مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 08/11/2019

خطبة الدكتور توفيق البوطي بتاريخ 8 / 11 / 2019

خطبة الجمعة للدكتور محمد توفيق رمضان البوطي


في جامع بني أمية الكبير بدمشق بتاريخ 8 / 11 / 2019


أمّا بعد فيا أيّها المسلمون؛ يقول ربنا جلّ شأنه في كتابه الكريم: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)، وقال ربنا تبارك وتعالى في كتابه الكريم عن الكعبة المشرّفة وحرم مكة: (فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا). ويقول سبحانه في كتابه الكريم منوّهاً بالأشهر الحرم: (مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) لما لها من مزيّةٍ وخصائص. وعندما جاء النبي ﷺ المدينة المنوّرة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فقال: ((ما هذا اليومُ الَّذي تصومونَهُ؟ فقالوا: هذا يومٌ عظيمٌ. أنجَى اللهُ فيه موسَى وقومَهُ. وغرَّقَ فرعونَ وقومَهُ. فصامَهُ موسَى شكرًا. فنحنُ نصومُهُ. فقال ﷺ: فنحنُ أحقُّ وأوْلَى بموسَى منكمْ، فصامَهُ رسولُ اللهِ ﷺ وأمرَ بصيامِه)). وسئل النبي فيما رواه مسلم عن صيامه يوم الاثنين فقال ﷺ: ((ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، َفيه و أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ)).


أيّها المسلمون


إنّ للأزمنة والأمكنة منزلةً في ديننا، نوّه بها كتاب الله وأيّد ذلك النبي ﷺ في سنّته وبّين أهمّية ارتباط الحدث بالزمان والمكان. ولذلك فقد رأينا أنّ النبي ﷺ علّل صيامه ليوم الاثنين، فقال: ((ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ وفِيهِ أُنْزِلَ عَلَيَّ)). وأيّد اهتمام بني إسرائيل بيوم عاشوراء لارتباط ذلك اليوم بحادثٍ عظيمٍ؛ يوم نجّى الله تعالى فيه موسى وقومه وأهلك فرعون وقومه، فعبروا عن اهتمامهم بالزمان باهتمامهم بالحدث الذي جرى في ذلك الزمان. وأعلن أنه أولى بموسى منهم، فصامه وأمر بصيامه. فالزمن مرتبطٌ بالحدث الذي يجري فيه، يسمو وترتفع أهمّيته وتعظم مكانته لعظمة وأهمّية الحدث الذي يجري فيه. ذلك لأنّ الأزمنة والأمكنة وعاءٌ للأحداث الجليلة التي تجري في حياة الأمة وفي حياة البشرية.


فأن يتجاهل المرء أهمّية الزمان وأهمّية المكان وارتباطها بالحدث الذي يجري فيها؛ هذا نوعٌ من الجهل والمكابرة، من تنكّر لارتباط الحدث الجليل بزمانه أو بمكانه فهو إما جاهلٌ أو مكابر. ولهذا نرى أنّ ربّنا تبارك وتعالى نوّه بقضية الزّمان فقال: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) ربط ما بين الزمان وما بين نزول كتاب الله ، فعظُم شأن رمضان لعظمة الحدث الذي جرى فيه فقال: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ). وقال لسيدنا موسى عليه الصلاة والسلام: (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ) ماذا في أيام الله؟ المراد ليس الزمان، وإنما المراد الحدث الجليل الذي يعتبرُ الزمن الوعاء الذي يرتبط به. وأيام الله في هذه الآية، كما ذكر المفسرون، تلك الأيام التي عظمت فيها نعمه جلّ شأنه سبحانه وتعالى، أو عظمت فيه نِقمه فكانت عبرةً لمن يعتبر. ومن ذلك، اليوم الذي نجّى الله فيه موسى وقومه، وأهلك فيه فرعون وقومه. فاكتسب الزمان أهمّيته وقيمته من الحدث الجليل الذي قام فيه أو وقع فيه.


