مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 24/08/2018

خطبة الدكتور توفيق البوطي: حجة الوداع


حجة الوداع
خطبة د. محمد توفيق رمضان البوطي
تاريخ الخطبة 24/8/2018
أمَّا بعد فيا أيُّها المسلمون؛ يقول ربنا جلَّ شأنه في كتابه الكريم: ) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ( وروى البخاريُّ عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: وقفَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يومَ النحر بين الجمرات في الحجة التي حجَّ وقال: «هذا يومُ الحجِّ الأكبر»، وروى مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مكثَ تسعَ سنين لم يحج، ثم أُذِنَ في الناس في العاشرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجٌّ، فَقَدِمَ المدينةَ بشرٌ كثيرٌ، كلُّهم يلتمس أنْ يأتمَّ برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعمل مثلَ عمله، فخرجنا معه، فأهَلَّ بالتوحيد –أي: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك - فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة، فوجد القُبة قد ضُربت له بنَمِرَة – نمرة: مكان فيه مسجد جزءٌ منه في عرفة، أي خارج حدود الحرم، وجزءٌ منه ضمن حدود منطقة مكة والحرم- فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس ي دخل وقت زوال، أمر بالقصواء – الدابة التي كان يركبها- فرُحِّلَت له، فأتى بطن الوادي، فخطب الناس وقال: «إنَّ دماءَكم وأموالَكم حرامٌ عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا كل شيءٍ مِن أمرِ الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإنَّ أول دمٍ أضع من دمائنا دمُ ابن ربيعة بن الحارث، كان مُسْتَرضَعاً في بادية بني سعد فقتلته هُذيل، وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع ربِانَا، ربا العباس بن عبد المطلب فإنَّه موضوع كلُّه. أيُّها الناس؛ إنَّ الشيطان قد يئس أن يُعبد بأرضكم هذه أبداً، ولكنَّه إن يُطَع في ما سوى ذلك، فإنَّه رضي مما تحقرون من أعمالكم، فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهنَّ بأمان الله واستحللتم فروجهنَّ بكلمة الله، ولكم عليهنَّ أن لا يُوطِئنَ فرُشَكم أحداً تكرهونه، فإن فعلنَ ذلك فاضربوهنَ ضرباً غير مبرح، ولهنَّ عليكم رزقُهنَ وكسوتهنَ بالمعروف. وقد تركت ما لن تضل بعده أبداً إن اعتصمتم به، كتابَ الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأنتم تُسألون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك بلغت وأديت ونصحت، فقال بأصبعه السبابة - أي أشار- يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: اللهم اشهد اللهم اشهد ثلاث مرات، ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصلِّ بينهما شيئا ثم ركب النبي صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف –أي صعيد عرفة-»
أيُّها المسلمون؛ لو ذهبت أشرح أو أعرض حديث جابرٍ في وصف حج النبي صلى الله عليه وسلم لطال بنا الحديث، ولما اتسع الوقت، ولكني أقف عند مشاهد ما ينبغي أن تغيب عن أذهاننا. ومن الضرورة بمكان أن نتأملها، ولا سيما عند خطبة الوداع.
الأمر الأول: الحج هو الركن الخامس من أركان الإسلام، وقد فرضه الله عز وجل مرة واحدة في العمر، وللمرء أن يتنفل. هذه العبادة عبادة لها جوانب متشعبة، فهي عبادة بدنية مالية نفسية، لها جوانب متعددة يجدر بالإنسان أن يكون حريصاً جداً على معرفة أحكامها؛ فثَمَةَ محظورات وأركان وواجبات وآداب، وهناك أخلاق أو هي دورة تدريبية مهمة على حسن الخلق. كونُ ربنا سبحانه وتعالى قد فرضها علينا في السنة مرة أي يكفي المسلم أن يؤديها مرة واحدة لتحقق أغراضها ومعانيها في نفسه بمرة واحدة، لما لها من جوانب مهمة ما ينبغي أن نذهل عنها.
كم من الناس يحلوا لهم أن يكرروا الحج مرات بعد مرات، مخلّفين وراءهم مسؤوليات كثيرة، ما هذا هو الذي أمرنا به. لا مانع من أن يتنفل الإنسان، ولكن بعد الفريضة هناك نوافل فما يُترك الفرض من أجل نافلة، ولا تهمل الواجبات الاجتماعية والواجبات الأسرية والواجبات الدعوية من أجل نافلة الحج، بعد أن أدى الإنسان حجة الإسلام. أمَّا إن كان هذا الإنسان ليست عنده أولويات أخرى فلا حرج، جميلٌ أن يحج الانسان أكثر من مرة. النبي صلى الله عليه وسلم لم يحج في السنة التاسعة، حج في السنة الأخيرة من حياته، حج مرة واحدة أشار سيدنا جابر إلى أنه حج مرة واحدة، واستخلف أبا بكر ليحج بالناس في السنة التاسعة.
طبعاً كنا قبل أن نُمنع من الحج بالصفة الرسمية وبالأساليب القانونية الصحيحة، كنا نُجري دورات لتدريس مناسك الحج دورتين في كل سنة للراغبين في أداء مناسك الحج، وكنا نشرح ذلك شرحاً مستفيضاً، نولي المسألة البيان اللازم لهذه العبادة.
