مميز
EN عربي

السلاسل: محاضرات متفرقة في مناسبات مختلفة

التاريخ: 23/05/2013

المدرس: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI

كلمة العلامة الشهيد بمناسبة دخول القرن الخامس عشر الهجري

التصنيف: فقه عام

كلمة العلامة الشهيد بمناسبة دخول القرن الخامس عشر الهجري
والتي ألقاها أمام الرئيس الراحل حافظ الأسد
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعدُ، فَيا سيادة الرئيس إنه لَشرفٌ عظيمٌ لنا جميعاً أن تُظِلَّنا ذكرى الهجرة النبوية في مُقتبَل عامٍ هجريٍّ جديد وإنه لَشرفٌ أعظم أن نكون ممن عاشوا فشهدوا الْــتِقاءَ قرنين من تاريخ هذه الأمة التي شاء الله أن تكون الهجرة النبويةُ مولداً زمانياً ومكانياً لها.
مضى أولُ هذين القرنَين بكلِّ ما انطوى عليه من وقائعَ وأحداثٍ، وأقبل ثانيهِما بكلِّ ما قد نرجوه من خير وآمال.
ثم إنه لشرفٌ أَجَلُّ وأعظم أن نعيش الأيام المقدسة في رأس هذا القرن، وهي تلك التي قال عنها رسول الله r ما صحّ عنه: "إن الله يبعث على رأس كلِّ مئةِ سنةٍ من يجدِّدُ لهذه الأمة دينَها"، ولستُ أعني شرفاً يتمثّل في كلماتٍ تُـصَفُّ، وذكرياتٍ تُستعاد، وإنما أقصد شرف المثول فكراً وسلوكاً تحت سلطان هذه الذكرى بل تحت سلطان مَن قد نسجَها في تاريخنا آيةَ عزٍّ وشعارَ عقيدةٍ ومبدأ.
أيها السادة الأَجِلّاء:
طالما تساءل باحثون: فيمَ مكّن الله قريشاً من استمرارِ التّطاول على رسول الله r، وتصعيدِ أسباب الأذيّة له والتضييقِ عليه حتى أُلجئَ من ذلك إلى مفارقةِ أرضه والابتعاد عن وطنه وهو الذي قال له: ((فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا))، وقال: ((وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى))، أفكان كثيراً في مصداق هذا الكلام أن يحميَه الله في وطنه فلا يضطرّه السوءُ إلى الخروج منه؟
والحقيقة أن المسألة تنطوي على حكمتَين باهرتين صاغتْهما التربية الربانية:
الحكمة الأولى:
تضييق المسافة بين عقول الناس واليقينِ بأن محمداً r رسولٌ من قِبَلِ الله، أمينٌ على أوامره وتعليماتِه إلى الناس جميعاً، فلَو أن الله أنفذ رسالةَ نبيه في نفقٍ من الحماية والرعاية التامّة لا يصيبُه أذىً ولا يـمَسُّه هوانٌ ولا يناله من عشيرته وقومه إلا التقدير والولاء، إذن لتَعكَّرَ صفاءُ الرؤية إلى الهوية الحقيقة لشخص محمد r، ولَأمكَن أن تلتبسَ على الناس هويَّتُه هذه بشوائب السعيِ إلى الـمُلك والمال، ولَــجازَ أن يُقال إنه إنما كانت تمهِّد لدعوته عواملُ قفزةٍ حضاريةٍ أو اقتصاديةٍ كانت تجيشُ في صدور قومه وعشيرته.
فلمّا ترك الله قريشاً لطبيعتها، ويسّر لها السبيلَ إلى اتّخاذِ موقفها الذي تشاء من نبوة محمد r بما قد تضمَّن من رُعونةٍ وكَيْدٍ آناً، ومن طرحِ عروضٍ دنيويةٍ مما قد يطمح إليه ذوو الرغبة في السلطة آناً آخر، تجلّت من خلال ذلك الهويّة الحقيقية التي قدّم محمد r نفسَه للناس كلِّهم على أساسها صافيةً عن الشوائب وموجبات اللَّبْس، وهي الهوية التي أطلعهم عليها مُكرِّراً ومؤكِّداً، عندما جاؤوا يعرضون عليه مرةً بصدقٍ الـمُلكَ والحُكمَ والمال - على أن يتخلى عن دعوته التي فاجأهم بها - عندما قال لهم هذه الكلمات: "ما جئتُ بما جئتكم به أطلب مالَكم ولا الشرفَ فيكم ولا الـمُلكَ عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولاً وانزل عليَّ كتاباً وأمرني أن أكونَ بشيراً ونذيراً، فبلَّـغْتُكم رسالات ربي ونصحْتُ لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظّكم في الدنيا والآخرة، وإن تَـــرُدّوه عليَّ أصبرْ لحُكمِ ربي لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم".
