مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 12/10/2018

خطبة الدكتور توفيق البوطي: وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم 2


وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم 2
تاريخ الخطبة: 12 /10/2018
أما بعد فيا أيُّها المسلمون؛ يقول ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ( ويقول سبحانه: )وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ( وقال جلَّ شأنه: )وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِين( روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: (لما ثقُل النبي صلى الله عليه وسلم واشتد به وجعه استأذن أزواجه في أن يمرَّض في بيتي فأذنَّ له، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم بين رجلين تخط رجلاه في الأرض، بين عباس ورجل آخر- ولعله سيدنا علي-) وكانت عائشة رضي الله عنها تحدِّث: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن دخل بيته واشتدَّ وجعه قال: «هريقوا علي من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن، لعلي أعهد إلى الناس» وأُجلس في مخضب لحفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ثم طفقنَ نصب عليه تلك القرب حتى طفق يشير إلينا أن قد فعلتنْ، ثم خرج إلى الناس، ومما قاله يومئذ: «إن عبدًا خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده، فاختار ما عنده، فبكى أبو بكر، وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله، فعجبنا له، وقال الناس انظروا إلى هذه الشيخ، يخبر رسول الله عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه الله زهرة الدنيا وبين ما عنده، وهو يقول فديناك بآبائنا وأمهاتنا، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخيَّر، وكان أبو بكر أعلَمَنا به، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مروا أبا بكرٍ فليصل بالناس» وفجر يوم الاثنين كان الناس يصلون خلف أبي بكر صلاة الفجر، في الثاني عشر من ربيع الأول، كُشف الستر بين حجرة سيدتنا عائشة وبين المسجد وأطل النبي صلى الله عليه وسلم وابتسم، ثم رجع أبو بكر ليتقدم النبي صلى الله عليه وسلم ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أشار أن أتموا صلاتكم، فكان نظرةَ الوداع التي انتقل بعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، ليتابع الصحابة من بعده مسؤولية الدعوة ونشر الهدى والخير، ويكونوا الأمناء على تطبيق دين الله وشريعته من بعده ذلك لأنَّ هذا الدين ليس شأنه مرتبطاً بحياة إنسان ولا بحياة جيل من الناس، إنما هو رسالة ربانية ممتدة امتداد الزمن.
أيُّها المسلمون؛ بدأتُ بهذه الصفحة في الأسبوع الماضي، وها نحن نقف أمام الصفحة الأخيرة من حياته صلى الله عليه وسلم ليغيب عنا جسداً وليبقى معنا من خلال كتاب الله الذي كان أميناً على تبليغه، وسنته التي بينت كتاب الله تعالى وفصلت مجمله، وشرحت مبهمه. نعم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقي الصحابة الكرام من بعده أمناء على تطبيق دين الله ورسالته لأن هذا الدين ليس مرتبطا برجل ولا بجيل، هو رسالة ربانية ممتدة امتداد الزمن ولا هي مرتبطة بأرض أو بمكان بل إنها منتشرة انتشار ضياء الشمس في الكون. الأمة مؤتمنة، فإن قصَّرت بقيت رسالة الله تنتشر واستبدل الله بالمقصرين غيرهم، ألم يقل الله سبحانه )وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ(
أيُّها المسلمون؛ إنَّ من المؤلم حقا أن تودع الأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان ملأ القلوب وملأ الأبصار، بل كانت حياتهم مرتبطة به متعلقة به. ولكن قدر الله لا بد أن يقع، وحكم الله سبحانه وتعالى لا بد أن ينجز، وعلى الأمة من بعده أن تكون أمينة على دعوته ورسالته، تتابع السير على النحو الذي أمرها به، وقد كان الصحابة الكرام كذلك، مضوا ينشرون هدي الله تعالى في أرجاء الأرض. وهنا لابد من الإشارة إلى أمور:
