مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 08/01/2021

خطبة الدكتور محمد توفيق رمضان البوطي بتاريخ 8 / 1 / 2021

أمّا بعد فيا أيّها المسلمون؛ يقول ربّنا جلّ شأنه في كتابه الكريم: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) وقال سبحانه: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ ۚمِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ).


أيّها المسلمون؛ سبق أن أشرنا أن المشركين اضطروا المسلمين في مكة للهجرة إلى المدينة المنورة تاركين بيوتهم وأموالهم ومتاعهم فارين بدينهم وعقيدتهم، واستولى المشركون على أموالهم وبيوتهم. فكان من ذلك أن أذن الله تعالى للمسلمين بالجهاد والقتال فقال: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ).


إثرَ الهجرة وبعد أشهر، وقعت معركتان بين المسلمين والمشركين. الأولى منهما كانت في البداية مجرد توجهٍ لاعتراض قافلةٍ تجاريةٍ لقريش قادمةٍ من الشام نحو مكة. لذلك كان العدد الذي خرج لها عدداً مناسباً لاعتراض قافلةٍ تجارية، وكان سلاحهم وعتادهم يتناسب مع هذه المهمة البسيطة. إلا أن قائد القافلة أبا سفيان شعر بخروج المسلمين لاعتراض قافلته فغيّر طريقه واتجه من جهة ساحل البحر ونجت القافلة.


بلغ أبا جهلٍ أن المسلمين قد خرجوا لاعتراض تلك القافلة، فاستبد به كبرياؤه وغطرسته وجهز جيشاً قوامه ألف مقاتل مدججين بالسلاح، لكي يواجهوا المسلمين الذين أرادوا اعتراض تلك القافلة. وعلى الرغم من أن أبا جهلٍ بلغه أن القافلة نجت وصارت في أمان، إلا أنه أصر إلا أن يتابع طريقه نحو بدر قائلاً: (والله لا نرجع حتى نرد بدراً فنقيم ثلاث ليال، فننحر الجزور، ونشرب الخمور وتعزف علينا القيان –أي: المغنيات- ولا تزال العرب تسمع بنا وتهاب جانبنا). بهذه الغطرسة والكبرياء توجه أبو جهل بجيشه إلى بدر. النبي جاءه الوحي بأنهم سينتصرون إما على القافلة وإما على الجيش. وبما أن القافلة قد نجت، فلم يعد أمام المسلمين إلا خيارٌ واحد إذا أرادوا المواجهة وهي أن يواجهوا الجيش.


كان من شأن النبي أن يستشير، فاستشار الصحابة الكرام فكان جواب الصحابة جميعهم أنهم مستعدون لمواجهة الجيش مهما بلغت قوته وعتاده وعدده. أمضى النبي تلك الليلة متضرعاً إلى الله U رافعاً كفيه إلى الله: (اللهم نصرك الذي وعدتني) حتى سقط رداءه عن كتفيه. وأبو بكر t يقول له: (بعض مناشدتك لربك يا رسول الله). ثم تهلل وجه النبي واستبشر وخرج يثبت قلوب المؤمنين.


وفي صباح يوم الجمعة في السابع عشر من شهر رمضان جرت المعركة، وما هي إلا ساعةٌ من الزمن حتى تقهقر الجيش المدجج بالسلاح تاركين ورائهم سبعين جيفةً وسبعين أسيراً.


أجل؛ انتصر المسلمون ولا بد أن ينتصر الحق دائماً. فالحق - عندما يكون المسلمون ملتزمين بالحق الذي آمنوا به - من شأنه أن ينتصر. والتكافؤ العددي بين جيش الحق وجيش الباطل أمرٌ ثانوي لا نعتبره أساساً في التوازن ولا أساساً في المواجهة. قال سبحانه: (كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ وَاللّٰهُ مَعَ الصَّابِر۪ينَ).


نعم انتصرت القلة القليلة لأن الله معها.. لأن الله مؤيدها، وانهزم أهل الباطل لأنهم على باطل.. لأنهم مستكبرون.. لأنهم تمردوا على أمر الله تعالى، واستكبروا على هديه، ورفضوا وظلموا وبغوا واعتدوا. والمعتدي الظالم لا بد أن ينهزم في القواعد التي رسمها الله تعالى في مواجهة الحق مع الباطل. إلا أن الباطل قد يظهر أحياناً، وعندئذٍ ينبغي أن نبحث عن السبب.


وهذا ما جرى في غزوة أحد. وقد صور الله تعالى لنا الذي جرى في غزوة أحد بآيةٍ عظيمةٍ يقول فيها: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ – أي: بالنصر – إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ ۚمِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۚ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ۖ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ).


نعم؛ لقد وقعت المصيبة في جيش المسلمين! عهد النبي إلى خمسين من الرماة أن يلزموا أماكنهم على جبل الرماة خلف المسلمين، على أي حال كان وضع المسلمين، فلما رأوا انسحاب المشركين من ساحة المعركة أربعون من هؤلاء خالفوا أمر النبي طمعاً بالغنائم.


والغنيمة ليست غاية، وعندما تصبح غايةً ينحرف سير المسلمين وتنمسخ مسيرتهم في سبيل دينهم. هم خرجوا لوجه الله ونصرةً للحق؛ الغنيمة إن جاءت فهي نتيجةً وليست غاية. هم حولوا النتيجة إلى غاية فانعكس الأمر بهم من نصرٍ إلى هزيمة.. إلى مصيبة.. ولم ينجُ من تلك المصيبة أحدٌ من الصحابة حتى النبي . ناله ما ناله من شؤم تلك المعصية.