ثم إن الأحداث التي توالت على أعقاب كلماته هذه أثبتَتْ أنها إنما كانت تعبيراً عن حقيقةِ ما تُكِنُّه سريرتُه وينطوي عليه واقعُه، فلقد أطبقت الشِّـدَّة عليه من كل جانب حتى استيئَس من قومه فراح يعرض دعوته عل القبائل الأخرى التي كانت تَفِدُ إلى مكّةَ أيامَ الموسم وينادي فيها قائلاً: "أيها الناس هل من رجلٍ يحملُني إلى قومه فإن قريشاً منعوني من أن أُبلّغ كلام ربي؟".
ثم ازداد الأمر عليه شِدَّةً فلم يكن بُدٌّ له من أن يهاجر ومعه القِلّة ممن آمن معه وقد فارقوا الوطن والمال والدّيار، بل تَقَطَّع كثيرٌ حتى عن الأهل والأولاد.
وهكذا جاءت الهجرة، ومعها سائرُ أسبابها ومقدّماتها الموجبة، صقلاً وإبرازاً للهوية النظرية في شخص محمد r، وإثباتاً بيقينٍ علمي لا مَردَّ له أن دعوته لم تكن تستهدف زعامةً أو مُلكاً، ولم تكن ثورةَ يسارٍ أو يمينٍ، وإنما كانت في خلاصةِ ما تضمَّنتْه إبلاغاً لحقيقةٍ ربانيةٍ أوحيت إليه من السماء، لا مجموعةَ مواضعاتٍ وأفكارٍ نبعت إليه من الأرض، فهذه هي الحكمة الأولى.
أما الحكمة الثانية، فتتلخص في أن الهجرة النبوية استهدفت تثبيتَ قانونٍ كونيٍّ أمام بصائر الناس عن طريق التجربة والتطبيق، طالما عرّف عليه القرآن ونبَّه إليه بأساليبَ شتى وهو:
أن كلَّ ما قد تُثيره الحضارات من مظاهر القوة والـمَنَعة والثراء والعمران لا يمكن أن يــُحَصَّن إلا في وقايةٍ من العقائد والمبادئ الصحيحة والضوابط الأخلاقية الراسخة.
فمهما تعرَّتْ أمةٌ عن معاييرها العقيدية الصحيحة وتجرّدَت عن ضوابط الأخلاق السليمة فلْتعلم أن كلّ مظاهرها الحضارية قائمةٌ في العراء، معرّضةٌ للزّوال والانمحاق.
ولكن مهما تعرَّتْ أمةٌ عن مظاهر الثروة وأسباب الرفاهية والترف، فإنها لا بدّ أن ترتديَ من ذلك كلِّه مُلكاً سابغاً إذا كانت مُصطَبغةً بحقائقها الاعتقادية، ملتزمةً بمقتضياتها السلوكية والأخلاقية.
وبالإضافة إلى أن الله جلَّت عظَمتُه قد جعل من نشأة الحضارات واندثارها على مَرِّ التاريخ شاهداً على هذه السُّنَّة الكونيّة التي لا تَشذّ، فقد شاء الله أن يجعل من مثالِ الهجرة النبوية أبرزَ برهانٍ على ذلك يتلألأُ فوق أرفع ذروةٍ من ذُرا التاريخ، فقد وقع المسلمون بين اختيارَين لا ثالثَ لهما:
إما إيثارُ الوطن والمال واجتماعِ الشّمل، وتضمحِلُّ بالمقابل مقتضياتُ العقيدة وتُطوى صحائفُ الدعوة ...... وإما استمساكٌ بالحقائق الاعتقادية ومواصَلةٌ في طريق الدعوة، واستمرارٌ في السَّير على الصراط الذي رسمه لهم المولى عزَّ وجلَّ.
لكن، فبأيّ الكفّتَين يأخذون، وإلى أيِّ الاختيارَيْن يجنحون؟!
