفاع عن شخصيتي أدافع عن هذه الفكرة. ولكني أعود فأذكر المبدأ الذي شدّني الله إليه.
وأنا لا أزال أذكر -أيها الإخوة- كلمة أثّرت في نفسي تأثيراً عميقاً، سمعتها من سماحة الأستاذ محمد مهدي شمس الدين في أحد المؤتمرات التي عقدت في الجزائر، عندما قال: "مهما كانت اجتهاداتنا وآراؤنا، فيجب ألا ننسى أن علينا أن نتمسك بحجة سنمضي بها إلى الدّيّان يوم القيامة وسيسألنا الله عنها"، وقد كررها البارحة.. ألا فلنعلم أنها العمود الفقري في حلّ كل مشكلة ومعضلة.. نحن سائرون إلى نهاية. ونهايتنا وقفة بين يدي الله سبحانه وتعالى. وأمام ذلك المصير ستذوب عصبياتنا، وتنمحي انتماءاتنا.. ولسوف ننسى ما كنا ندافع عنه، ربما، من أهواء ورغبات وشهوات، ونجدنا أمام الحقيقة العارية التي نُدبنا في هذه الحياة إلى الدفاع عنها والتمسك بها. فماذا نحن قائلون؟ وبأي منطق ندافع آنذاك عن مواقفنا اليوم؟
إنني أحب لنفسي، كلما تبنّيت رأياً، أن أضع نفسي من هذا الرأي أمام مقياس.. ومقياسي هو ذلك المصير.. ترى هل أستطيع أن أدافع عن رأيي هذا أمام الله؟.. هل أستطيع أن أمسك بحجة يقبلها الله مني، سواء كانت هذه الحجة تعتمد على أجرين من اجتهاد مصيب أو على أجر واحد من اجتهاد مخطئ؟..
أنا ما قرأت مرة شيئاً من ترجمة الإمام علي إلا وثار بين جوانحي شجو لا نهاية له.. وأنا أعجب عندما أسمع من بعض الإخوة كلمات توحي بشكل مقصود أو غير مقصود أن هذا الحب لا يعرفه ولم يذقه إلا بعض من المسلمين؛ أسعدهم الله دون غيرهم بهذه النشوة!..
والله إننا جميعاً نتحلق حول هذا المعين.. ووالله إننا جميعاً لننهل من هذه الكأس. ولكن هذا الحب يدعونا إلى الاقتداء.
أنا عندما أنظر إلى علي رضي الله عنه، وقد اتخذه كل من الخلفاء الثلاثة من قبله، مستشاراً بل أميراً له ربما، أميراً غير متوج، عندما أجد أن أبا بكر رضي الله عنه وقد خرج إلى ذي القصة لقتال المرتدين، وجاءه علي رضي الله عنه فأمسك بزمام فرسه قائلاً (وارجعوا للوقوف على هذا النص إلى أي مرجع تاريخي تريدون): "أقول لك يا خليفة رسول الله ما قال رسول الله يوم أحد: لمّ سيفك وأمتعنا بنفسك. فوالله لئن نكب المسلمون بك لن تقوم لهم قائمة من بعدك"!.. فعاد أبو بكر وكلّف باللواء غيره.
ثم أنظر إلى عمر إبان خلافته، وقد استشار هو الآخر علياً رضي الله عنه، في أن يخرج بنفسه إلى بلاد الفرس، فيقول له عليّ: "كن القطب الثابت وأدر رحى الحرب من دونك، وأصلهم دونك نار الحرب، فإنك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أقطارها، حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم إليك مما بين يديك". وإنّ أول مرجع لنا في هذه المشورة الأخوية الرائعة كتاب نهج البلاغة.
وعندما أجد نصائحه لعثمان وقد أحدق به أولئك الأشرار، ويستحيل أن تصدر إلا عن قلب مخلص محب، وعندما أجده وقد أرسل ريحانتيه: الحسن والحسين ليحرسا عثمان ضد أي خطر قد يتسرب إليه.. عندما أجد هذه المواقف كلها لعلي، كيف أستطيع أن أعبر عن حبي له؟ إنني لا أستطيع أن أعبر عن حبي هذا إلا باتباع خطواته.. إلا بالسير على النهج الذي سار عليه.. ووالله -أقولها ثانية- لو أن الإمام علياً كرم الله وجهه، اتخذ موقفاً مستقلاً في عهد من العهود، لتركنا كل خط دون خطه.
وبعد، فإذا كانت وحدة الأمة هي الأساس الأقدس، بل هي الهدف الأسمى الذي تدور عليه أحكام الإسلام العلمية والعملية جميعاً، فإن قداسة هذا المبدأ تتجلى في هذا العصر أكثر من أي عصر أخر مضى.
وإن أهمية الوصول إلى هذا الهدف الأقدس تدعونا إلى أن نجند كل الطاقات، وأن نضحي بكل آرائنا الاجتهادية، في سبيل الحفاظ على هذه الوحدة أو استعادتها.
من أين، وكيف أشعر بهذا المعنى؟
أشعر بهذا المعنى عندما أجد أن أعداءنا لا يرهبون فينا قوة مادية، ولا كنوزاً من مدخرات الأرض وخيراتها، ولا يرهبون فينا فكراً اجتهادياً ولا ماضياً حضارياً أفل نجمه. ولكنهم يخافون من شيء واحد!. يخافون أن تلتقي هذه الأمة على نهج واحد كما التقت بالأمس!..
يزداد شعوري بقداسة هذه الغاية وضرورة الجهاد في سبيلها، وأهمية التضحية بكل شيء من أجلها، عندما أصغي إلى الهمس.. بل إلى الكلمات الصارخة التي لم تعد همساً.. الكلمات الصارخة التي تصك آذاننا من أعداء الإسلام صباح مساء؛ إن العدو الأوحد للغرب والشرق غدا الإسلام.
ولعلكم جميعاً سمعتم الكلمة التي بثتها إذاعة لندن باللغة العربية يوم الثالث من شباط من هذا العام (عام 1991) في الساعة الرابعة والدقيقة الخامسة بتوقيت دمشق، على لسان الصحافة البريطانية نقلاً عن تاتشر، وهي قولها:
"لقد كان أمام الغرب عدوان اثنان: أحدهما الشيوعية والثاني الإسلام. وقد انهار صرح الشيوعية دون أن يقدم الغرب خسائر تذكر. واليوم يجتمع الشرق الكاثوليكي والأرثوذكسي مع الغرب في خندق واحد لمجابهة العدو الباقي وهو الإسلام".
هكذا يقولون.. فماذا نحن فاعلون؟ أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وأشكركم. والسلام عليكم ورحمة الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من كتاب: (وهذه مشكلاتنا) للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي

تحميل



تشغيل

صوتي