مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 07/06/2019

خطبة الدكتور توفيق البوطي بتاريخ 7 / 6 / 2019

خطبة الجمعة للدكتور محمد توفيق رمضان البوطي


في جامع بني أمية الكبير بدمشق بتاريخ 7 / 6 / 2019


أمّا بعد فيا أيّها المسلمون؛ يقول ربّنا جلّ شأنه في كتابه الكريم: (إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)، ويقول سبحانه: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)، ويقول: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كمَثَلُ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى).


أيّها المسلمون؛ وحدة الأمّة فريضةٌ يجب أن نسعى لتحقيقها، وضرورةٌ ملحّةٌ لا تقوم مصالح أمّتنا إلا بتحقيقها. ولقد حذّر كتاب الله من الفرقة والتشتّت، ومن خطر ذلك على مصير الأمّة ومصالحها. وقد يطول بي الحديث اليوم إذا أردت أن أستفيض فيما يهدّدُ وحدة الأمة، فلنبدأ بالحديث عن الأسس التي تقوم بها وحدة الأمّة.


بدأ الإسلام إنشاء الأمّة القويّة ببناء الفرد الصّالح ذي العقيدة الصّحيحة والخلق القويم والقلب النّقي والسّلوك السّليم؛ يده طاهرةٌ من أن تعتدي على حقوق الآخرين، ولسانه يتنزّه عن الغيبة والنّميمة والشّتم والأذى، فهو ينأى بنفسه عن كل ذلك.


من خلال وجود الفرد الصالح، بالعقيدة التي بناها على معرفةٍ وعلمٍ وقناعةٍ ودليلٍ؛ وسلوكٍ التزم فيه أوامر الله وتجنب فيها معصيته؛ من خلال ذلك أنشأ أيضاً في الخطوة الأخرى التي تليها، الأسرة الصالحة، بدءاً من إقامة العلاقة الزوجيّة على أسسٍ تزيد من المودّة فيما بينهما، قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). أقام العلاقة على الحبّ والمودّة والتّراحم ليتحقّق السّكن النفسيّ في قلب كلٍّ منهما نحو صاحبه، وحمّل مسؤوليّة ذلك الرجل، فقال: (وعاشروهنّ بالمعروف)، حمّله المسؤوليّة لأن المقود بيده، وعليه أن يكون أميناً، وعليه أن يتحمّل المسؤوليّة، فأمره بحسن المعاشرة.


وبعد أن قامت الأسرة، لا بدّ أن يتّسع الأمر فنجد بين يدي هذين الزوجين بعون الله وتقديره الأولاد، الذين كلّف الله الأبوين بحسن تربيتهم ورعايتهم، وكلّف الأبناء والبنات بالبرّ وحسن معاملة الأبوين على أسمى ما يمكن أن يكون، مما عبّر عنه ربّنا بكلامٍ حكيم: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ). ليست الرّحمة المستعلية وإنّما الرّحمة المتواضعة لهما، التي يشعر الوالدان من خلالها برفعة مستواهما وبأن أولادهما، حريصون على اكتساب رضى الأبوين.


ويتّسع النّطاق ليشمل العائلة الأكبر، من أعمامٍ وعمّاتٍ وأخوالٍ وخالاتٍ وفروعهم. هؤلاء الذين وصفهم الله في كتابه بالأرحام، وحمّلنا مسؤولية حسنِ معاملتهم ومواصلتهم والاهتمام بشأنهم. لاحِظوا درجات المسؤوليّة كيف تتسلسل. ربط ربّنا تبارك وتعالى برّ الوالدين بتوحيده وبعبادته: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وبالوالدين أحسانا) إنّها على درجةٍ عظيمةٍ من الأهميّة.  ثم أمَرَ بالدّرجة التّالية: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا)، ثم قال بعدها: (وآتِ ذا القُربى حَقّه) حقّه من حيث التّواصل ولطف المعشر والاهتمام بشأنهم والنّظر في احتياجاتهم. صلة الرّحم واجبةٌ ولذلك يروي النّبي الحديث القدسيّ الذي يقول فيه الله عن الرّحم: (مَنْ وَصَلَكِ وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعَكِ قَطَعْتُهُ). إن من الخطر أن تقطع الأرحام وأن يتجافى الأقرباء.