لم يتردّد ذلك الرعيلُ الأولُ في إيثار الآخرة التي هم مقبلون إليها على الدّنيا التي هم مدبِرون عنها، فتجافَوا عن مهادِ الوطن والدّيار وانطلقوا إلى حيث يقيمون مع رسول الله r أوّلَ دارٍ للإسلام، ويُنشِئون على أرضها أول دولةٍ إسلامية. ولكن ... فما الذي أثمره تمسُّكُهم بيقينهم الاعتقادي عند تلك القواعد السلوكية التي ألزمهم بها الله عزَّ وجلَّ؟
لقد أعاد إليهم الوطنَ ونزّلَهم منه أوطاناً كثيرةً أخرى، وفتح لهم مغاليقَ البلاد وأوصلهم إلى آفاق الدّنيا.
وأعلنت السّنّة الربّانيّةُ من خلال هذه التجربة على آذان الأجيال الـمُتعاقبة أنّ اصطباغَ العقول بالمعتقدات الثابتة، وانصياعَ النفوسِ لمبادئها السلوكية، هو الـحِرز الوحيد الذي تُحصَّن فيه المكتسباتُ الماديةُ والـمُنجزات الحضارية، بل إنهما خيرُ مصدرٍ لنَيلِها والحصولِ عليها.
وكان هذا الإعلان أجلى نموذجٍ تطبيقيٍّ لقرار الله عزّ وجلّ القائل: ((وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ))، والقائل: ((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً)).
غير أنّ بعضاً من الكُتّاب لم يُصغوا بآذانهم إلى هذا القرار القرآني فضلاً عن أن يتبيَّنوا سرَّه ودستورَه، فوقفوا أمام أحداث الفتح الإسلامي ومنجزاته الحضارية موقفَ الـمُتأمِّل الحائر، ثم راحوا ينعتون هذه الـمَعْلَمَة البارزة في التاريخ العربي بأنها لغز، وبقي هذا اللغز في أذهانهم بدون حلّ.
ولكنّ الحقيقةَ أن اللغز محلول، وأحداثُ الفتح الإسلامي الذي تَلَتْهُ نشأةٌ سريعةٌ لحضارةٍ إسلاميةٍ باسقة، لم تكن بِدْعاً من طبيعة الدهر وشأنِه، بل كانت خاضعةً أتمَّ ما يكون الخضوعُ لسُنَنِه وقوانينِه.
ويتلخّصُ الحلّ في أن النّشأة الأولى للحضارات ما انبثقت يوماً ما من مجهودٍ عضليّ، وإنما هي دائماً وليدةُ المعرفةِ أولاً، والرغبةِ ثانياً.
وليس المهمَّ أن تكون المعرفةُ في أولِ أمرِها مُعَمَّقَةً، ولكنّ المهمَّ جدّاً أن تكون صحيحةً وشاملة، ثم أن تكون الرّغبة الـمَخْـفِيَّةُ خاضعةً لسلطانِ تلك المعرفةِ، لا مُـتَأبِّـيَةً عليها.
ولما كان جُلُّ الحضاراتِ التي ظهرت قديماً وحديثاً على أيدي أممٍ مختلفةٍ قائماً على رغائبَ نفسيةٍ أكثر من أن يخضع لسلطان المعرفة الصحيحة الكلّية الشاملة، فقد نشأتْ ومعها بذورُ ضعفها وانمحاقِها، لذا فإنها لم تكَدْ تشِبُّ عن الطَّوق حتى أدركَها الذّبولُ فالموت.
أما الذين تحقّق على أيديهم ما يسمونه بــ (لغز الفتح الإسلامي) فقد أورثهم القرآنُ عقليةً ونفسيةً فريدةً، فلقد بصَّرَهم هذا الكتابُ الربانيّ الـمُعجِزُ بحقيقةِ كلٍّ من الكون والإنسانِ والحياة، وأبرَزَ لهم وجهَ التآلف والتناسق القائـمَيْن ما بينها، وتلك هي العناصرُ الأساسيةُ للمجتمع والحضارة، بل تلك هي أصولُ المعرفةِ الإنسانيةِ أجمع.
صحيحٌ أنها لم تكن بادئَ ذي بَدْءٍ (هنا يختفي الصوت) الأبعاد والجذور، ولكنّها كانت صحيحةً وشاملة لبنيان هذا الوجود كلِّه.