وإذا كان للأزمنة أهمّيةٌ وإذا كانت لها تلك المنزلة وإذا كان علينا أن نستذكر بالأيام الأحداث التي وقعت فيها، فإنّ من أجلّ الأحداث في تاريخ البشرية أمثال ولادة سيّد الكائنات، منقذ البشرية من أرسله الله تعالى رحمه للعالمين سيدُنا محمدٍ ﷺ. فأن يتناسى أو يتجاهل أو ينكر علينا احتفاءنا واحتفالنا واهتمامنا بذكرى مولد النبي ﷺ فهذه مكابرةٌ وجهل وعناد واستكبار. نعم إنّ أعظم حدثٍ في تاريخ البشرية - يصنّف فيها - ما يتعلق ببعثة النبي ﷺ وولادته، إذ اقترنت ولادته بالبشائر والإرهاصات التي تدلّ على عظيم شأنه ورفيع مكانته، وتبشّر ببعثته وبنبوّته. والأحاديث في هذا كثيرةٌ، تدلّ على هذا المعنى الذي نشير إليه. أما رأينا أن النّبي ﷺ احتفى بيوم مولده لا على مستوى العام، بل على مستوى الأسبوع، فصار يكثر من صيام يوم الاثنين معللاً ذلك بأنه يومٌ يُشكر الله تعالى فيه، لأنه ولد فيه المصطفى ﷺ؟!


كيف ينكرون علينا احتفاءنا واحتفالنا واهتمامنا وفرحنا وسرورنا بذكرى مولد المصطفى ﷺ، والنبي احتفل، لا على مستوى العام بل على مستوى الأسبوع الواحد، بالصيام. وكذلك الأمر عندما وجد أن يهود المدينة المنورة يصومون يوم عاشوراء قال: ((نحن أولى بموسى منهم)) وصامه وأمر بصيامه.


إذن فإن للمحطّات الزمانية والمكانيّة أهمّية عظيمة ما ينبغي أن نتجاهلها، ولا ينبغي أن تمرّ علينا دون اهتمامٍ ودون أن نوليها العبرة والعظة والفائدة التي ينبغي أن نستفيدها منها.


وكذلك الأمكنة، فمكة المكرمة يعظم شأنها بوجود الكعبة المشرّفة فيها، ويعظم شأنها بوجود مقام سيدنا إبراهيم فيها، ويعظم شأنها بوجود الصّفا والمروة فيها، ويعظم شأنها بوجود زمزم فيها. كل تلك الخصائص التي خصّ الله تعالى بها مكة المكرمة، جعل لها مزيّةً ومكانةً وأهميةً. وبالمقابل، عندما يكون المكان مكاناً حلّ فيه العذاب ونزل فيه هلاك الناس وانتقام الله من المستكبرين فيها، فإن مرورنا منها ينبغي أن يقترن بمظاهر العبرة والاتّعاظ. عندما مرّ النبي ﷺ من الحجر؛ دار ثمود قال: ((لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم، إلا أن تكونوا باكين)). ثم إنّ النبي ﷺ مرّ مقنعاً رأسه مسرعاً، يعلن بذلك خشيته من الله وهيبة من غضب الله من أن ينزل بديار الذي ظلموا أنفسهم. هذا ما كان من النبي ﷺ سواء كان بالنسبة للزمان أو بالنسبة للمكان.


إذا احتفلنا بذكرى مولد النبي ﷺ رفع هؤلاء عقيرتهم وقالوا: بدعة. عجيب أمرهم! النبي ﷺ احتفل بذكرى مولده، واهتمّ بذكرى نجاة سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام من فرعون، فكيف تجعلون اهتمامنا بالمحطّة الزمانية الجليلة العظيمة بدعة؟!