عندما تقوم العلاقة الاجتماعيّة على برّ الوالدين وصلة الرّحم يتحوّل المجتمع كلّه إلى أسرة وإلى كتلةٍ متحابةٍ متضامنةٍ متكافلةٍ، يسودها الحبّ والوداد والاحترام والتّراحم والتّكافل والتّضامن. ولقد رسّخ هذا المعنى ربّنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم وأصّل له، لننتقل بذلك إلى الحياة الاجتماعيّة التي رسّخ فيها تلك العلاقات من خلال العبادة ذاتها فجعل الصّلاة جماعةً، حيث يلتقي أبناء المجتمع في بيوت الله، تنحني جبهاتهم لله وهم إلى جانب بعضهم، لا تمايز فيما بينهم؛ الفقير والغنيّ والأبيضّ والأسود والأمير والمأمور كلّهم إلى جانب بعضهم، تخرّ جبهاتهم سجوداً لله وتعتزّ عن أن تخضع لغير الله. هذه العلاقة الاجتماعية لها شكلٌ تعبديٌّ من خلال السّجود بين يديّ الله تعالى والتلاقي المستمرّ في بيوت الله على مستوى الحيّ وعلى مستوى المدينة، من خلال صلاة الجماعة وصلاة الجمعة.


وكذلك هناك تكافلٌ وتضامنٌ مادّيّ، فرض له ربّنا تبارك وتعالى لتحقيقه فريضة الزكاة والمسؤوليات المادّية الأخرى، التي تسدّ حاجة المجتمع ليتحول هذا المجتمع إلى أسرة متكافلةٍ متضامنة، لا على نحو العطاء مع المنّة، بل ليتحول هذا المجتمع وأبناؤه من يدٍ دنيا إلى يدٍ عليا، وليرتفع مستوى الفقير إلى مستوى الغنى والعطاء. أراد الإسلام من خلال شريعة الزكاة أن يزيل من بين أبناء المجتمع مشاعر الكراهية والتّحاسد والتّباغض والاستعلاء، وفرضَ الزّكاة ليعلن أن هذا المجتمع: (فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ) حقٌّ واجبٌ في ذمّة كلّ إنسانٍ قادرٍ على البذل والعطاء ليسدّ تلك الثّغرة فيما بين الغنيّ والفقير.


لننتقل بعد ذلك إلى وحدة الأمّة، التي جعلها الله تبارك وتعالى ضرورةً ملحّةً لمواجهة التّحديات التي يمكن أن تعترض مصالح الأمّة الإسلاميّة من مشرق العالم إلى مغربه، من عربه إلى عجمه، من شرقه إلى غربه، من أبيضه إلى أسوده، يقول ربّنا تبارك وتعالى: (وإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُون(، ويقول سبحانه: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا). أمرنا بأن نتمسّك بحبل الله جميعاً ليوحّدنا؛ ليجمعنا لا ليفرقنا. والدّين عندما يستعمل للتفرقة ليس ديناً لله، هو دينٌ ينحرف عن نهج الله. الدّين الحقّ هو الذي يجمع كلمة الأمة ويوحّد صفوفها، ويزيل مما بينا أسباب الفرقة والنزاع. والحديث عن هذا قد يطول، وينبغي أن نتحدّث فيما قد يوفّقنا الله له عن المخاطر التي تهدّد وحدة الأمّة وتماسكها.


لاحظوا كيف أنّ ربّنا تبارك وتعالى حرّم الفرقة فقال: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)، ونهى عن التّخاصم والتّنازع وقال: (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)، وأمرنا بالاصطلاح: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ).


نعم؛ إن وحدة الأمّة ضرورةٌ ملحّةٌ وفريضةٌ دينيّة، تبدأ درجاتها من بناء الفرد، إلى بناء الأسرة، إلى بناء المجتمع، إلى تكوين تلك الأمّة التي تجمع الشرق مع الغرب والشمال مع الجنوب، والأبيض مع الأسود والعربيّ مع الأعجميّ، ليشكّلوا جسداً واحداً يبني الخير وينشر العدل وينشر الهدى، ويقيم دعائم الحقّ في الأرض هنا وهناك على أسسٍ من العدالة والمحبّة والتّعاون. أسأل الله أن يجمع كلمتنا على الحقّ والتّقوى، وأن يزيل من بيننا أسباب الجفاء والانحراف.


ردّنا الله تعالى إلى دينه ردّاً جميلاً.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.

تحميل



تشغيل

صوتي
مشاهدة