ثم إن القرآن غرس فيهم بأصوله التربوية عواملَ انقيادِ النفس للعقل، وخضوعِ الأهواء للعلم، فكان من ثمرات ذلك أنْ عرفوا أصولَ التعامل مع الدنيا التي تحيط بهم والحياة التي يتمتعون بها، وأتقنوا حركةَ الكرِّ والفرِّ لدى استخدامهما في تحقيق أهدافهم السامية، أي إنهم تعلّموا جيداً متى يستهينون بالحياة ومغرياتها، ومتى يستمسكون بهما ويحرصون عليهما.
فماذا عسى أن تكون النتيجةُ عندما يتلاقى هؤلاء الناس مع من أقاموا حضارتهم على محورٍ من عبادة الحياة والمال، وبَنَوها على ركامٍ من الجهل بهوية الإنسان وحقيقة الكَون والحياة.
وحسبنا لنتبيَّنَ عمْقَ هذا الأثر الانقلابي الذي أحدثته تلك التعريفات القرآنية في عقولهم ونفوسهم، أن نتأمّل نظرةَ أيِّ واحد منهم إلى الحياة وعلاقتَه بها أيامَ كان يخُبُّ في ظلامِ الجاهلية، ثم نتأمل حالَه معها بعد أن استيقظ إلى بصيرةِ القرن وهدْيِه، فتعرّف من خلالها إلى هويته وحقيقة العمر الذي يتمتع به والدنيا التي تموج من حوله.
ودونكم فانظروا إلى حياة الصحابة واحداً إثرَ آخر فسوف يطالعكم هيكلُ كلٍّ منهم على إنسانَين مختلفَين في النفس والفكر تعاقَبَا عليه ما بين جاهليّةٍ وإسلام.
انظروا مثلاً إلى عمر في فكره وأخلاقه وطبعه إذ كان يتقلّب في ماضيهِ الجاهلي، ثم انظروا إلى ذلك كلِّه منه بعد أن استضاء كيانُه ببصيرة القرآن.
وتأملوا حال مصعب بن عمير، مثالِ التّرف والأناقة والاعتداد بالنفس والتعلق بالحياة وزخرفِها في الجاهلية، ثم انظروا إلى الإنسان الآخر الذي تجلى في كيانه بعد أن أورثه القرآن تلك المعرفة الشاملة، وتأمّلوه وقد سقط شهيداً في غزوة أُحُد وليس عليه مما يُلبَس إلا ثوبٌ خلِقٌ وممزَّق إن ستروا به أدناه تكشّف أعلاه، وإن ستروا به أعلاه تكشّف أدناه.
وإليكم صورةً أخرى من هذا التناقض الحادّ بين إنسانَين تعاقبا في شخص الخنساء ما بين جاهلية وإسلام، وقد ملأت الدنيا عويلاً كما تعلمون على موت أخيها صخر أيامَ كانت تحسب هذه الحياة الدنيا يوماً لا ثاني له فهي الحظ الوحيد للإنسان الغريزي، وقام الكرب بين جوانحها عليه ثم لم يقعد، حتى عزمت على أن تُزهِق نفسها أسفاً عليه.
ثم آمنت بنبوة محمد r، وأصغت إلى البيان الإلهي عن قصة الوجود الإنساني كله، وصاغ القرآن من ذلك كيانا عقليا ونفسياً آخر في شخصها، انقلب الحال بها إلى نقيض ما كانت عليه، وأقبلت إلى أولادٍ أربعة لها، هم كلُّ ما تملكه من الدنيا فزَجَّتْ بهم في ضرام القادسية بعد أن جمعَتْهم فأوصتْهم قائلة: (يا بَنيَّ، إنكم أسلمتم لله طائعين وهاجرتم مختارين، والله الذي لا إله إلا هو، إنكم لَبَنو رجل واحد وامرأةٍ واحدة، ما خُنْتُ أباكم ولا فضَحْتُ خالَكم، امضوا إلى قتال عدوِّكم مستبصرين، وبالله على عدوّكم مستنصرين).
وجاءها النبأ بمصرعهم جميعاً واحداً إثر آخر، فكيف استقبلت النبأ، كيف استقبلت نبأ مصرع أولادها الأربعة - تلك التي ملأت الدنيا نواحاً على أخٍ لها اسمه صخر - ؟
لقد تقبّلت القضاء الإلهي صابرةً شاكرةً، ولم تزِد على أن قالت: (الحمد لله الذي شرّفني بقتلهم جميعاً، وأسأل الله أن يجمعني بهم في مستَقَرّ رحمته).
