مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 16/11/2018

خطبة الدكتور توفيق البوطي: رحمة للعالمين


رحمة للعالمين
تاريخ الخطبة: 16/11/2018
أما بعد فيا أيُّها المسلمون؛ يقول ربنا جلَّ شأنه في كتابه الكريم عن النبي r: ) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ( ويقول سبحانه في وصفه عليه الصَّلاة والسلام: ) فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ( وروى مسلم عن أبي هريرة t قال: قيل: يا رسول الله -في إحدى المواقع- ادعُ الله على المشركين، فقال r: «إني لم أُبعث لعَّاناً، وإنَّما بعثت رحمة» وروى الشيخان: أنَّه قَدِمَ الطُّفيل بن عمرو على رسول الله r فقال: يا رسول الله؛ إنَّ دوساً قد عصت وأبت، فادعُ الله عليها، فظنَّ الناس أنَّه سوف يدعو عليهم، فقالوا: هلكت دَوس، إلَّا أنَّ النبيَّ r قال: «اللهم اهدِ دوساً وائتِ بهم" والأمر تكرر يوم حنين يوم طلب منه المسلمون أن يدعو على ثقيف التي كادت للنبي r أشدَّ الكيد قبل الهجرة وبعد الهجرة، فقالوا: ادعُ الله على ثقيف، فقال: "اللهم اهدِ ثقيفاً" وقد رُوي أنَّ النبي r قال لمشركي مكة يوم الفتح: «ما ترون أني صانع بكم؟» فقالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم، فقال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» وروى ابن حبان في «صحيحه» عن صفوان بن أمية و-كان من صناديد الشرك وزعمائهم- أنَّه قال: لقد أعطاني رسول الله r يوم حنين وإنَّه لمن أبغض الناس إليَّ، فما زال يعطيني حتى إنَّه لأحب الخلق إليَّ.
ما تألّف قلوبهم عن ضعف، ولا لَانَ جانبه نحوَهَم عن ذل، وإنَّما عفا عند المقدرة، وقد تمكن من رقابهم، وأمكن أن يبطش بهم وينتقم من كيدهم وعدوانهم، إلَّا أنَّه بعث رحمة للعالمين، بعث هادياً بعث نذيراً r.
ومن مظاهر الرحمة التي تميز بها رسول الله r أنَّه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، وقد روى البخاري عن أنس t أنَّ النبي r قال: «يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا» وروى البخاري وغيره عن أبي هريرة t أنَّه قام أعرابي – ولعله يدخل المسجد لأول مرة - فبال في المسجد فتناوله الناس - توجهوا إليه مستنكرين فعلته الشنيعة- فقال لهم النبي r: «لا تزرموه" أي: لا تقطعوا عليه بوله، وقال: دعوه، هريقوا على بوله سجلاً من ماء أو ذنوباً من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين» وقال للرجل: «ما ينبغي أن تفعل مثل هذا»
مدرسة في الرحمة مدرسة في التيسير، مدرسة في اللطف والشفقة، إن النبي r - ونحن الآن في ذكرى مولده عليه الصلاة والسلام- هو الصورة العملية للإسلام الذي أنزله الله جل شأنه، فسيرته العطرة تجسد حقيقة الإسلام، وليس ما يرتكبه المتطرفون الذين صنعتهم الدوائر المعادية. أجل، صنعتهم أميركا وتسلحهم أمريكا وتحميهم أمريكا، بغية تشويه الإسلام وتنفير الناس منه، وسيرته سيرة الرحمة بالخلق كلهم مسلمهم وكافرهم ومنافقهم، إنسهم وحيواناتهم، وجماداتهم، سيرته التيسير والتبشير وليس التنطع ولا التشدد ولا التنفير. كم نحن اليوم بحاجة إلى قراءة سيرته عليه الصلاة والسلام، لنعرف الإسلام الحق في وقتٍ نجد فيه من يلبِّس على الناس الحق، فيرتدي مظهراً إسلامياً ويمارس تصرفات مشينة بشعة ووحشية، باسم الإسلام ينفر من الإسلام ويشوه الإسلام.