 أربعون في جيش المسلمين البالغ عدده أكثر من ستمئة مقاتل. أربعون عصوا فانعكست معصيتهم على المسلمين كلهم بما فيهم رسول الله ؛ شج رأسه وجرح وجهه وانكسرت رباعيته وكاد المشركون أن يصلوا إليه، ولكن الله سبحانه وتعالى عصمه من أيديهم. هذه هي نتيجة معصية عددٍ قليلٍ من جيش المسلمين.


نعم إن للنصر شروطاً لا بد من التزامها ليتحقق النصر وما لم نلتزم هذه الشروط فإن فرصة النصر قد لا تكون متاحة. الشرط الأول: الثبات؛ الثبات في المواقع والثبات في المواجهة، فالله تعالى يقول: (إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا) والالتجاء إلى الله تعالى، يقول سبحانه: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). هذان شرطان لا بد من التزامهما. والشرط الثالث: أن نعد ما في وسعنا لمواجهة عدونا، يقول سبحانه: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) والشرط الرابع: هو التزام طاعة الله تعالى واجتناب معصيته فشؤم المعصية لا بد أن ينعكس على مسيرة الجيش وعلى توازنات المعركة.


تاريخنا أيها المسلمون شاهدٌ على أن القلة القليلة لا يمكن أن تنهزم إذا كانت ملتزمةً بشروط النصر في مواجهة قوى البغي مهما بلغت قدرتها. وتاريخنا يشهد بذلك، قال تعالى: (كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ). لا شك في ذلك! والتاريخ شاهدٌ على هذه المعادلة؛ على معادلة أن من كان مع الله كان الله معه، فلا يؤثر في ذلك كثرةٌ عدديةٌ في قوى العدو وقلةٌ عدديةٌ في قوانا.


سننتصر بإذن الله وستنتصر أمتنا بعون الله ولن ترهبنا كثرة المجرمين، كثرة الظلمة والطغاة، كثرة أمريكا ومن حالفها ومن وراءها.. ولن ترهبنا تلك الكثرة العددية، ولكن على أن نكون مع الله ليكون الله معنا، على أن نكون ملتزمين بطاعته.. على أن نكون ثابتين في المواجهة.. على أن نكون صادقين في الالتجاء إلى ربنا تبارك وتعالى. شروط النصر أن نلتزم طاعة الله ونؤدي ما علينا من حسن الاستعداد لمواجهة عدونا.


إن ما نعاني منه اليوم من واقعٍ أليمٍ من تسلط قوى الطغيان والبغي على مساحاتٍ من أرضنا؛ جاؤوا من آلاف الكيلومترات إلى بلادنا طغياناً وظلماَ وعدواناً؛ هؤلاء لن يرهبونا إذا كنا مع الله. ولكن دعونا نفكر، هل نحن ملتزمون بالشرط الذي أمرنا الله به؟ أم إن المعصيبة قد شاعت فينا؟ أم إن المعصية قد غلبت على كثيرٍ من النفوس الضعيفة منا؟


إن الضائقة المعيشية وتسلط هؤلاء الطغاة الظلمة الفاجرين علينا إنما هو انعكاسٌ لقوله تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى). من أعرض عن ذكر الله.. من أعرض عن نهج الله.. من لم يلتزم بأمر الله.. من كان جباناً في مواجهة أعداء الله؛ فإن شرط النصر لم يتحقق له.


ولكن أملنا وطيد أن تستيقظ أمتنا وأن تعود إلى رشدها وأن تتمسك بحبل الله U ولا بد أن تنتصر كلمة الحق. وأما الأوراق الصفراء التي من شأنها أن تسقط، فلتسقط! وليبقَ الثابتون الصادقون المخلصون لكي يحققوا بإذن الله تعالى نصر كلمة الحق وغلبة الإسلام والحق على الباطل وأعداء الإسلام.


أسأل الله تعالى أن يردنا إلى دينه وأن يؤيد كلمته وأن يوفق أمتنا لكي نتجاوز الواقع الأليم الذي نعيشه، سواء كان ذلك ضائقةً في المعيشة أو كان تسلطاً من قوى البغي والعدوان على بعض أجزاء من أرضنا.


أسأل الله تعالى أن يفرج علينا فرجاً قريباً. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.


وجدت في وصية سيدنا عمر لسيدنا سعد بن أبي وقاص خير نصيحةٍ ننصح بها أنفسنا وسأقرؤها عليكم لأنها ذات أهمية. عندما وجه سيدنا عمر سعد بن أبي وقاص لقيادة الجيش في مواجهة المجوس قال له: "أما بعد؛ فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو وأقوى المكيدة في الحرب، وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراساً من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة، لأن عددنا ليس كعددهم ولا عدتنا كعدتهم، فإذا استوينا في المعصية كانت لهم الغلبة لهم علينا بالقوة، وإلا ننصر عليهم بفضلنا –أي: بصلاحنا- لن نغلبهم بقوتنا. واعلموا أن عليكم في مسيركم حفظةً من الله –أي: الملائكة – يعلمون ما تفعلون فاستحيوا منهم. ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله. ولا تقولوا إن عدونا شرٌّ منا فلن يُسلّطَ علينا وإن أسأنا، فرب قومِ سُلّطَ عليهم من هم شرٌّ منهم. واسألوا الله العون على أنفسكم كما تسألونه النصر على عدوكم".

تحميل



تشغيل

صوتي
مشاهدة