ألا ما أحرى الذين يهتفون اليوم بأمجاد القادسية وينتَشون بذكرى بطولاتها أن يتساءلوا ولو لساعةٍ واحدةٍ عن السّرّ الذي أقام تلك الأمجاد، إذن لأيقنوا أن السرّ إنا يكمن في تلك الصياغة القرآنية التي صيغت بها عقولُ أولئك الرجال والنساء، فانطلقوا يتعاملون مع الدنيا على أساس التبصُّر بحقيقتها، لا بدافع التعشّق النفسي لها، وفي هذه الجملة وحدها يكمُن حلُّ كلِّ اللغز.
والآن ألا يجدُر بنا أن نتساءل وقد امتدّ خمسة عشر قرناً بيننا وبين أخطر دعامةٍ للحضارة الإسلامية الإنسانية الـمُثلى، ألا وهي دعامة الهجرة، أقول ألا يجدُر بنا أن نتساءل أين نحن اليوم من روح هذه الذكرى ومقوماتها؟، بل أين نحن اليوم من دروسها وعِظاتها؟
ألم تتمزق في حياتنا المعرفةُ الشاملة بكُلِّيّاتِ الوجود، حتى استحالت إلى مِزَقٍ متنافرة تُضِلّ بدلاً من أن تهدي، وتفرّق بدلاً من أن تؤلّف؟
ألسنا نعكف على نسج كل زينة من مظاهر الحياة الدنيا حيلة براقةً لحياتنا بدلاً مما صنعه بُناةُ حضارتنا من اتخاذ الحياة ذاتها درعاً سابغاً للمبادئ والقِيم.
السيدَ الرئيس قائدَ هذه الأمة:
كان بوسعي أن أصوغ لكم أبلغ ثناءٍ يمكن أن يتخيَّره مادح، لا يكلّفني ذلك إلا فِكراً يرصُف وقلماً يكتب.
ولكنّي أعلم – والله - أنّ الرجال الكبار يطمحون دوماً إلى نوعٍ آخر من الثناء، أسمى من هذا وأجلّ، إنهم يطمحون إلى تذكرةٍ ينبض بها قلبٌ شفوقٌ مخلصٌ أمينٌ، أكثر من أن يُطرِبهم مديحٌ يردِّده لسانٌ عليم، وما كان جيلُ خلفاء هذه الأمة إلا من هؤلاء الرجال، وإني لأسأل اللهَ مخلصاً أن يجعلكم ممن نهجوا نهجَهم فبلغوا شأوَهم، وإنما ربّانا إسلامنا الذي درَسْناه علماً ثم اصطبغنا به يقيناً على الدعاء لحُكّامنا بالهِداية والرُّشد في سائر الأحوال والظروف، لذا اسمحوا لي أن أقول بحقّ وصدقٍ:
إذا شئنا أن نتصوّر الحقيقة القائلة بأن الأمة بشعبها وقادتِها إنما هي شخصٌ معنوي واحد، فإنه على هذا الشخص أن يعكف على ساعة قُدْسيّة من النَّقد الذاتي، يتبصّر فيها نقائصَه وأخطاءَه على ضوءٍ من اليقين التامّ بأن هذه الحياة مَـمَرٌّ إلى مَــقَرّ، ودهليزٌ إلى الحياة الخالدة التي لا ريب فيها، وإن لم يستيقِن ذلك اليوم عن طواعيةٍ واختيار، أذعنَ له في الغد القريب عن قهرٍ واضطرار.
ثم إنّ على هذا الشخص المعنوي أن يعيد النظر في توفيق المسؤوليات بين أعضائه وأجزاء كيانه، فلَكَم تطارحت هذه الأعضاءُ مسؤولياتِـها وواجباتها بعضَها على بعض.
على الذين يتحدثون كثيراً عن المجتمع الإسلامي وأهميته أن يعلموا أنّ ينبوعَ هذا المجتمع إنما يتمثل في صلاح أفراده وصدقِ التعامل في أسواقه، وباستقامة أُسَرِه ونظافة بيوته، قبل أن يتمثّل في رقابة قادته وحُكّامه، فـمَن عجِز عن ثورةِ إصلاحٍ في تلك المرافق، فهو أعجزُ عن إجراء أي تعديل في هذه الرقابة.
ولكن على قادة الأمة أيضاً أن يعلموا بأن الله يَــزَعُ بالسلطان ما لا يَــزَعُ بالقرآن، وأن تفاعلاً إصلاحياً دقيقاً يأتي، تسري شرايينُه بين قاعدة الشعب وقمّة قيادته، ولا ريبَ أنّ مردَّ هذا التفاعل إلى القاعدة النبوية القائلة: (كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤول عن رعيّته).