رحمة النبي r تجلت في كل تصرفاته، في معاملة المؤمن والمنافق والكافر، عانى النبي r من عبد الله بن أبي بن سلول أشد المعاناة وهو الذي لم يدع فرصة للكيد للدعوة الإسلامية والنبي r إلا واستغلها أسوأ استغلال، ولقد كان عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول مسلماً صادق الإسلام، ولقد أثار أبوه فتنة في بعض المواقع، ولشدة تلك الفتنة سرى بين الناس أن النبي r قد عزم على قتله، وأتى عبد الله بن عبد الله إلى النبي r فقال: يا رسول الله إنه قد بلغني أنك قاتل أبي، مرني فلأضرب عنقه. قال: «بل نترفق به مادام بيننا» وعندما مات أتى عبد الله -الابن- إلى النبي r والابن له في قلبه شفقة على أبيه، وطلب منه قميصه الذي يرتديه ليكفن به أباه عسى أن يخفف ذلك من عذابه، فخلع له قميصه وأعطاه إياه – صلَّى الله عليك يا رسول الله، صلَّى الله عليك يا من أرسلك الله رحمة بالعباد، ورحمة بالخلق كلهم.
نعم، وكذلك بالنسبة للذين كانوا أشدَّ عِداءً للنبي r في مكة، عشرون عاما وهم يكيدون للدعوة الإسلامية ويحاولون قتل النبي r حتى إذا تمكن منهم قال لهم: عفوت عنكم، «اذهبوا فأنتم الطلقاء».
وفُضَالة أحد المشركين الحاقدين خَطَر له وبدا له أن يغتال النبي r بعد الفتح فأخذ خنجره وأخفاه في طي ثيابه وأتى المسجد الحرام والنبي r يطوف، وصار يترصد له لكي تحين الفرصة فيقتله، النبي r كان قلبه موصولاً بالوحي، نظر إليه ودعاه إليه، قال: أفضالة، بمَ تحدث نفسك؟ قال: أذكر الله، فابتسم النبي r ومسح على صدر فضالة، يقول فضالة: والله ما كان أبغض إلى قلبي من رسول الله قبل أن يضع يده على صدري، فما رفع يده عن صدري حتى كان أحب الخلق إليَّ.
إنها لمسات الرحمة التي تلين الحديد، والتي صنع بها أمَّة وبنى بها حضارة. صلى الله عليك يا رسول الله، نعم إنها صفة ملازمة لشخصية النبي r، أمَّا لصيقة الإرهاب والتطرف فهي في الحقيقة صفة ملازمة للعدو للغرب.. لأميركا التي كونت التنظيمات الإرهابية وأمدتها بالسلاح، ثم نسبت ممارساتها الوحشية إلى الإسلام.
أيها المسلمون إنَّ الذين ينسبون إلى المسجد والمعاهد الشرعية والمؤسسات الدينية صفة التطرف والإرهاب؛ إنَّما هم صدى لأميركا وصنيعة لها، وهم الجهة التي تحقق هدف أميركا من جرائمها.
أيُّ إسلام هذا الذي يحرق الناس؟ أيُّ إسلام هذا الذي يقتِّل الأطفال والنساء؟ أيُّ إسلام هذا الذي يحارب المخالف لتنظيماتهم فيجعلهم هدفاً لجرائمهم؟ أيُّ إسلام هذا الذي يغتال ويقتل الأبرياء ويستهدف العلماء؟ هذا ليس إسلاماً، هذا هو الكفر والنفاق بعينه، هذه هي الأداة التي يستعملها الغرب للتنفير من الإسلام، إسلامنا نراه في سيرة المصطفى r في الرحمة المهداة للعالمين، إسلامنا يتجلى في عفوه عن ألدِّ أعدائه من كفرة ومنافقين، إسلامنا يجب أن نجسده في علاقاتنا فيما بيننا، معرفةً سليمة لحقيقة ديننا، وممارسةً صحيحة لأحكامه ودعوته.
لقد اتضح أيها المسلمون أنَّ ما تعرضت له بلادنا كان مؤامرة على بلادنا وديننا وعلينا بآن واحد، فقد مزق المجتمع وأثار فيما بينه العداوة، وسفك الدماء بدون أي مسوغ شرعي، وشرد الناس ليصبحوا خدماً أذلاء للغرب، وتابعين له، وأخيراً ليتحقق للعدو الغاصب الأمن والسلام على حساب مقدساتنا وشعبنا.
أسأل الله تعالى أن يُبصرنا بالحق، ويوفقنا للتمسك به، وأن يردَّ كيد الكائدين عن ديننا، وأن يعرفنا بسيدنا الحبيب المصطفى الرحمة المهداة للعالمين r.
أقول قولي هذا وأستغفر العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين


تشغيل

صوتي