وما الذي يجري عندنا وعند أمثالنا في ذكرى مولد النبي ﷺ؟! ماذا ينقمون على احتفالاتنا بذكرى مولد النبي ﷺ؟ هل فيها إلا أن نستذكر سيرته العطرة وشمائله الشّريفة وأخلاقه الكريمة السّامية لنجعلها قدوةً لنا ومنهاجاً لحياتنا؟! أما قال ربّنا تبارك وتعالى في كتابه الكريم: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة)؟! كيف يمكن أن نأتسي برسول الله ﷺ إن لم نكرّر ونجدّد صلتنا بسيرته وبشمائله وبأخلاقه؟! نجدّد علاقتنا وصلتنا ونذكّر بها أنفسنا وأهلينا وأبناء مجتمعنا، لتتوثق الصّلة بيننا وبين رسول الله ﷺ.. بيننا وبين أخلاقه.. بيننا وبين شمائله. لنجعل من شمائله منهجاً لحياتنا وسلوكنا وأخلاقنا وتصرفاتنا. إذا لم تكن مثل هذه المناسبة سبباً لتذكيرنا بشمائله ﷺ وبسيرته، فأيّ مناسبة هي التي ستشدنا إلى هديه وإلى سيرته وإلى منهاجه؟!


ثم إننا إنما يجري في احتفالاتنا أشعارٌ وقصائدُ تنشد بأصواتٍ شجيةٍ لطيفة. أثنى النبي ﷺ على صوت أحد الصّحابة وهو أبو موسى الأشعري، فقال: ((أوتيت مزماراً من مزامير آل داود)). والذّوق الرفيع في إنشاد شعر مدح النبي ﷺ أمرٌ مطلوب. وماذا في ذلك؟ أما أنشد سيدنا حسان بن ثابتٍ مدح رسول الله ﷺ بين يديه؟! أما أنشد عبد الله بن رواحة شعراً في المدح والثناء على سيدنا رسول الله ﷺ أمامه؟! أما أقرّهما على ذلك؟! أما وقف من جاء تائباً إلى رسول الله ﷺ بعد زمنٍ أمضاه في مخالفة منهج الحق، وكان على منهج الجاهلية يسئ إلى المسلمين ويشبّب بنسائهم، فجاء تائباً وأنشد أمام رسول الله ﷺ قصيدته التي قال فيها: نبئت أن رسول الله أوعدني .. والعفو عند رسول الله مأمول؟! وأنشد قصيدته الشهيرة التي أصغى إليها رسول الله ﷺ، فطرب لهذا الكلام الصّادق في مدح رسول الله ﷺ وخلع بردته وألبسه إياها.


هذا هو منهج رسول الله ﷺ مع من يمدحه ويثني عليه، فما لهم ينكرون علينا إنشاد المنشدين ومدح المادحين لسيد الكائنات ﷺ، مما يجعل القلوب تزداد تعلقاً به وتزداد محبةً له.. تزداد إقبالاً على هديه وسيرته وأخلاقه؟!


والأمر الآخر؛ مظاهر البهجة والفرح التي تقترن بهذه المناسبة أمرٌ عظيمٌ وأمرٌ مطلوبٌ، لا ينكره إلا جاهلٌ أو جافٍ أو مستكبر. نعم؛ أولئك القساة الذين امتلأت قلوبهم جفوةً وقسوةً ينكرون علينا فرحنا برسول الله ﷺ. أما تحركت المدينة المنورة لقدوم رسول الله ﷺ؟! حتى الولائد أتوا إلى رسول الله ﷺ يرحبون به ويتعلقون به وينشدن وينشدون هؤلاء الصغار: (نحن ولائد من بني النجار .. يا حبذا محمدٌ من جار) فقال لهم رسول الله ﷺ ((أتحببني؟ فقلن: نعم يا رسول الله. فقال رسول الله: الله يعلم أن قلبي يحبكنّ)). هذا رسول الله.. وهذا مدح رسول الله.. وهذا الإنشاد في مدح رسول الله.. وهذا الفرح برسول الله ﷺ.