وإن على كافة الدّعاة إلى الله أن يعلموا بأن الدعوة إليه تطبيبٌ أداتُه الحبّ والرحمة، وليس تشفّياً مبعثُه الكَيدُ والنقمة، فمَن تجاوزَ ذلك المنطلَق الذي أقامَنا عليه رسول الله r إلى هذا الدافع الذي يرتكز معظمُه على حظوظ النفس وأهوائها، استغلقت عليه السُّبُل والْتَوَتْ عليه المقاصد، ولكنّ على قادة الأمة أيضاً أن يعلموا أن خيرَ سعْيٍ إلى إصلاح ذلك الخطأ إنما يتمثّل في العمل على إبراز الوجه الصحيح له (توفيقاً) وسلوكاً، فإذا الخطأ بعد حينٍ مضمحِلٌّ وزائلٌ بإذن الله.
وربما احتاج الأمر إلى لونٍ من الصبر الجميل، وطاقةٍ من الحِلم والتَّحَلُّم، ولكن مهما يكن فذلك خيرٌ مآلاً من مقارعةِ التشفّي بمثله.
ثم إن علينا جميعاً أن نعلم بأن الإسلام ليس مجرّدَ تبتُّلٍ في المحاريب، أو عباداتٍ يمارسها الفرد، بل هو منهجٌ متكاملٌ لكيفية التعامل مع الكون والحياة، وإلا فكيف تحقّقت تلك المنجزات الحضارية التي تحدَّثْنا عنها الآن؟
ثم هو منهجٌ محوريٌّ ثابتٌ لا تُبَدِّلُه الأطوار، ولا تنسخه المعارف أو المدنيّات، على أننا لا نملك أي اختيارٍ في رفضه أو الإعراضِ عنه، وإن خُـيِّلَ إلينا أننا نملك ذلك في حياتنا الدنيا، أَوَلم يقل لنا صاحبُ هذا المنهاج في خطابه: ((إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً * وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً)) [الإسراء (9-10)].
وأخيراً فـلِأمرٍ ما حدّثَنا رسول الله r - يا سيادةَ الرئيسِ – فيما صحّ عنه بأنّ سبعَ فئاتٍ من الناس تكون في نجوةٍ تامةٍ من حريق يوم القيامة وعذابه اللاهب، إذ تكون في ظلٍّ ظليل ينشره الله عليها من سابغِ فضله، أول هذه الفئات على الترتيب: إمامٌ عادلٌ.
فيا قائدَ هذه الأمة، ما أحوجَك وأحوجَنا معك إلى الاحتماء بذلك الظل الذي ستدرك مدى أهميته من خلالِ حرٍّ عجيبٍ تدنو منه رؤوس الخلائق وظمأٍ شديدٍ يأخذ بحلوق الناس، وفزعٍ يُلصِق القلوبَ بالحناجر، وإنه لَيومٌ آتٍ لا ريبَ فيه كما تأتي اليقظة بعد النوم، وكما يتكامل الصَّحْوُ بعد الحُلُم، وإنما السبيل على ذلك الاحتماء هو الـمُضِيُّ في تحقيق كلمة قدّسيّةٍ جامعة: العدلُ والعدلُ فقط.
وإننا لَـنَلتزم أن نكون خيرَ عونٍ لك في تثبيت هذا الميزان وترسيخ سلطانه، فلْنتقاسم في ظلّ هذه الذكرى مسؤولية العدل، بل العدل والحبّ معاً، ولْـنجعل من صدقِ السعيِ إلى إقامة شرع الله وهَدْيِه - تحقيقاً لـمرْضاتِه - خير ما يقطع السبيل إلى من قد ترونهم يستغلون الدعوة إلى ذلك تحقيقاً لمأرب أو انتجاعاً لـمَغنَم.
جمع الله أمرَ هذه الأمة على خير وألّفَ بين أفئدتها على ما يرضيه وكتبَنا جميعاً ممن سبقتْ لهم من الله الحسنى وحماهم من الفزع الأكبر يوم القيامة وجعلَنا بفضله وتوفيقه ممن شملَهم قولُه عزّ وجلّ: ((إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمْ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمْ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ)) [الأنبياء (101-104)].
وشكراً لكم والسلام عليكم.

تحميل



تشغيل

صوتي