كم إنسان يعود مأزوراً غير مأجور، يحمل أوزاراً بدل أن يعود بأجرٍ جزيل، لأنه حج فارتكب مخالفات ومحظورات وهو لا يشعر، وترك أركانا وهو لا يشعر، فقد رأيت من ترك طواف الإفاضة ورجع وهو يقول الحمد لله حججنا، ولكني تركت طواف الإفاضة لأننا لم نلحق!! أنت يا هذا لازلت محرماً وعليك أن تعود فتطوف طواف الإفاضة، وأنت في كل يوم آثم لأنه لم يتفقه ولأنه لم يكترث بتعلم دينه، لاحظوا كيف أن الصحابة كلهم اهتموا بأن يحجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ليأتموا به وليتعلموا منه أداء مناسكهم، وقد رُويت قصة حجة النبي صلى الله عليه وسلم عن عدد كبير من الصحابة كلٌ لفت النظر إلى جانب من الجوانب التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم أو نهى عنها أو أمر بها أو نحو ذلك.
الأمر الآخر: أقف عند خطبة حجة الوداع، خطبة الوداع لم تكن موجهةً إلى الصحابة الذين كانوا معه فقط، وهم يزيدون على مئة ألف. كانت موجهةً للأمة كلها إلى يومنا هذا من خلال أولئك الذين كانوا معه صلى الله عليه وسلم. فهو كان يخاطب الأمة عبر التاريخ القادم من بعده صلى الله عليه وسلم وهو يتصور الأجيال المتلاحقة من بعده، وما سوف يتعرضون له من أمور، فلفت النظر إلى مخاطر تلك الأمور، إنه حديث موجه إلى الأمة برمتها. اسمع الإعلان: «إنَّ دماءَكم وأموالَكم حرامٌ عليكم كحرمة يومكم هذا – يوم عرفة - في شهركم هذا – شهر ذي حجة - في بلدكم هذا -مكة الكرمة-» فيقول متعمم دجال في هذ عصر: ليمت ثلاثة ملايين، (وما لُه؟!) وليفتي دجاجلة العصر بسفك دماء الناس واغتصاب أموالهم، بينما يقول النبي صلى الله عليه وسلم «إنَّ دماءَكم وأموالَكم حرامٌ عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا» وليستبيح ذلك أناسٌ ألصقوا أسماءهم بالإسلام والإسلام منهم بريء، ينشرون الفتنة هنا وهناك ويستبيحون دماء الناس استباحوا دماء الشعب الجزائري عشر سنوات حتى قُتل منهم نصف مليون، وهو يعدون ذلك جهادا،ً وكانت وسيلة القتل عندهم الذبح. ثم استباحوا دماء الناس في بلدنا هذا، وباسم الاسلام يمزقون الإسلام ويحاربون الإسلام، فماذا جنوا؟ رماهم الزمن في مزبلة التاريخ، وبقي الحق ناصعاً، وبقيت كلمة الحق المناوئة لباطلهم تجلجل وتنتشر في الأرض تنشر الهدى والحق.
أما الربا فقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الخطبة من الربا، وبين أنه لا ربا بعد اليوم في الإسلام، ولا ربا أصلاً في الإسلام، وأسقط الربا كله فقال: «وأول ربا أضعه ربانا ربا عمي العباس" عملا بقوله تعالى )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ( ليقوم دجاجلة من عصرنا هذا فيفتوا بالربا، ويفتوا بأكل مال الربا، وبشراء البيوت بالربا. ومن أفتى بالربا فقد كفر؛ لأنه أنكر أمراً معلوماً من الدين بالضرورة، منصوصاً عليه في صريح كتاب الله عز وجل، أنا لا أقول فلان كافر، ولكني أقول: مَن استباح الربا وأفتى به فقد كفر.
أمر النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الخطبة بحسن معاملة المرأة، فلا يجوز أن يعتدى على حقها لا في ميراث ولا في أي حق من حقوقها، لا يجوز أن يعتدى على حقها، ولا يجوز أن تساء معاملتها، وقد عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأزواج وإلينا جميعاً بأن نحافظ على حق هذه المرأة وكرامتها وحسن معاملتها، عملاً بقوله تعالى: )وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ(
وأخيراً، نعم أعلن النبي صلى الله عليه وسلم انتهاء أسطورة الشرك في جزيرة العرب، ولكن الخطر فيما دون الشرك، سفك الدماء دون الشرك، وأكل أموال الناس بالباطل دون الشرك، والنظر إلى المحرمات دون الشرك، وقطيعة الرحم دون الشرك. الشيطان لم يعد له أمل في أن يعيد الشرك إلى جزيرة العرب، لكنه رضي في أن تزل أقدامنا في معاصٍ تفضي إلى ما هو كالشرك بل هي الكفر، لذلك قال صلى الله عليه وسلم: «ولكن رضي فيما دون ذلك»، وأشار في رواية إلى بعضها فقال: «التحريش بين الناس» الفتنة التي تنتشر بين الناس فيكره بعضهم بعضاً، هذه مما رضي الشيطان به دون الشرك، هذا يدعي الإسلام وذاك يدعي الإسلام ثم يقتل هذا ذاك، يدَّعون الإسلام ويستبيحون دماء الناس، النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار»، أما المعتدي؛ )وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا( هل ورد وعيد في كتاب الله أشد من هذا الوعيد؟ أما المعتدى عليه فلأنه كان يريد قتل أخيه. نعم رضي بغير الشرك مما نحقر من الأعمال، فلنحذر على ديننا من أن يتسرب إليه الفساد مما لا نعتقد أنه شرك ولكنه لعله أخطر من صريح الشرك.
أسأل الله أن يردنا إلى ديننا رداً جميلاً، وأن يُصلح الراعي والرعية، وأن يصلح الأمة حتى تغدو محط عناية الله ورحمته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين


تشغيل

صوتي