علامَ ينقمون علينا؟ وللأسف، الأمر العجيب أنهم يحتفون بالمحطّات الزمانية ويهتمّون بها. ومن اهتمامهم بها اهتمامهم بما يسمّونه باليوم الوطنيّ، واهتمامهم بذكرياتٍ تتعلق برجالهم وملوكهم وزعمائهم. ينكرون علينا احتفالنا برسول الله ﷺ ويعتبرونها بدعةً، ثم يعظّمون رجالهم ويحتفون بذكرياتهم وبأيام تاريخهم.. نحن لا ننكر عليهم، فليحتفوا بذكرى يومهم الوطني أو بغير ذلك، ليحتفوا.. لكن كيف ينكرون علينا ويعدّونها بدعةً؟! كيف ينكرون علينا فرحنا برسول الله.. ابتهاجنا بمولده.. تجديد العهد مع رسول الله على الطّاعة والتمسك بهديه؟! كيف ينكرون علينا ذلك؟ وهم يحتفون بماذا؟ يحتفون بأيامٍ نحن نعتبرها ثانويةً بالنسبة لتاريخنا وأمجادنا. ولكن لا ننكر عليهم ذلك، ذلك شأنهم..


فلنحتفل برسول الله ﷺ.. فلنحتفل بذكرى مولده عليه الصلاة والسلام.. ولتمتلئ بيوتنا عرضاً وبياناً وشرحاً لسيرته وشمائله وكرمه وحيائه... لأخلاقه للطفه لرحمته لتواضعه.. لتلك الشمائل العطرة؛ ما مسّت يد الصحابي يداً ولا حريراً ولا ديباجاً أرقّ وأنعم من يد حبيب الله المصطفى ﷺ. كان إذا مرّ عرف الناس مروره من هذا الطريق من شذا عطر جسده الشريف ﷺ. الذوق الرفيع.. الأخلاق السامية.. التواضع الجمّ..  الرحمة .. هذه الأخلاق التي نحن بأمسّ الحاجة إليها وإلى معرفتها في شخص رسول الله ﷺ.. لماذا ينكرون علينا أن نجدّد الصّلة بها؟! لماذا لا نأتي فنجعل بيوتنا منطلقاً لشعاع هذا النور المحمديّ الذي ينبعث من ذكر سيرته وذكر شمائله وذكر أخلاقه وذكر وقائعه وأيامه التي تعتبر مفتاح تاريخ أمتنا وبداية أمجادنا التي صنعت لنا اسماً في صفحة التاريخ، ورفعت من ذكر هذه الأمة بارتفاع ذكر رسول الله ﷺ وجهاد رسول الله ﷺ؟!


فلنحتفل ولنجعل من بيوتنا مدرسةً تدرّس فيها سيرة المصطفى وشمائل المصطفى ﷺ وأخلاقه الكريمة. ولتكن هذه السيرة فوحاً وعطراً وشذىً يتنشر في هذا المجتمع ليتعلّم الناس القيم السامية، لا أن نكون ذيلاً ذليلاً مهيناً، نتّبع أمم البغي والعدوان.. أمم الضّلالة والفساد..فلنتبع رسول الله ﷺ الذي يهدي إلى صراطٍ مستقيم. يهدي إلى المجد.. يهدي إلى الحضارة.. يهدي إلى العزّة.. يهدي إلى الكرامة.. يهدي إلى الأخلاق، ألم يقل: ((إنما بعثتُ لأتمم مكارمَ الأخلاقِ)). نعم؛ هذا رسول الله ﷺ.


ثم ماذا في أن تكون بيوتنا مبتهجةً به ﷺ؟! فلتبتهج ما دام ذلك الابتهاج وذلك السرور منضبطاً، لا يرتكب فيه منكر ولا تنتهك فيه حرمة، بل نلتزم بآداب النبوة، وتكون احتفالاتنا منضبطةً بما أمر الله به ورسوله ﷺ.


أسأل الله أن يرزقنا صدق محبة النبي ﷺ وصدق اتباعه وأن يجمع قلوبنا على ما يرضيه.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين. 

تحميل



تشغيل

صوتي
مشاهدة