الأمر الأول: أن دين الله عز وجل أنزله الله عز وجل ليختم به الرسالات، وليكون الرسالة الإلهية إلى يوم القيامة )مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ( به ختمت الرسالات، ورسالته هي الرسالة الإلهية التي تستمر وتبقى، لا تبلى على مر الزمن ولا تنقرض، ولا يمكن لها أن تنهزم ولا يمكن لشعاعها أن يخبو. ستستمر وتنطلق في أرجاء الأرض ونحن نرى أثر ذلك بأمِّ أعيننا، فلقد ملأت رسالة الله عز وجل ما بين الخافقين بعز عزيز أو بذل ذليل. ها هو الإسلام قد انتشر ما بين مشرق الأرض ومغربها، مئات الملايين في مشرق الأرض والكثير الكثير من المسلمين في مغربها وهم يملؤون ما بين الخافقين؛ يعلنون أنَّ أمر الله تعالى ماضٍ وأنَّ رسالة الله تعالى ماضية.
الأمر الثاني: كان النبي صلى الله عليه وسلم قد جهز جيشاً بقيادة أسامة، وهنا أشير إلى أنَّ قتال الصحابة y في حياته ومن بعده، لم يكن لحمل الناس على الإسلام؛ بل كان لدفع العدوان والظلم، ورفع العوائق بين الناس وبين اختيارهم. لذلك بقي النصارى وغيرهم ومعابدهم على ما هم عليه، وها هي المعابد والكنائس كلها ماثلة أمام أعيننا يرتادها أتباعها، يرتادها مرتادوها،لم يحمل أحد على ترك دينه، وهذا مضمون الوثيقة التي كتبها سيدنا عمر لأهل بيت المقدس والتي بيَّن فيها أنَّه لا يُكره أحد على ترك دينه. إنَّما تزال العوائق ما بينه وبين أن يتبع الحق الذي يراه. ولو أنَّ إنسان أكره على ترك دينه فلا عبرة بإسلامه، لأنَّه لا إكراه في الدين، و المبدأ الذي أرساه ربنا تبارك وتعالى هو قوله )وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ( وقوله سبحانه )لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ(
الأمر الآخر: إن أعظم إنجازات وآثار الرسالة التي بعث بها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم والتي بذل جهده وحياته في الدعوة إليها إنما تحققت أعظم تلك النتائج من بعده صلى الله عليه وسلم. فانتشار أمر هذا الدين في أرجاء هذه الأرض شمالها وجنوبها وشرقها وغربها؛لم يكن في حياته صلى الله عليه وسلم بل إنَّ فتح بلاد الشام كان بعد غيابه صلى الله عليه وسلم عن الأرض وعن الناس، وأعظم النتائج التشريعية التي أغنت المكتبة الإسلامية بالاجتهادات وبالمعارف العلمية العظيمة كانت بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، مما يعني أنَّ ديننا لا يموت بموت الرجال، وأنَّه مرتبط بالرسالة لا بحياة الرسول نفسه، والرسالة تتمثل بالقرآن وبالسنة النبوية الشريفة.
والأمر الآخر هو: أنَّ صلتنا بالنبي صلى الله عليه وسلم باقية مستمرة من خلال التزامنا بهديه والسير على منهجه، وحياته فينا قائمة من خلال سيرته من خلال سنته من خلال توجيهاته من خلال إرشاداته من خلال الرجال الذين يقتفون أثره ويمضون على هديه من خلال الدعاة المتمسكين بالنهج الذي دعا إليه وبالسنة التي كان قد أمر بها «تركت فيكم أمرين لن تضلوا بعدي أبدا ما إن تمسكتم بهما، كتاب الله وسنتي» وفي رواية: «كتاب الله وعترتي» ولعلهما حديثان.
إذاً في هذه الصفحة الأخيرة من حياته صلى الله عليه وسلم يعزُّ على القلب أن يستحضر صورة غياب النبي صلى الله عليه وسلم عن أصحابه وهي صفحة مؤلمة، ما أصيب المسلمون في مصيبة في تاريخهم بأعظم من مصيبة غياب النبي صلى الله عليه وسلم ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغب؛ بل هو موجود فيما بيننا من خلال السيرة العطرة التي أبقاها فيما بيننا وحفظها الصحابة والتابعون وتابعوهم، وهي موجودة في حياة كل مسلم وفي مكتبة كل مسلم وفي شخصية كل مسلم. وكذلك من خلال القرآن الكريم الذي قال فيه ربنا تبارك وتعالى: )إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ( ومن خلال الحديث النبوي الشريف السنة المطهرة التي بذل علماؤنا الجهود المضنية في حفظها وصيانتها، حتى وصلت إلينا غضة طرية وكأنها تنبعث من بين ثنايا فم رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم غاب عنا جسداً؛ ولكنه موجود بيننا بهديه بإرشاداته بتوجيهاته بسيرته. وما علينا إلا أن نكون على هديه ومقتفين تعليماته وإرشاداته، حتى نلقاه غداً على الحوض ينتظرنا كما قال صلى الله عليه وسلم «وأنا فرطكم على الحوض».
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا حسن الاقتداء به صلى الله عليه وسلم، وأن ينصر دينه ويجمع شمل أمتنا على هديه، ويوفق الأمة للعودة الراشدة إلى سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين


تشغيل

صوتي